قبالة البحر
كانا يتبادلان اللكمات
الركل
شتائم العائلات وما يدور في الفراش
أو يُعتقَد أنه يحدث.
في شارع جانبي
كانت الريح أعتى
ورذاذ يترك على شفاهنا ملوحة
فنضحك،
نسمع ونضحك،
مترنحين من رصيف إلى آخر
كأننا مصابان بالدوار
الناس هنا كلهم مثلنا
صدقيني
مصابون بالجنون
ربما لأن البحر بعيد جدًا بطريقة مهينة
نسمع فقط بالأمواج
إننا نتخيل
وهذا ما يجعل أجسامنا حساسة للريح كالقلوع
وعظامنا تئن مثل صارية يضربها الموج
لا شيء حقيقي
وهذا ما كان يضحكنا
والملح على شفاهنا
أرأيت؟
نحن محبوسون في كتاب عن البحر
أما البحر نفسه فبعيد جدًا.
أظن محتاجين نعترف أكتر إن المكان هو المحدد الأكثر أهمية لشخصية وكلام وشِعر وفن الإنسان
الشخصية اللي بتتولد في ظرف زماني معين بتتأثر بالظرف ده طبعا لكنها بتتأثر بيه لوجودها في المكان أو بمعنى أصح بتتأثر بيه بدرجات بتتفاوت حسب قربه من المكان.. والعكس صحيح طبعا لكن مش بنفس القوة في رأيي.
إحنا ليه فقد معظمنا حاجات كتير أوي في حياتنا بعد ٢٥ يناير! لأننا هنا! دلوقت! بكل تعاقب الأحداث ده لأننا شوفناه على مدار السنين اللي فاتت في كل شوارع القاهرة (مثلا) في الميادين اللي بتحصل فيها الذكريات! في الشوارع اللي عيشنا فيها اللحظة بكل تفاصيلها.
هل التشويه العمراني اللي بيحصل للقاهرة ده (بافتراض إنه مقصود) كفيل بإنه يمحي سنين من ذاكرتنا؟ في ظني الإجابة آه، لأن طبيعي (البعيد عن العين بعيد عن القلب).
المشاركة في محو الذاكرة المكانية الجمعية لجيل مش بس بيحصل بتغيير الصورة الذهنية المتكررة اللي عاشها، بتغيير الشوارع والميادين لتسهيل حركة مرورية بدل من توسع أفقي حقيقي مبني على أسس علمية، لأ.
محو الذاكرة البصرية كمان مقرون بتشويه ذكرياتك مع المكان ده من خلال مثلا السينما والفن، نشر الفن الرديء والأدب الرديء (بغض النظر عن مستوى الحرية المسموح بيه لأن التجارب كتير في دول زينا وأكثر مننا انغلاقا كان قادر الفن فيها يبقي على الذاكرة البصرية وعلى مشاركة الإنسان العادي في أطروحات اجتماعية وسياسية وحتى رومانسية أو كوميدية) ده لأنه في الدول دي ماكانش مستهدف والمنع فيه ماكانش موجه للفكرة والصناعة نفسها بصفتها عامل اجتماعي مؤثر على شخصية وذكريات ومواقف الناس قد ما كان السيطرة موجهه بشكل رسمي للحفاظ على أيدولوجيات أو وجهات نظر قومية أو دينية معينة.
أما مثال مصر فهو بكل الأحوال مضطرب وعشوائي وصعب الوقوف على أسباب انهياره بالشكل المزري ده لأنه المنع والاستهداف حصل على مدار سنين فبقى سهل تختلط على اللي بيدور الأمور والعوامل مع بعضها.
بس تبقى علاقتنا بالمكان (سواء بتعيش فيه أو بتشوفه في ذاكرة الفن) أو بتستعيد اللحظة اللي حصلت فيه بأي شكل سواء سينما/ أدب/شعر/ رياضة هي العلاقة الأهم لنمو الشخصية الجمعية/ الوعي الجمعي ومفيش حاجة هتقرب من العامل ده باعتباره العامل الأهم لتداول اللحظة الزمانية بين الأجيال؟ يعني لو أنت مواليد النص الأخير من التمانينات والنص الأول التسعينات فأنت غالبا فاكر تفاصيل مش هيقدر يجمعها حد مواليد ٢٠٠٠ وكل ما هتعدي بالسنين كل ما ارتباط الآخر اللي اتولد بعدها بالذكرى دي من عمر البلد هتقل وهتختفي. لولا فقط إن اللي شاف وعاش اللحظة دي في المكان ده هيفضل فاكر وهيفضل في ايديه شوية فيديوهات متنتورة وصور مشوهة ووصف ممزق وغير مكتمل للأحداث على مدار السنين من البداية وقبلها وبعدها.
ودي ربما طبيعة التاريخ عموما لكن بما إني هنا بتكلم عن الواقع وعننا تحديدا دلوقت وبكرة مش عننا حتى كمان ٥٠ سنة (للي هيفضل موجود مننا) أو عن التاريخ هيتكلم إزاي كمان ١٠٠ سنة والمكان نفسه مش موجود واللي باقي منه قبيح ومشوه ومُضَلل سواء كان التشويه ده متعمد أو لأ في التضليل نفسه مقصود أكيد وخلق وجهات نظر متعددة باعتبار اللي حصل تشويه أو حلول عمرانية محتلفة يمكن أسوأ حاجة حصلت لوصف سكان البلد للبلد نفسها.
لأنها ببساطة مش موجودة (حاجة زي ما بتحكي الأساطير عن مدن أسطورية كانت موجودة حسب الحواديت وحسب التاريخ لكن ماحدش عارف مكانها فين بالظبط) واللي موجود منها واللي عايشين فيها صورة باهتة جدا لأن الناس نفسها مش هتقدر توصفها ولا توصف نفسها فيها.
مش القاهرة بس اللي نقدر نطبق عليها الكلام ده، اسكندرية كمان (باعتبارهم أكبد مدينتين لكن المثال ممتد) بقت مشوهة وناقصة وبتكلم هنا عن مواطن جمالها، والموطن الجمالي الأهم فيها (البحر) اللي تقدر بزيارة بسيطة تتأكد إن مش ده نفس المكان! رغم إن البحر زي ماهو ماراحش في حتة لكن اللي اتغير مش البحر اللي اتغير هي وجهة نظرنا للبحر، نظرتنا للبحر وطريقة تعاملنا معاه هي اللي اتغيرت واتشوهت.