Tumgik
tadkiraimania · 10 months
Text
Tumblr media
هذا المقال محاولة في فضح مؤامرة مشاريع العصرانيين التجديدية التي اقترنت بها ملابسات و مكائد غربية جعلت كثيرًا من المتدينين المسلمين الملتزمين يتخوفون من إطلاقها.
و لأنّ قوّة المسلمين تكمن في عقيدتهم وما يبنى عليها من أفكار بصفتها عقيدةً روحيّة شاملة لكل مناحي الحياة، و قادرة على بعث المسلمين من رمادهم.
فهاهي الضربات تصدر من بعض المستغربين من بيننا في الأمة، أرادوا بها طمس هويتنا الإسلامية و التشكيك في مقدساتنا و ثوابت ديننا و تراثنا الإسلامي، و زعزعة إيماننا و قناعاتنا الدينية التي لا يمكن التخلي عنها، تحت مسمى ” التجديد"، و فيهم سخر أديب العربية و الإسلام مصطفى صادق الرافعي رحمه الله، حين قال: "إنهم يريدون أن يجددوا الدين و اللغة و الشمس و القمر!".
Tumblr media
لقد زعم أصحاب هذا الـتيار أنهم يريدون التجديد لتنهض الأمة من كبوتها، و يريدون إعادة كتابة التاريخ الإســلامـــــي من خلال طرح العديد من الدراسات و الأبحاث المتعلقة بالتراث؛ إلا أنهم عمدوا إلى إحياء و تمجيد الاتجاهات الفكرية المنحرفة، و عرضها في إطار عقلاني تحت مظلة الانتماء إلى التراث الإسلامي.
لقد تجرؤوا على رفض النصوص الشرعية، و اتهموا من يرجع إليها بالجمود و الوثنية. و التجديد الذي يدعو إليه العصرانيون الجدد، كعبته أوروبا و أمريكا، و سدنته رجال التنصير و التهويد و الاستشراق، فهو نوع من تطوير الدين أو عصرنته. و من هنا شنوا حملة ضد ثوابت الإسلام و علومه المعيارية: الفقه و علوم الحديث، و أصول التفسير.
ثم قاموا بطرح العديد من الـشـعـــــارات الجـديـــدة التي تربط بين مفهومهم عن الإسلام و الماركسية، أو القومية و الاشتراكية، أو بين الإســـلام و الديمقراطية الغربية، سعيا منهم لنسف جهود الانطلاقة نحو صحوة الإسلام المباركة (تجديد الفكر الإسلامي- الأستاذ جمال سلطان).
في كتابه: الإسلام في عالم متغير يقول المفكر الإسلامي أبو الحسن الندوي: " باعتباري تابعًا لدين لا يمكنني أبدًا أن أقبل وضعاً يستجيب فيه الدين لكل تغير، لأن الدين ليست وظيفته أن يكون سجلًا لتغيرات الأزمنة. الدين يقر التغيير كحقيقة واقعية و يتقدم مع الحياة يدًا بيد، و لكنه ليس تابعًا للحياة، بل وظيفته أن يميز بين تغيير سليم و آخر غير سليم، و فيما إذا كان هذا التغيير نافعًا أو ضارًا".
و أشهر العصرانيين الذي حملوا لواء تحريف النص الإسلامي (القرآن و السنة) هم في مصر: نصر حامد أبو زيد، و جمال البنا، و حسن حنفي، و في السودان: محمود محمد طه، و حسن الترابي، و في الشام: محمد شحرور، و الطيب تيزيني، و في تونس: عبد المجيد الشرفي، و محمد الشرفي، و في المغرب: محمد عابد الجابري، و في فرنسا: محمد أركون (و هو جزائري الأصل). و تبعهم الكتَّاب في الخليج العربي و المغرب العربي، و في أنحاء العالَم، حتى لا يكاد يخلو منهم بلد.
لقد نجح التغريب و الاستلاب الحضاري في اختراق فضائنا الفكري الإسلامي، و انطلق نفر من المتغربين تحت غطاء العصرانية مدججين بالمناهج الوضعية الغربية، يبشرون بالمقولات و التصورات الحداثية التي قلدوا فيها أسلافهم من فلاسفة التنوير الغربي، في تَحَدٍ شديد لثوابت الأمة، و خارجين عن نسقها الإيماني، بإقامة القطيعة المعرفية مع ثوابت الإسلام (مستقبلنا بين التجديد الإسلامي و الحداثة الغربية- المفكر الإسلامي محمد عمارة).
Tumblr media
في البداية، نأخذ فكرة سريعة عن شخصية صاحب القراءة المعاصرة بالصوت و الصورة:
من الهندسة إلى تأويل القرآن
ولد محمد أديب شحرور في مدينة دمشق عام 1938 (توفي عام 2019)، في عائلة محافظة و كان أبوه تلميذا للشيخ الألباني رحمه الله، كان تعليمه في دمشق، حصل على دبلوم الهندسة المدنية عام 1964 في الاتحاد السوفياتي، ثم حصل على شهادةالدكتوراه من الجامعة الإيرلندية عام 1972 في هندسة التربة.
بدأت اهتمامات محمد شحرور بتأويل القرآن في عام 1970، لما كان في إيرلندا و هو بصدد إعداد أطروحته للدكتوراه، التي لم تكن في العلوم الإنسانية أصلاً، و استمر هذا الاهتمام حتى عام 1990 حين أصدر أول كتاب له في هذا الشأن و هو من أضخم كتب التحريف المعاصر، و من أكثرها إثارة بعنوان: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، و يعد هذا الكتاب الضخم أهم كتاب قدم فيه محمد شحرور نظريته المزعومة في التأويل.
المهندس محمد شحرور سواء في كتبه أو مقالاته أو حلقاته المرئية التي يظهر فيها عبر القنوات: يعمل على تحريف القرآن و تشويه الإسلام و تحليل المحرمات، و نشر الفساد الاجتماعي و الاقتصادي و التربوي، لأجل تقديم الإسلام بصورة تتناسب مع التصور العصري الغربي.
قال محمد شحرور: أفكاري إنما هي وليدة هزيمة حرب 1967، و ذلك عندما أرجع خطباء المساجد الهزيمة لتعرّي نساء العرب، فيما أرجعها الشيوعيون لصوم الناس شهر رمضان، فكان لا بد من تجديد الفكر العربي و الاسلامي، على حد قوله ( حوار أجرته معه قناة العربية و نشر في: 27 يناير 2008).
فكتاب محمد شحرور: الكتاب و القرآن، الذي بلغت شهرته آفاق العالم، امتداد للمشروع الليبرالي الذي بدأه محمد أركون و زيد أبو النصر كما صرح هو بذلك ، وهو إخراج القرآن و تفسيره وفق الفكر الليبرالي و علمنة الدين. و كتابه هذا حول الاسلام و القرآن يثير جدلا واسعا منذ أواسط التسعينيات و حتى اليوم.
فمشروعه الفكري الذي يغطيه بمسحة الإصلاح الديني و تجديد الخطاب الإسلامي ينصب على أن الإنسان هو مركز الكون و محوره، يعتمد اعتماداً كلياً على عقله، فلا يهيمن عليه أحد سواء كان رباً أو شريعة أو رسولاً، و الدعوة إلى قطع صلة هذا الإنسان بالله تعالى فيما يتعلق بالحلال و الحرام، و العمل على إلغاء هذه المفاهيم من حياة المسلمين، ليصبح بدلا عنها: ( الحق و لا الحق، والحرية و عدم الحرية، و مركزية الإنسان، فلا يصبح للدين أي سلطة عليه، بل يتحرر من كل ذلك)، و أكد محمد شحرور أن الوصول إلى هذه المرحلة و هي: ( إلغاء الحلال و الحرام و القطيعة مع الله تعالى "و يعبر عنه باللاهوت " و كذلك القطيعة مع الدين ).
و القطيعة مع الدين في نظره لابد أن تسبقها مرحلة الإصلاح الديني، و لابد من القطيعة مع جميع كتب التراث الإسلامي، و تغيير الثقافة الإسلامية لأنها مأخودة من كتب التراث الإسلامي.
يخدع شحرور الناس أنه يفسر القرآن الكريم بلغة عربية معاصرة، و علماء اللغة العربية المختصين في عصرنا الحاضر أوضحوا أن شحرور جاهل في اللغة العربية و أساليبها و جاهل في العلوم الشرعية، فكيف نأخذ منه و نعتمد عليه في أمر يخالف فيه القرآن نفسه و الأحاديث النبوية الصحيحة.
منهج شحرور
يقول شحرور إنّ القرآن رسالة عالمية، و يقصد بذلك أنّه يجب أن يلائم كل الشعوب كالياباني و الأمريكي. و يقول إنه رسالة خاتمة، فيجب أن يكون النصّ مواكبا لكل التطوّرات. و بدلا من أن يلجأ شحرور إلى القرآن لاستخلاص مفاهيمه و قيمه و أحكامه بمعزل عن تأثير القيم العلمانية المعاصرة، يقوم بعملية عكسية، و هي أنه يجعل القرآن تابعًا للقيم العلمانية المعاصرة، و يقوم بليّ أعناق النصوص ليخرج بمفاهيم تتلاءم مع هذه القيم. فالضابط الوحيد عنده في تفسير القرآن هو "الجذر اللغوي"، و عندما يريد تفسير كلمة معينة في القرآن يلجأ إلى القواميس يبحث فيها عن معنى يجده أكثر توافقا مع القيم العلمانية المعاصرة!
و أدرج لكم فيما يلي فيضا من غيض من العجائب التي اكتشفها شحرور و يدعو اليها في قراءته المعاصرة للقرآن:
1- يدعو إلى إلغاء عبارة ان دين الدولة هو الإسلام من دساتير اي دولة.... لان الإسلام مفهوم عالمي بينما الدولة مفهوم محلي.
2- يقول في الميراث: نصيب الذكر يتساوى مع نصيب الأنثى، و أن الفقهاء الذين أجمعوا على أن الذكر يرث ضعف الأنثى، قد أخطأوا، لأن ذلك المعنى لا يستقيم إلا لو كان نص الآية هو "للذكر مِثْلا حظ الأنثى"، و هو ما لم يرد إطلاقاً في النص المقدس.
3- أحلَّ الزنا بين الرجل و المرأة بالتراضي إذا كانا غير متزوجين باسم ملك اليمين (في الزواج المسيار الرجل ملك يمين المرأة، و في زواج المتعة المرأة ملك يمين الرجل)، فأباح المساكنة بينهما و لو لم يكن بينهما عقد زواج بشروطه الشرعية.
4- يبيح للمرأة العازبة أن تطلب ممارسة الجنس مع اي شخص إذا رغبت في الولد دون عقد زواج؛ فيكفي موافقة الطرفين و رضاهما بذلك.
5- لا يقول بتحريم الخمرة ، و أن مجرد الأمر بالاجتناب لا يدل على التحريم.
6- خيّـر المسلم المكلف المستطيع بين صيام رمضان أو عدم صيامه مع الفدية.
7- أباح للمرأة ان تخرج شبه عارية، فقط تغطي الجيوب الاربع: تحت إبطيها و بين فخذيها، و يجوز كشف شعرها و أكتافها و فخذيها و ساقيها:
فأمام الأجانب (غير المحارم) للمرأة أن تظهر كل جسدها باستثناء الجيوب، و ما عـدا ذلك فليس بعورة علمًا بأن الآية الكريمة ( يدنين عليهن من جلابيبهن )[الأحزاب:59] هي للتعليم و ليست للتشريع.
أما أمام المحارم، فالمرأة ليس لها عورة على الإطلاق، فهي تجلس معهم كما خلقها الله عارية من كل شيء.
بل أكد أن خروج المرأة بالمايوه على الشاطئ أمر تعارفت عليه شعوب الأرض بفطرتها فلا يعتبر منكراً.
8- يلغي دور السنة النبوية في التشريع ، و يعتبر كل التشريعات و الأحكام التي طبقها النبي صلى الله عليه و سلم كانت خاصة بعصره، و لا تصلح للتطبيق بعد وفاته.
9- و يعتبر أن كل أمم الأرض بكل ديانتها مهما كانت عقائدهم مؤمنينن لا فرق بينهم و بين المسلمين، و كلها ناجية في القيامة و ستدخل الجنة، و أن الأحاديث التي تبين أركان الإسلام و أركان الإيمان كلها مكذوبة، لأنها تؤدي إلى القول بأن أهل الديانات الأخرى ليسوا مسلمين لأنهم لا يقيمون هذه الأركان و لا يعتقدون ما جاء فيها من أركان الإيمان.
10- إعتبر أن الربا الذي يترتب على إقراض البنوك لذوي الفعاليات الاقتصادية، الصناعية و التجارية و نحوها جائز، بشرط ألا يزيد على ضعف رأس المال في السنة الواحدة.
11- يعتبر الإسلام الذي كان معروفاً أيام النبي صلى الله عليه و سلم حسب زعمه و منظوره الليبرالي: ليس هو الإسلام الذي تسير عليه الأمة الإسلامية عبر عصورها، بل هو اسلام اخترعه الإمام الشافعي و من بعده من العلماء في العصر العباسي.
12- و ي��ول أيضا: إن مشكلتنا تكمن في كتاب من مئتي صفحة – يعني به: كتاب الرسالة للإمام الشافعي رحمه الله – إذا تجاوزناها؛ فإن مشكلتنا كلها مع التراث ستحل تلقائيا”، حتى يقول: “أنا كافر بما جاء به محمد بن إدريس الشافعي".
12- يقول في القدر بأنّ الله يعلم جميع الاحتمالات الممكنة التي من الممكن أن تقع و أنّ الإنسان حرّ في اختياره لإحدى هذه الاحتمالات و بالتالي يكون الإنسان حراّ. كما أنّه ينفي عِلم الله المسبق باختيار الإنسان لإحدى الاحتمالات. إلا أنه يؤمن بالدّعاء و إمكانية استجابة الله للدعاء و تدخله في مجريات الكون.
13- القضاء فهو بالنسبة له مُناط بالإنسان حيث أنّ الإنسان هو من يقضي من خلال تعامله مع المقدّرات (القوانين). مثال: (الله وضع مقدّرات (قوانين) نزول المطر، الإنسان يستطيع إنزال المطر (القضاء) عن طريق معرفته للقوانين الحاكمة لعملية نزول المطر، فالعلماء عندما يقومون بعملية استمطار صناعي يكونون قضاة و يكون الله مقدّرا (واضعا للقوانين فقط).
14- فيما يتعلق بالحدود المذكورة في القرآن مثل قطع يد السارق وقتل القاتل فإنه يسميها حدودا عُليا، بمعنى أنه من الممكن الاستغناء عنها و سنّ أحكام أخرى تتوافق مع تغيّر الظروف و العقل الإنساني و الأعراف العالمية عن طريق عرضها على التصويت.
15- يحصر المحرمات في أربعة عشر مسألة هي: الشرك بالله و عقوق الوالدين و قتل الأولاد خشية إملاق و الاقتراب من الفواحش (الزنا و اللواط و السفاح) و قتل النفس و أكل مال اليتيم و الغش و شهادة الزور و نقض العهد و أكل الميتة و الدم و لحم الخنزير و الاستقسام بالأزلام و الإثم و البغي بغير حق و التقوّل على الله و نكاح المحارم و الرّبا. و يجعل غير ذلك من المسائل خاضعا لإجماع الناس (عن طريق الديمقراطية و البرلمانات) مع الأخذ برأي علماء الطبيعة (في مجالات الاجتماع، و الإحصاء، و الاقتصاد…الخ) و ليس علماء الدين و مؤسسات الإفتاء. و هذا الموقف يعطي المسلمين حرية أكثر في حياتهم و تعاملاتهم مع الناس.
16- فيما يتعلق بالشريعة و تطبيقها فإنّ شحرور يتخلص من هذه المسألة الشائكة بالقول بأنّ آيات الأحكام في القرآن قابلة لإعادة النظر فيها و بأنّ ما كان صالحا لزمن ما لا يصلح لزمن آخر. بل يزيد على ذلك و يقول إنّ حاكمية الله المطلقة لا وجود لها إلا عند الله، و أن محاولات تطبيقها ليست إلا نشاطات إنسانية قد تصيب و قد تخطئ، و أن لا دخل لحاكمية الله المطلقة بها، و أنّ كل من يدّعي تطبيقها هو مُضلل و مُفسد يريد التغطية على القمع و مصادرة الحريات.
و لقد سبقَه في التحريف و الضلال أسلافه من الفِرق الهالكة، و نذكر بعضًا ممَّا بدَّلوه و و حرفوه:
• القرامطة الباطنية: فسَّروا الصيامَ بكَتْم الأسرار، و الحجَّ بالسفر إلى شيخهم، و الجَنَّةَ بالتمتُّع بالملذات في الدنيا، و نحوه.
• المعتزلة: قالوا في قوله تعالى: { وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء:164]: كلَّمه؛ أي: جَرَحه بمخالب الحِكمة.
• الصوفية: سُئِل بعضهم عن الحُجَّة في الرقص، فقال: قوله تعالى: { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا } [الزلزلة:1].
• الرافضة: قالوا في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } [البقرة:67] قالوا: عائشة.
و هؤلاء القوم ( القدامى و العصرانيون بعدهم) يرفعون شعار: "النص مقدَّس، و التأويل حرّ"، و حينئذٍ يسقط فَهْم السلف، و أقوال الصحابة؛ إذ لا حاجةَ لها أمام ما يُريده هؤلاء من فتْح الباب للخَوْض في النصوص و مدلولاتها لكلِّ أحد بحسب أحواله و ضلاله و أهوائه ( محاضرة الفهم الجديد للنصوص- الشيخ محمد بن صالح المنجد).
قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] و الإلحاد هنا كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما هو: أن يوضع الكلام في غير موضعه (تفسير الطبري).
Tumblr media
كاتب التفاعل المعاصر
الدكتور صهيب السقار خريج جامعة بغداد في أصول الدين عمل عضوا في هيئة التدريس بجامعة بنغازي في ليبيا، و مديرا للوقف العربي العلمي باسطانبول في تركيا، و يعمل مستشارا لمؤسسة رواسخ الكويتية، و أيضا مستشارا لمشروع النبراس الكويتي. له عدة كتب قيمة في سلسلة القراءة المعاصرة نذكر منها: كتاب جدلية الحجاب؛ الذي قال فيه النقاد إنه كتاب لم يؤلف في موضوعه مثله في التاريخ كله.
بعد أكثر من ثلاثين عاماً على صدور كتاب محمد شحرور: الكتاب و القرآن رؤية جديدة (صدر عام 1990)، يقدم الدكتور صهيب السقار دراسة جديدة في فكر شحرور في كتابه: القراءة المعاصرة في القراءة المعاصرة بأدواتها، حيث يرى أن القراءة المعاصرة لا تُقدّم لنا نقداً لأدلة فرعية فحسب، و لا تُقدّم اجتهاداً في مسألة فقهية، بل، و حسب تصريح شحرور، بأنه يطرح بديلاً لم يسبقه إليه أحد. و هذا البديل يخترق التراث بجميع مذاهبه الفقهية و الفكرية، و ينسخه و لا يجد فيه مصداقية و لا حكماً مطابقاً للمصحف.
و يقول أيضا في مقدمة الكتاب: جهود العلماء السابقين في نقد القراءة المعاصرة سبقت هذا الانتشار الكبير الذي تحقق، بعد توصية مؤسسات دولية (راند و المجلس الاسماعيلي الباطني في لندن و غيرها من المؤسسات) بدعم شحرور شخصياً مقترحة إسمه للترويج للاسلام الديمقراطي الحداثي، و بعد المساحات الإعلامية التي استغلها، و سبقت أيضاً وصول كتابه الأول إلى خمس طبعات، و صدور عشرة كتب أخرى، و سبقت فوزه بالجوائز و استضافاته في الجامعات و المعاهد العربية و الغربية.
و يضيف قائلا: لا نسلم وصف القراءة المعاصرة بالرماد و الموات. فلا تزال مخرجات القراءة المعاصرة -التي يتم تصنيفها في خانة التيار اللاديني المتستر- بارزة في كثير من مكتبات العالم العربي و الغربي. و لا تزال أرقام مشاهدات مقاطع القراءة المعاصرة في ارتفاع. و قد وصل عدد منها إلى 400 ألف مشاهدة على قناته الرسمية.
و في ختام المقدمة يقول: لا يمكننا أن نتجاهل تحديات شحرور لما يسميه المؤسسة الدينية و اتهامها بالعجز عن نقده. و لا يمكننا أن نتجاهل استثماره للأخطاء المنهجية التي وقعت فيها ردود منتقديه من المهندسين و المحامين و الأدباء.
لهذا كله كان لزاماً أن نقرأ القراءة المعاصرة بأدواتها. و أن نسد هذه الثغرة و نحن ندرك أخطارها و سعة انتشارها في طبقة من طبقات المسلمين العصريين.
تفكيك القراءة المعاصرة
يرى الدكتور صهيب أن شحرور يعتبر نفسه مجددا تجاوز ما وقف عليه كبار النقاد العصرانيين المجددين للخطاب الديني مثل حسن حنفي و محمد أركون و ابو حامد نصر و غيرهم، فقد وقفوا عند النقد أما هو فقد قدم بديلا عن تراث الأمة كلها في التفسير و الفقه و الحديث.
تفكيك نفي الترادف
و يؤكد الدكتور صهيب أن جوهر القراءة المعاصرة و ركنها الأعظم عند شحرور هو التفريق بين الكتاب و القرآن، و طبعا هذا عنوان كتابه: الكتاب و القرآن رؤية جديدة، في هذا الكتاب إكتشف شحرور أن كلام الله يشتمل على كتابين: أحدهما يسميه القرآن و هو آيات الغيب، و الثاني يسميه الكتاب و أحيانا الكتاب الأم يحوي آيات الأحكام و يسميها المحكمات.
و بعد اكتشافه المرعب -كما يقول- أعاد النظر في دين الاسلام و أقام تصورا جديدا في قراءته المعاصرة، و هدم التصور الذي عرفته الأمة كلها في دين الإسلام، و في التصور الجديد كل أهل الأرض مسلمون حتى المجوسي و البوذي الذي لا يؤمن أصلا بالنبوة و لا بالآخرة و لا يرضى بالاسلام دينا هو مسلم رغم أنفه في القراءة المعاصرة.
هذا هو صلب القراءة المعاصرة و قاعدة مخرجات تطبيقاتها و نظرياتها و أصولها و فروعها. جميع هذه الأصول و جميع هذه الفروع تقوم على نفي الترادف، بل هذه الأصول تقف على توهمه في نفي الترادف.
يقول الدكتور صهيب إن شحرور في نفي الترادف توهم أن تعدد الاسماء لابد أن يدل على تعدد المسميات، لم يدرك أن العطف ربما يقتضي التغاير لكن في المفهوم دون الذوات، مثلا عندما وقف على قوله تعالى: { الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَ قُرْآنٍ مُّبِينٍ } [الحجر:1] قال العطف يقتضي التغاير و هذا التغاير لابد ان يكون متحققا في الذوات، فهناك ذات و آيات إسمها الكتاب و هناك ذات و آيات إسمها القرآن.
إن شحرور جعل نفي الترادف قاعدة و رأس هرم أقام عليها بنيانه كله في قراءته المعاصرة و لم يُعَرِفْ نفي الترادف.
علماؤنا في كتب الاصطلاحات يقولون: الترادف هو الاتحاد في المفهوم لا في الذات، فالممنوع إذن هو اتحاد الألفاظ في مفهومها لا بإطلاقها على ذات واحدة.
يقول الدكتور صهيب متابعا نحن مع شحرور في نفي الترادف و أن العطف يقتضي التغاير و لكن هذا التغاير ليس من شرطه تعدد الذوات.فالقرآن ليس مرادفا للكتاب، فهناك تغاير في مفهوم القرآن و مفهوم الكتاب، و نفي الترادف لا يوجب أن نقول هناك تعدد في الذوات فنقول هناك آيات إسمها الكتاب و هناك آيات أخرى إسمها القرآن، بل يكفي في نفي الترادف أن ننفي الاتحاد بين مفهوم الكتاب و مفهوم القرآن، هناك تباين؛ هناك نفي للترادف، لكن نقول هناك قرآن مكتوب و قرآن مقروء، و الأية الواحدة يمكن أن نكتبها و يمكن أن نقرأها و هذا الاستعمال هو الاستعمال الذي ثبت في القرآن الكريم أيضا، و الله سبحانه أطلق الإسمين: القرآن و الكتاب على شيء واحد في القرآن الكريم في قوله تعالى: { وَ إِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الأحقاق:29-30] فهذا الذي سمعوه هو شيء واحد: فهو قرآن و كتاب.
يقول الدكتور صهيب: و بذلك ينهار نظام قراءة شحرور "المعاصرة" للقرآن بانهيار نظريته في نفي الترادف، و من ثم تنهار كل المقولات و النظريات التي تفرعت عنها.
خصومة شحرور مع القرآن
إن نظرية شحرور في تقسيم القرآن إلى كتاب و قرآن، و أنه يوجد بينهما فرق جوهري، هدفها تمرير افتراءاته على كتاب الله تعالى المنزل على رسوله، كما أراد له أساتذته الملاحدة الماركسيون، و القرامطة الباطنيون الإباحيون.
يرى شحرور في كتابه: الكتاب و القرآن قراءة معاصرة؛ أن القرآن لابد أن يكون قابلا للتأويل، و تأويله يجب أن يكون متحركا وفق كل أمة و كل عصر و كل زمان.
و في الحقيقة: التأويل المتحرك بمعاني القرآن دون الوقوف عند ثبات نصه و دلالته، هو تبديل و إفراغ النص من مضمونه، ليصبح منطلقا للأهواء و الاعراف و التقاليد.
من الذي يؤول آيات الكتاب؟
يقول شحرور: أما قوله { و ما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم } فهو أن القرآن حقيقة مطلقة فتأويله الكامل لا يكون إلا من قبل الله المطلق، و النبي صلى الله عليه و سلم لا يعلم التأويل الكامل للقرآن بكل تفاصيله؛ لأنه يصبح شريكا لله في مطلق المعرفة. أما معرفة التأويل المتدرج المرحلي فهو من قبل الراسخين في العلم كلهم مجتمعين لا فرادى. و الراسخون في العلم هم مجموعة كبار الفلاسفة و علماء الطبيعة و أصل الانسان و أصل الكون و علماء الفضاء و كبار علماء التاريخ مجتمعين (أمثال كانت و هيجل و داروين و لينين و غيرهم).
أما علماء الفقه و الحديث و التفسير فلا نصيب لهم في هذا التأويل لأنهم في نظر شحرور ليسوا من الراسخين في العلم، فموقفهم في القرآن مثل موقف العامة تماما!
لماذا يا شحرور؟
يقول شحرور: كل تفاسير القرآن تراث يحمل طابع الفهم المرحلي النسبي.
و يقول كذلك: لسنا عبيدا للسلف، فأنا لا أقبل أن أجلس عند أقدام ابن عباس أو أقدام الشافعي.
إن المشكلة ليست مسألة خصومة بين شحرور و الفقهاء، بل خصومته مع كتاب الله نفسه، فهو يدعو إلى اعتبار القرآن نصا تاريخيا موضوعيا نزل في سياق معين و لمجتمع معين؛ مما يعني أن القرآن يخضع للتطور و التغيير طبقا لنظرية التطور في المنهج الماركسي؛ فهو يفسر القرآن و آياته بمنظار نظرية المعرفة عند الماركسيين و كان هدفه الأقصى هو العدوان على النصوص الدينية الربانية، و إلغاء معانيها المشتملة على العقائد و الأخلاق و الشرائع و الأخبار و الأحكام الربانية إلغاء كليًا، أو جزئيًا.
و في الحقيقة إن تقييد القرآن بسياقه التاريخي يفقده هو و الإسلام صفة الشمول التي جعلها الله من ثوابت الدين في قوله تعالى: { وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ } [سبأ:28] (شحرور مفسدا لا مفسرا- فوزي بن عبد الصمد فطاني باحث بمركز سلف للبحوث و الدراسات).
Tumblr media
فرض نسخة مشوهة للإسلام
لقد أدرك أعداء الإسلام في عصرنا أن المسلمين لن يقبلوا أخذ دينهم و تفسير كلام ربهم منهم؛ فقاموا بتسليم الراية لبعض تلاميذهم أو أذنابهم المتأثرين بهم من المسلمين أو ممن يحملون أسماء المسلمين.
صدر تقرير عن مؤسسة راند Rand ( و هي مؤسسة تعتبر من أهم مراكز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية على الإطلاق، و هي الذراع البحثي شبه الرسمي للإدارة الأمريكية و للبنتاغون بوجه خاص) في كتاب بعنوان: الإسلام الديمقراطي المدني، للكاتبة شيرين بينارد ( مؤلفة يهودية أمريكية من أصل نمساوي، روائية و كاتبة نسوية و باحثة متخصصة في العلوم السياسية، و هي أيضا رئيسة مؤسسة راند).
جاء في مقدمة الكتاب: "و في إطار الجهود الأمريكية لإعادة رسم الخريطة السياسية و الاقتصادية للعالم الإسلامي بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 صدر هذا الكتاب- التقرير. و الدراسة تحاول تحديد ملامح الاستراتيجية التي يتعين على الإدارة الأمريكية تبنيها من أجل إعادة "بناء الدين الإسلامي": لدمجه في " المنظومة الديمقراطية" الغربية، و هي استراتيجية تُبْنَى أساسا على قطع موارد " الأصوليين" و دعم و تمويل الحداثيين و العلمانيين".
تؤكد مؤسسة راند على ضرورة تقوية "المجددين" و توفير الدعم لهم، و وضعت لهذه الرغبة برنامجا عمليا، وفق خطوات محددة، و هي بعد جمعها و ترتيبها:
1- تقوية رؤى "المجددين"، و تعزيز منبر لهم؛ يستطيعون من خلاله التعبير عن آرائهم و نشرها، و جعل آرائهم في متناول الجميع لتنافس آراء التقليديين و ��لأصوليين.
2- يجب أن يظهروا -دون التقليديين- أمام الجمهور المسلم أنهم صورة اسلام المعاصر.
3- تحديد أسماء العلماء "المجددين" المنتسبين لإدارة موقع إلكتروني للإفتاء، و إبداء الآراء الشرعية العصرية.
[ملاحظة: هؤلاء العلماء هم: خالد أبو الفضل، و محمد شحرور (الذي جعلت منه مفكرا عقلانيا جديرا بالإعجاب)، و شريف ماردين، و فتح الله كولن، و بسام طيبي؛ و كلهم متفقون على تقديس العقل على حساب النص الشرعي و خدمة مصالح الغرب].
4- تشجيعهم على كتابة الكتب الدراسية، و وضع المناهج التعليمية.
5- تشجيعهم على الكتابة العامة الجمهور و الشباب.
6- نشر كتبهم بأسعار مدعومة، لتكون متوفرة، و منافسة لكتب الأصوليين.
7- استخدام الإعلام لنشر أفكار المجددين و ممارساتهم.
8- تكوين قيادة تجديدية جديدة، و تنمية خصائص الشجاعة فيهم؛ بجعلهم المدافعين عن الحقوق المدنية، و ليس سواهم.
9- إشراك "المجددين" في الفعاليات السياسية.
10- إبراز موقف المجددين على أنه هو "الثقافة البديلة" للثقافة السائدة، أي أنه هو الحل لأزمات العالم الإسلامي.
بهذه المقترحات اللامحدودة أعطت مؤسسة راند دعما مطلقا و ثقة تامة للعصرانيين (المجددين) باعتبارهم خيارا استراتيجيا، و تيارا غربيا يعمل وسط العالم الإسلامي، فهو طليعة تيار التجديد الإسلامي الذي سيتولى تطوير الإسلام على الشكل الذي يريده الغرب.
و في البند الأخير من التقرير تؤكد مؤسسة راند: "و أخيرا معارضة الأصوليين معارضة قوية".
فالذي يحكم المفهوم هو قاعدة المصلحة الغربية، فالغرب مستعد لدعم الأصولية (بمفهومه) إذا وجد فيها يوما مصلحة له.
و الملاحظ أن مفهوم "الأصولية" لا وجود له في الإسلام، و ما زعمه التقرير من أن الأصوليين المسلمين هم من يرفض قيم الديمقراطية و الحضارة الغربية و يتطلعون إلى إقامة دولة إسلامية متشددة. و بمعنى آخر الأصولي هو كل من يسير من المسلمين على غير هوى الغرب و مصلحته.
إن ما تعنيه مؤسسة راند بمعارضة الأصوليين، هو القيام بانتزاع كل ما قدمته للعصرانيين "المجددين" من يد الأصوليين و خصوصا التعليم و الإعلام؛ و هذه الحرب، هي في حقيقتها، موجهة إلى عقول المسلمين جميعا، فهي حرب فكرية كما صرحت بذلك راند في تقريرها لعام 2007، إذ قالت: "إن الصراع الموجود حاليا في معظم أنحاء العالم الإسلامي عبارة عن حرب أفكار".
الإسلام دين الحق
إن تشويه الإسلام الدين الحق هو عقيدة شيطانية لم يقم بها الغرب وحده، و إنما باتت في عقر بيت المسلمين أنفسهم، و بأيد إسلامية.
و من وسط هذه الحرب الفكرية، و هذا الإعلام الضاري، و هذه التقارير الماكرة، ينبع التفاؤل و الأمل، و من خلال التأمل في مكر الغرب العملي، يمكن استباط ثلاث ميزات مهمة لواقع المسلمين اليوم، كلها يدعو إلى التفاؤل بغد مشرق إن شاء الله:
الميزة الأولى:
أن الجانب الفكري في العالم الإسلامي اليوم بصموده القوي لا يزال يشكل معضلة بالنسبة للغرب، رغم نجاح الغرب عسكريا و سياسيا و اقتصاديا في العالم الإسلامي. فقد فشل الغرب في تغيير فكر المسلمين و انتزاع الإسلام من عقولهم و قلوبهم، و لا أدل على ذلك من هذا السيل العارم من تقارير مؤسسة راند التى أفنت كتبتها و فكرها و مكرها و أموالها في استهداف الإسلام.
الميزة الثانية:
أنه بالرغم من سيطرة أمريكا في الجوانب العسكرية و السياسية و الاقتصادية، و سطوتها على العالم الإسلامي، إلا أنها عجزت عن تكوين قاعدة فكرية تابعة لها داخل المجتمع الإسلامي، و باعتراف راند أن "المجددين" الذين تعول عليهم ليس لهم منابر و لا قاعدة شعبية و لا مصادر دعم.
و هذا الأمر يجعلنا نتفاءل أيضا و نقول: إنه بالرغم من الاختلافات الكثيرة بين المسلمين في العالم الإسلامي، فهم لا يزالون يشكلون وحدة فكرية إسلامية في وجه الغرب الذي يسعى إلى تفكيك و اختراق هذه الوحدة، و ذلك عن طريق إستمالة المعتدلين (المجددين) و دعمهم.
و تقرير "بناء شبكات مسلمة معتدلة" (راند 2007) خير شاهد على تلك المحاولات.
الميزة الثالثة:
يقول الباحث ديفيد كابلان: " و لأن أمريكا ملوثة إشعاعيا في العالم اسلامي (بمعنى مكروهة يتم تجنبها) فإن خطة الوصول لكل العالم الإسلامي تقتضي العمل من خلال أطراف ثالثة، مثل الدول الإسلامية المعتدلة و المؤسسات و الجماعات الإصلاحية، من أجل الترويج للقيم المشتركة كالديمقراطية و حقوق المرأة و التسامح".
و هذا الكلام يؤكد ما تم ذكره في الميزة الثانية، و يؤكد أيضا على كره الشعوب الإسلامية للسياسات الأمريكية اتجاه العالم الإسلامي. فقد شاهد العالم أجمع احتجاجات الشعوب الإسلامية من إندونيسيا إلى المغرب على احتلال أفغانستان عام 1979، و العراق عام 2003، و على حصار غزة عام 2007 و قتل أهلها المدعوم علنا من أمريكا و الغرب، و هذا لا يؤكد فقط على الوحدة الفكرية الإسلامية التي لا زالت تربط المسلمين؛ و إنما تؤكد على وحدة الكره الإسلامي (على مستوى الشعوب) لأمريكا و الغرب.
فالأمة الإسلامية لا زالت تشعر بالألم؛ ألم الجسد الواحد الذي أخبر به الرسول ﷺ في قوله: ( مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى ) [رواه النعمان بن بشير- أخرجه مسلم].
فهذه الميزات الثلاث في واقع المسلمين اليوم تبعث على التفاؤل، و على الثقة بأن الأمة الإسلامية لا يفصلها عن سنام الوحدة العامة و التفوق و الازدهار الشيء الكثير، و لعل الله أن يهيء لهذه الأمة من أمرها رشدا؛ { وَ اللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَ لَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [يوسف:21].
إن الحق بعد بعثة نبينا باق و منصور إلى آخر الزمان، فيهيء الله سبحانه في كل زمان و كل جيل من ينصر هذا الدين و يجاهد في سبيله صادقا، سالكا طريق الحق و السنة. و عليه فلسنا نخاف على هذا الدين و قد تكفل له الله عز و جل بنصرته و إظهاره إلى يوم القيامة بقوله تعالى: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [الصف:8]؛ و إنما نخاف على أنفسنا أن نتخلى عنه فيستبدل ربنا قوما غيرنا، و نكون من الخاسرين ( كتاب الإسلام الذي يريده الغرب- د.صالح عبد الله حساب الغامدي).
بطاقة و تعليق
أثناء البحث و تتبع المعلومات وقع بصري على تعليقات بعض الشباب المسلم الذي يتابع قناة شحرور على اليوتوب، فقمت بتصويرها و وضعها في شكل بطاقة:
Tumblr media
لا شك أن الفئة المستهدفة، بصفة خاصة، في مخططات أعداء الإسلام من خلال نشر أفكار العصرانيين، هي جيل الشباب المسلم، و الهدف من كل ذلك هو مسخ هويته الإسلامية.
يمكننا أن نرى أزمة الهوية الإسلامية -مثلا- في الشباب الذي يعلق علم أمريكا في عنقه و في سيارته، و في الشباب الذي يتهافت على تقليد الغربيين في مظهرهم و مخبرهم و في قيمهم، و في الشباب الذين يتخلون عن جنسية بلادهم الإسلامية بغير عذر ملجئ ثم يفتخرون بالفوز بجنسية البلاد الكافرة.
بل و منهم من يسعى باسم الثقافة و الحداثة و المعاصرة و التطور إلى مز��د من طمس الهوية الإسلامية؛ فيسعى الى التحرر من منظومة الأخلاق الإسلامية لأنها تقف عائقا أمام إشباع شهواته البهيمية، فلا عجب أن تجد هؤلاء الشباب مهللين لكل ما ينشره دعاة الفساد و الإباحية المتسترين بالدين، و الذين يزعمون كونهم أصحاب فكر عصراني تنويري يجدد الدين بالعقل و العلم.
و لكن الذي يجهله الشباب المسلم المفتون بفكرهم هو: أن من يسمون أنفسهم بالمجددين للدين، إنما هم في الحقيقة دعاة على أبواب جهنم. و أكثرُ المسلمين لا يَتطرَّق إلى عقله وجود دعاة على أبواب جهنّم يُضِلُّون الناس، و يُفسِدون عليهم عقيدتهم و عبادتهم، و يُفتُونهم بغير الحق الذي أنزَلَه الله.
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال الرسول صلى الله عليه و سلم: ( "دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ؛ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: "نَعَمْ! قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَ إِمَامَهُمْ" فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَ لا إِمَامٌ؟ قَالَ: "فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَ لَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَ أَنْتَ عَلَى ذَلِكَ" [متفق عليه، رواه مسلم].
قال الإمام ابن باز رحمه الله: "يعني يدعون إلى النار، يدعون إلى أعمال و إلى أخلاق تجر أهلها إلى النار، فالذي يدعو إلى الإباحية أو إلى الشيوعية أو إلى القومية الجاهلية أو إلى الاختلاط أو إلى الأغاني و الملاهي أو إلى الخمور أو إلى غير هذا مما يخالف الشرع هو داخل في هذا، نسأل الله السلامة، سواء علم أو لم يعلم، أو كان إمعة لا يدري ما يقول" ( موقع ابن باز).
37 notes · View notes
tadkiraimania · 1 year
Text
Tumblr media
مقال اليوم يتساءل: هل سر الفاتحة في إعجازها، أم أن لهذا الإعجاز أسرار؟ فالفاتحة هي السورة التي حوت آياتها حكمة القرآن كله، هل عرفنا فخشعنا، و هل ذقنا لذة هذه الحكمة، و نحن نقرأ الفاتحة في صلوات الفرائض و النوافل و قيام الليل و تراويح و تهجد رمضان؟
و كأن لسان حالنا يقول: أيتها الحكمة أنظرينا نقتبس من نورك! آن للقلب أن يستيقظ، و للوجدان أن يتحرك، و للروح أن تشرق بنور ربها!
Tumblr media
فاتحة الدين
سورة الفاتحة لها أكثر من ستة و ثلاثين إسما أوردها جلال الدين السيوطي في كتابه: الإتقان في علوم القرآن، أشهرها: الفاتحة، فاتحة الكتاب، الحمد، أم القرآن، السبع المثاني، الشافية؛ فكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى كما قال الرازي، و العرب لا تكثر من أسماء الشيء إلا إذا كانت منافعه كثيرة، و كذلك الشيء الذي تكثر أخطاره تكثر أسماؤه كالأسد -مثلا- فهو السبع و الليث و الغضنفر و غير ذلك.
يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لو أقبلنا على فاتحة الكتاب لحملنا منها سبعين بعير مُحَمَّلَة بمعاني هذه السورة".
سورة الفاتحة مفتاح كل خير و سعادة في الدنيا و الآخرة. ففي فاتحة الكتاب الدين كله، فيها شرح و بيان للقرآن و الدين كله، فيها مراتب الإسلام و أركانه، فيها مراتب الإيمان، فيها الحلال و الحرام، و فيها الأحكام كلها و ما يتعلق بها، فيها التوحيد و العقيدة و العبادة و الأخلاق و المنهج و السلوك، و فيها الحياة و الموت و البعث.
و لا غرابة أن يصنف الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه: مدارج السالكين في منازل إياك نعبد و إياك نستعين، فيختصره في مائة منزلة.
و لقد ورد في الأثر أن الله سبحانه و تعالى أنزل مائة و أربعة كتب جمع ما فيها كلها في أربعة كتب هي التوارة و الزبور و الإنجيل و القرآن، و جمع ما في الكتب كلها في كتاب واحد هو القرآن، و جمع ما في القرآن كله في سورة واحدة هي فاتحة الكتاب، و جمع ما في سورة الفاتحة في آية واحدة هي إياك نعبد و إياك نستعين؛ إذا خلاصة ما أنزل الله تعالى من الكتب كلها و خلاصة ما أرسل به الرسل كلهم في آية واحدة هي: إياك نعبد و إياك نستعين.
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( ما أنزل الله تبارك و تعالى في التوراة و لا في الإنجيل مثل أم القرآن و هي السبع المثاني ) [أخرجه الإمام أحمد و النسائي].
فاتحة الحمد
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
إشتملت الفاتحة على التعريف بالمعبود تبارك و تعالى بثلاثة أسماء، مرجع الأسماء الحسنى و الصفات العليا إليها و مدارها عليها، و هي: الله؛ الرب؛ الرحمن؛ و بنيت السورة على الألوهية و الربوبية و الرحمة، ف«إياك نعبد» مبنى الألوهية، و «إياك نستعين» مبنى الربوبية، و طلب الهداية إلى الصراط المستقيم بصفة الرحمة، و الحمد يتضمن الأمور الثلاثة: فهو المحمود في ألوهيته و ربوبيته و رحمته... و هو إله محمود، و رحمن محمود، و ملك محمود، فله بذلك جميع صفات الكمال (ابن القيم- كتاب تهذيب مدارج السالكين).
الحمد لله رب العالمين على ماذا؟ على السراء و على الضراء و على كل حال، فلو سألت الغني عن حاله قال الحمد لله و لو سألت الفقير عن حاله قال الحمد لله، و لو سألت الصحيح عن حاله قال الحمد لله و لو سألت المريض عن حاله قال الحمد لله، فالحمد لله نفسها عند الغني و عند الفقير، و هي نفسها عند الصحيح و عند المريض، و هي نفسها عند السعيد و عند الشقي؛ فما السر في ذلك؟
الحمد لله سر في الكون كله؛ قال الله تعالى: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الحشر:1]، { وَ إِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [الإسراء:44]؛ إن الدنيا كلها و ما فيها من مخلوقات و حجر و شجر يسبح بحمد الله، و حملة العرش و الملائكة كلها تسبح بحمده، و الآخرة فيها تسبيح بحمده { وَ تَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الزمر:75].
أهل الجنة قالوا الحمد لله لماذا؟ { وَ قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَ مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } [الأعراف:43]، { وَ قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ  } [فاطر:34]؛ يحمدونه على الفضل و الرحمة، فلولا الفضل ما عبدوه و لولا الرحمة ما دخلوا الجنة.
و أهل النار يقولون الحمد لله لماذا؟ لأن الله سبحانه و تعالى لم يظلم أحدا مثقال ذرة { الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [غافر:17]؛ فإذا رأى الرجل الذي في النار عذاب أشد كفرا منه حمد الله على العدل.
الحمد لله رب العالمين لأنه رب السموات و الأرض و ما فيهما { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } [الأنبياء:22]؛ لو كان للنهار رب، و لليل رب، و في النهار نحن مع رب، و في الليل مع رب آخر؛ لتغير الكون و تغيرت الأرض و هلك كل من فيها { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَ لَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [المؤمنون:91].
فالأرض عندما تنازعت على حكمها قوتان عالميتان (أمريكا و روسيا) قامت حروب عالمية، و لكن سبحان الله الكون يدبره رب واحد ﴿ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف:54].
و الإنسان الصغير نموذج لهذا الكون الكبير، لو كان له قلبين قلب يحب و قلب يكره لعاش حياته كلها في شقاء و عناء { مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [الأحزاب:4] صحيح عنده عينين و أذنين و يدين و رجلين و لكن يتحكم فيهن قلب واحد (أسرار الفاتحة- مادة مرئية: الشيخ محمد علي الشنقيطي).
الفاتحة الشافية
قال ابن القيم رحمه الله: " فاتحة الكتاب و أم القرآن و السبع المثاني و الشفاء التام و الدواء النافع و الرقية التامة و مفتاح الغنى و الفلاح و حافظة القوة و دافعة الهم و الغم و الخوف و الحزن لمن عرف مقدارها و أعطاها حقها و أحسن تنزيلها على دائه و عرف وجه الاستشفاء و التداوي بها و السر الذي لأجله كانت كذلك.
و لما وقع بعض الصحابة على ذلك رقى بها اللديغ فبرأ لوقته، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم: ( وما أدراك أنها رقية ) [كتاب زاد المعاد].
إشتملت الفاتحة على شفاء القلوب و الأبدان، و السبب في أمراض القلوب: فساد العلم و فساد  القصد ( القصد هو النية و الفعل).
و ينتج عن فساد العلم و فساد القصد مرضان و هما الضلال و الغضب، فالضلال نتيجة فساد العلم و الغضب نتيجة فساد القصد، و هذان المرضان هما أصل كل أمراض القلوب جميعها.
فسؤال { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } يتضمن الشفاء من مرض الضلال، و لذلك كان سؤال الهداية أفرض دعاء على كل عبد، و أوجبه عليه كل يوم و ليلة في كل صلاة، لشدة فقره إلى الهداية المطلوبة.
و  تحقيق { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } علما و معرفة، و عملا و حالا، يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب و القصد، فإن فساد القصد يتعلق بالغايات و الوسائل. فمن طلب غاية فانية منقطعة عن الله، و اتخذ الوسيلة الموصلة إليها كان كلا نوعي قصده فاسدا، و هذا شأن كل من كان غاية مطلوبه غير الله و عبوديته: من المشركين، و متبعي الشهوات، و أصحاب الحكم أو الإمارة و الرئاسة الذين يطلبون من خلالها العلو في الأرض، و يقيمونها من أي طريق حقا كان أو باطلا.
و المقصود أن قصد هؤلاء فاسد في غاياتهم و وسائلهم، و هؤلاء إذا بطلت غاياتهم و فنيت حصلوا على أعظم الخسران و الحسرات، و هذا يظهر كثيرا في الدنيا، و يظهر أقوى عند الرحيل من الدنيا و القدوم على الله سبحانه، و يشتد و يتحقق في البرزخ، و ينكشف يقينا يوم القيامة: يوم يفوز الصادقون  و يخسر الكاذبون.
و دواء { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } مركب من ستة أجزاء:
1- عبودية الله وحده.
2- بأمره و شرعه.
3- لا بالهوى.
4- و لا بآراء الرجال و أوضاعهم و رسومهم و أفكارهم.
5- بالاستعانة على عبوديته به.
6- لا بنفس العبد و قوته و حوله و لا بغيره.
فإذا استعملها المريض حصل الشفاء التام، و إذا نقص الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها، أو إثنين أو أكثر.
و القلب قد يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد قذفا به حتما إلى التلف، و هما الرياء و الكبر، فدواء الرياء ب «إياك نعبد» و دواء الكبر ب « إياك نستعين».
فإذا عوفي من مرض الرياء ب «إياك نعبد» و من مرض الكبر و العجب ب « إياك نستعين»، و من مرض الضلال و الجهل ب « إهدنا الصراط المستقيم» عوفي من أمراضه كلها و رفل في ثوب العافية و تمت عليه النعمة، و كان من الذين أنعم عليهم «غير المغضوب عليهم»  و هم أهل فساد القصد الذين عرفوا الحق و عدلوا عنه، و «الضالين» و هم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحق و لم يعرفوه.
و حق للفاتحة التي إشتملت على أعظم الشفائين أن يستشفى بها من كل مرض، فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت عن الله كلامه، و فهمت عنه فهما خاصا اختصها به، من معاني هذه السورة. ( بتصرف- كتاب تهذيب مدارج ال��الكين).
مقاصد الفاتحة
ذكر ابن القيم في مقدمة كتابه مدارج السالكين: "أن هذه السورة اشتملت على الرد على جميع طوائف أهل البدع و الضلال، كما بينت منازل السائرين، و مقامات العارفين.. و بيان أنه لا يقوم غير هذه السورة مقامها، و لا يسد مسدها؛ و لذلك لم ينزل في التوراة، و لا في الإنجيل مثلها".
أما سيد قطب رحمه الله، فقد قال في كتابه: في ظلال القرآن: "إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية، و كليات التصور الإسلامي، و كليات المشاعر و التوجيهات، ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة، و حكمة بطلان كل صلاة لا تُذكر فيها".
و يقول الشيخ السعدي: " هذه السورة على إيجازها  إحتوت على ما لم تحتوِ عليه سورة من سور القرآن، فقد تضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، يؤخذ من قوله: { رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الفاتحة:2]، و توحيد الألوهية، و هو إفراد الله بالعبادة، يؤخذ من لفظ: { اللَّه} [الفاتحة:1]، و من قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [الفاتحة:5].
و توحيد الأسماء و الصفات، و هو إثبات صفات الكمال لله تعالى، التي أثبتها لنفسه، و أثبتها له رسوله صلى الله عليه و سلم من غير تعطيل، و لا تمثيل، و لا تشبيه، و قد دل على ذلك لفظ { الْحَمْدُ } [الفاتحة:2]. 
و إثبات الجزاء على الأعمال في قوله: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [الفاتحة:4]، و أن الجزاء يكون بالعدل؛ لأن { الدِّينِ } معناه الجزاء بالعدل.
و تضمنت إخلاص الدين لله تعالى، عبادة و استعانة في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة:5]. 
و تضمنت إثبات النبوة في قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة:6]؛ لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة. 
و تضمنت إثبات القدر، و أن العبد فاعل حقيقة، خلافا للقدرية و الجبرية. بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع و الضلال في قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة:6]؛ لأنه معرفة الحق و العمل به. و كل مبتدع و ضال فهو مخالف لذلك " (كتاب التفسير).
و من أسرار الفاتحة إشتمالها على العلم و العمل، ففي النصف الاول من السورة تعطينا علما:
{ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰالَمِينَ، ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ }.
و في النصف الثاني منها تعطينا عملا:
{ إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ، ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَ لَا ٱلضَّآلِّينَ }.
فالذين أنعم الله عليهم هم الذين لديهم علم و عمل.
و المغضوب عليهم هم الذين لديهم علم بلا عمل،
و الضالين هم الذين لديهم عمل بلا علم.
كما تضمنت الفاتحة الأصول الثلاثة للعبادة القلبية و هي:
- كمال محبة الرب جل و علا: { ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ }.
- كمال الرغبة فيما عند الرب جل و علا { ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ }.
- كمال الرهبة من الرب جل و علا { مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ }.
فاتحة الصلاة
أي صلاة تبقى مغلقة حتى تبدأ بقراءة الفاتحة، فإذا قرأت الفاتحة فُتِحَت الصلاة، عن عبادَة بْنِ الصَّامِت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ( لا صلاة لمن لم يَقْرَأْ بفاتحة الكتاب ) [صحيح البخاري]، و لذلك كانت قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة من الصلاة لأنها ركن فيها.
نتساءل هنا: إذا كانت الفاتحة بهذه الأهمية في الدين، هل يُعقل أن يكون فقهنا لها فقهًا سطحيّا، نتمتم كلماتها سريعًا كل يوم، ثم نركع و نسجد و نسلّمُ و لم نخرج بشيء من فوائدها؟ أم يُفترض أن يكون الاعتصام بآياتها و معانيها فاتحةَ الخروج من غفلتنا؟
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: قال الله تعالى: ( قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين، و لعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) قال تعالى: حمدني عبدي، و إذا قال (الرحمن الرحيم) قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، و إذا قال: مالك يوم الدين قال: مجدني عبدي، و قال مرة: فوض إلي عبدي فإذا قال: إياك نعبد و إياك نستتعين قال: هذا بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين قال: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل ) [ابن تيمية- مجموع الفتاوى].
سورة الفاتحة هي أعظم سورة في القرآن، فأنت   في صلاتك تقرأ و تخاطب ربك بما عَلَّمَكَ من كلامه، و تناجي رب العالمين  الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، و قد أخرجك ملك الملوك من شتات و هموم الدنيا و أدخلك روح الإيمان و فرح الإيمان و جنة الإيمان. و قيامك بين يديه فضل و كرامة، فحري بك أن تقول: الحمد لله الذي أذن لي في ذكره!
إنَّك حين تقرأ الفاتحة، يجب أن تقاوم وساوس الشيطان و لا تلتفت إليها، و قد تأتي خواطر عارضة تجبرك و تقهرك، و أنت مطالب أن  تبذل جهدك لتبعد هذه الخواطر عن رأسك و عن فكرك، و أنت معها في كر و فر، تغلبك مرة و تغلبها مرة أخرى، و مع الوقت سَتُعَوِّدُ نفسك و جوارحك على السكون في صلاتك، و هذا السكون سيقودك إلى الخشوع. و الخشوع خشوعان: خشوع قلب، و خشوع جوارح، فخشوع القلب أن تستحضر رقابة الله عز و جل وتستحضر عظمته، و تتدبر معاني ما تتلوه من آيات، و هناك خشوع الجوارح، و هو مكمل لخشوع القلب، و مظهر له، فإذا خشع قلبك خشعت جوارحك. فأنت في مقام تُناجي فيه ربَّك، فلا يليق بك أن تنشغل عنه، و ليس من الأدب مع الله أنْ يسمعك حين تقول: الحمد لله، فيقول: حمدني عبدي، و أنت غافل، فلا بُدَّ أن تستشعر إجابة الله لك، و السورةُ كلُّها ثناءٌ على الله فَخَاطِب خطاب من حضر و أخلص (إياك نعبد)، بعدها سل و أبشر (إهدنا الصراط المستقيم) فقال الله لك: هذه لعبدي و لعبدي ما سأل.
لذا كان فهم معاني الفاتحة و استشعار روحها من أهم أسباب إجابة الدعاء الوارد فيها، قال الرسول صلى الله عليه و سلم: ( ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه ) [ رواه أبو هريرة- صحيح الجامع للألباني ].
فطالما استجاب العبد لربه و مولاه و عرف عظمته و جلاله و كبرياءه، و اقر له سبحانه بالعبودية، و تذلل له في العبادة و استعان به في كل أمور حياته، كان حقاً على الله أن يمنحه إجابة الدعاء و ييسر له سبيل الهداية، و يمده برعايته و عنايته، و يتولاه بلطفه و يعصمه من الزلل و الانحراف، و يأخذ بيده بعيداً عن أولياء الشيطان.
Tumblr media
  يكاد العلماء يتفقون على أن إعجاز القرآن لا يمكن حصره، و إن كان إعجاز البلاغة و الفصاحة و البيان أصيل فيه. فالقرآن طاقة روحية هائلة ذات تأثير بالغ الشأن في نفس الانسان، فهو يهز وجدانه، و يرهف احاسيسه و مشاعره، و يصقل روحه، و يوقظ إدراكه و تفكيره.
و القرآن الكريم معجز بايقاعه الصوتي و إيقاعه البلاغي، و بما يفعله في القلب من تأثير نفسي، و صدى شعوري، حتى قيل: "فتحت الأمصار بالسيوف، و فتحت المدينة بالقرآن"، بعدما مكث مصعب بن عمير رضوان الله عليه يتلو فيهم آيات الله، فآمنوا و استقدموا على إثرها رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يبايعوه على ما أنزل الله عز و جل.
الإعجاز الصوتي في الفاتحة
الإيقاع الصوتي
تنطوي سورة الفاتحة على منظومة صوتية باهرة، شبكة من العلاقات الصوتية التي تتشكل من علاقات صوتية تتآزر بشكل حميم لتشكل إيقاعا يجذب أذن المستمع، فيحدث له الدهشة و الصدمة، كي يتلقى الخطاب الديني و الرسالة الربانية بشوق.
و في الإيقاع الداخلي يتكشف النص القرآني في ثلاثة محاور:
1- الإيقاع التجاوري في الأصوات.
2- الإيقاع الكلي في الفواصل و رؤوس الآيات.
3- الإيقاع المقطعي.
الإيقاع التجاوري في الأصوات
أبرز الأصوات في سورة الفاتحة هما صوتا الميم و النون، و قد بلغ عددها (24) أربعة و عشرين صوتا، من مجمل الأصوات الكلية، على حين بلغ صوت الياء الصامتة (4) أربعة أصوات و بلغ مجموع الأصوات ما عدا الحركات و أداة التعريف (80) صوتا، فالميم و النون صوتان مستحوذان على الفضاء النصي كله، و لعلاقة صوتي الميم و النون دلالة قوية بالمحتوى العام للسورة.
فالنون صوت مجهور متوسط بين الشدة و الرخاوة و مخرجها التجويف الأنفي مثل الميم، و يعرض للنون من الظواهر اللغوية ما لا يشاركها فيه غيره، و هي بعد اللام أكثر الأصوات الساكنة شيوعا في اللغة العربية.
إن صوت الميم و النون صوتان في الغالب يجسدان سلوكا ثاويا وراء دلالتهما في المفردات ينم عن مشاعر قلبية إيمانية كما يلي:
الرحمن الرحيم: إحساس بالأمان و الأمل و السكينة.
مالك يوم الدين: الأمل.
إياك نعبد و نستعين: الاستسلام و الانقياد و الراحة و الاخلاد.
إهدنا الصراط المستقيم: الرجاء و الخوف و الأمل.
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين: الأمل و الخوف و الرجاء.
و الأصوات متآلفة منطوقة وفق حالة نفسية متماوجة من الرجاء، و الأمل و الحزن، و الخوف و الترقب، و العبد واقف بين يدي ربه، يخضع له في منتهى الذل و الخوف و الأمل يستعطفه أن يمن عليه: إهدنا الصراط المستقيم.
و نحن نلاحظ هذا الإيقاع التجاوري في الأصوات، و التعانق التلقائي بين هذه الأصوات في امتدادها الأفقي شاملا السورة كلها، و هو ما نلمحه في هذه المعادلات:
الحمد لله -----------»  منظومة اللامات
الرحمن --------------» منظومة الرءات
الرحمن الرحيم ----------» منظومة الحاءات
الرحمن الرحيم ----------» الميم و النون
الرحمن الرحيم ----------» منظومة التعريف
مالك يوم الدين ---------» منظومة الياء
مالك يوم الدين ---------» الميم و النون
إياك نعبد و نستعين --------» النون و العين
الصراط المستقيم، صراط ------» الصاد و الراء و السين و الطاء
أنعمت عليهم ----------» العين و الميم
غير المغضوب عليهم ---------» الياء و الميم
و لا الضآلين ------------» اللام و الفتحة الطويلة
و أجمل الأصوات ما تباعدت مخارجها، مثال ذلك: الحمد لله رب العالمين: الحاء حلقية، الميم شفوية، الدال أسنانية لثوية، فالتباعد واقع، و التدرج المدهش المعجز واضح يشير إلى أن الحمد سلوك ينبغي أن ينبع من الداخل.
و يحس المستمع إتساقا و ائتلافا يسترعي من السمع ما تسترعيه الموسيقى و الشعر، على أنه ليس بأنغام الموسيقى، و لا بأوزان الشعر، و لكنه نظام بديع قسمت فيه الحركة و السكون تقسيما منوعا، و وزعت في تضاعيفه حروف المد و الغنة توزيعا يساعد على ترجيع الصوت و تهادي النَّفَس، و تطرق أذن المستمع جواهر الحروف الخارجة من مخارجها الصحيحة، حتى تفاجئك لذة أخرى في نظم الحروف و رصفها فيما بينها: هذا ينقر و ذاك يصفر، و ثالث يهمس، و رابع يجهر، و آخر ينزلق عليه النَّفَس، و آخر يحتبس عند النَّفَس.
و لعل حرارة الإيقاع و فورته القوية تجعله خطابا يقرع و يجذب بشدة إنتباه المستمع فيفزع لهذا الأداء الصوتي المتسق؛ و في قصة الصحابي الجليل جبير بن مطعم رضي الله عنه، خير نموذج للإعجاز الصوتي لآيات القرآن؛ يقول جبير رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في المغرب بالطُّور، فلما بلغ هذه الآية: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ، أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾. قال: كاد قلبي أن يطير ( صحيح متفق عليه).
لقد بقي جبير بن مطعم في صراع مع نفسه جراء تأثير هذه الآيات العظيمة فيه حتى أسلم بعدها.
و حين قرئ القرآن على قريش رأو حروفه في كلماته و كلماته في جمله وقعا لغويا رائعا، كأنه لإئتلاف آياته و سوره قطعة واحدة، أدركوا ذلك، و أدركوا أنه لا قدرة لهم على الإتيان بمثله. و نفس وقع و تأثير الإعجاز الصوتي وقع على أسماع غير العرب حتى و هم لا يفهمون اللغة العربية، بل تعدى تأثير القرآن إلى الحجر، و لم يقتصر على الجن و البشر، فقد أخبر الله سبحانه أن الجبال تتأثر بسماع القرآن الكريم، يقول تعالى: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله } [الحشر:21].
الإيقاع الكلي في الفواصل و رؤوس الآيات
إعتمدت السورة الكريمة على فاصلة قرآنية و هي مزيج من صوت الميم و النون كما هو ملاحظ هنا:
الرحيم --- العالمين  --- الرحيم --- الدين --- نستعين --- المستقيم --- أنعمت عليهم --- غير المغضوب عليهم --- و لا الضالين
تكررت الميم (5) خمس مرات، على حين تكررت النون (4) أربع مرات في نهاية الفواصل. و يعد صوتا الميم و النون من الأصوات الواضحة، مما شكل طاقة صوتية في تلك الألفاظ، و بخاصة عندما سبقت الميم و النون صوت الصائت الطويل و هو الياء، مما أتاح رفع العقيرة و مد الصوت، أظهر وضوحا عاليا داخل بنية الكلمة، فشكلت وضوحا داخليا متناسقا مع الإيقاع الداخلي: فالوضوح في الفاصلة القرآنية جلي واضح، يبدو من القافية المسبوقة بالصوت الصائت و هو الكسرة الطويلة التي أعقبتها الميم تارة أو النون تارة أخرى بما يوحي بالهدوء و الخشوع، و طول الأمل بين يدي الخالق سبحانه. و بذلك نكشف سرا من أسرار الإعجاز في تبين المقاصد الدلالية، و الخطاب القرآني اللافت. فمن خصائص هذه السورة، شأنها شأن القرآن الكريم كله، وقع الأسلوب القرآني، و نقصد بوقعه أمرين: نظامه الصوتي، و جماله اللغوي.
الإيقاع المقطعي
المقطع عبارة عن مجموعة من الأصوات المفردة الصامتة مع الصائتة، و المقاطع أنواع:
1- مقطع مفتوح ينتهي بحركة مثل: سَ، حَ .
2- مقطع مغلق و هو ما انتهى بساكن: مَنْ .
3- مقطع مضاعف الإغلاق أي المنتهي بساكنين مثل: قِرْدْ .
و من جهة الطول و القصر:
1- مقطع قصير يتألف من صامت و حركة مثل: فَ .
2- مقطع متوسط و يتشكل من صامت طويل مع ساكن مثل: يا؛ أو صامت متحرك مع ساكن مثل: قُمْ .
3- مقطع طويل و يتكون من صامت مع حركة طويلة أو أكثر مثل: باب، عِنْدْ .
و هكذا نلحظ الطول الواضح في مقاطع سورة الفاتحة و لا سيما الفاصلة:
الرحيم: حيم --- العالمين: مين --- الدين: دين --- الرحيم: حيم --- الدين: دين --- نستعين: عين --- المستقيم: قيم --- أنعمت عليهم: هم --- غير المغضوب عليهم: هم --- و لا الضالين: لين
فهذه المقاطع الطويلة تتألف من: صامت + حركة طويلة + ساكن.
هذا النسيج من الإيقاع المقطعي المتميز بالطول نجده ظاهرا في جل مقاطع السورة الكريمة، و دلالته و الله أعلم، هو الترنم و رفع الصوت للإحساس بالأمل، و العبد واقف في التلاوة و في الصلاة، في رحاب الحضرة الإلهية، و شاخص بين يدي الرحمن لا يريد إلا طول المناجاة و التضرع، و طلب الهداية و الاستقامة و رضا الله، فهو مسكون بالرحمة و الرهبة.
الإعجاز اللغوي في الفاتحة
خصائص الأسلوب
إحتوت السورة على جملة من الخصائص الأسلوبية المتدفقة، أضفت على السورة ألقا ينم عن طلاوة و حلاوة عذبة منسجمة سمحة.
1- حسن المطلع و جودة الاستهلال:
قوله تعالى: الحمد لله رب العالمين؛ مطلع وجيز يحكي لك محتوى السورة كلها، و لعل هذا يأتي ترجمة لما درج عليه الخطاب البياني في تلك الفترة.
2- التقديم بين يدي الموضوع أو الخطاب:
و هذا ملموس في المقدمة الطويلة بين يدي الخالق قبل أن يدلف العبد إلى حاجته الرئيسة و هي طلب الهداية: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد و إياك نستعين.
3- المبالغة في الثناء:
و ذلك في استعمال أداة التعريف، و لا سيما في قوله تعالى: الحمد لله، لِيُعَوِّد المسلم تعظيم الله عز و جل، و أن الله محمود الحمد و الثناء.
4- توظيف أسلوب الاختصاص و التخصيص:
و ذلك في قوله تعالى: لله، فعبادة العبد محصورة في خالقه أبدا.
5-  أسلوب التقديم و التأخير:
في قوله تعالى: إياك نعبد و إياك نستعين، و الأصل: نعبدك و نستعين بك، فقدم المفعول و ضُمَّت إليه (إيا) فصار إياك، و ذلك بقصد أن تكون العبادة محصورة في الله الواحد الأحد سبحانه و تعالى.
6- أسلوب التخصيص بعد التعميم:
إهدنا الصراط المستقيم: هذا تعميم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين: هذا تخصيص
7- أسلوب الالتفات:
في قوله تعالى: إياك نعبد و إياك نستعين؛ إنتقل من خطاب الغائب إلى المخاطب، كي يبث في الكلام تجدد و تنوع و بعث الحرارة في الخطاب.
7- أسلوف الحذف:
في قوله تعالى: صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم و لا الضآلين، و الأصل: غير صراط المغضوب عليهم و غير صراط الضآلين؛ و هو أسلوب يشحذ الذهن و يشد القارئ.
9- السجع اللغوي:
الذي يسبغ على النص إيقاعا، يفضي إلى الترنم و التلذذ بالإيقاع الهادئ و النغم الرخي، و نجده في التبادل بين فاصلتين:
الميم ----» الرحمن الرحيم، و الصراط المستقيم.
النون ----» إياك نستعين، و لا الضآلين.
و هذا التجاور العفوي بين أصوات الميم و النون في تشكيل منظومة، ينقلك من إيقاع إلى إيقاع، فضلا عن الإيقاع الداخلي الفذ الذي يحيل جو السورة إلى قطعة فنية تتلقاها الأذن بلذة و استعذاب.
10- التنويع بين هذه الجمل الخبرية و الإنشائية:
في قوله تعالى: الحمد لله، ظاهرها خبرية، بيد أن دلالته إنشاء طلبي: أي قولوا: حمدا لله.
و في قوله تعالى: إهدنا الصراط المستقيم، جملة إنشائية يراد بها الدعاء.
11- أسلوب التكرار:
و ذلك في قوله تعالى: إياك نعبد و إياك نستعين، إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم.
فالتكرار هو التأكيد، و المبالغة في الإبلاغ، و تجسيد المعنى المراد، أو الإلحاح عليه لإبرازه في ذهن المستمع فيكون الخطاب مكثفا قويا. و التكرار يوحي بالثبات على القيم و المبادئ.
12- تركيبة الأفعال الموظفة في السورة:
نجد في السورة فعلين مضارعين: نعبد و نستعين، و هما مضارعان بصيغة المتكلم الجماعي لغرض التجدد عبر الحقب و الأزمان، و جاء الفعلان على صورة الجماعة ليبين عظمة الخالق و علو شأنه، و أنه حراك جماعي اجتماعي موحد متوحد نحو الخالق.
الدلالات المعجمية
المعجم اللغوي في الفاتحة منسجم تماما و متدفق بالمعاني البليغة، فقد جمع بين القيم الروحية و المفردات اللغوية التي لبست المعنى بدقة و أمانة.
و جو السورة مفعم بالرحمة و العفو، و إلحاح طلب الهداية، و تمحور القلوب و فقرها إلى الله جل جلاله،  فهو رب العالمين و هو الرحمن الرحيم مالك يوم الدين.
فصفات الجلال و الجمال أخص: باسم « الله » و صفات الفعل و القدرة، و التفرد بالضر و النفع، و العطاء و المنع، و نفوذ المشيئة و كمال القدرة.
و تدبير أمر الخلق: أخص باسم « الرب ».
و صفات الإحسان، و الجود و البر، و الحنان و المنة، و الرأفة، و اللطف: أخص باسم « الرحمن » و كُرَّرَ إيذانا بثبوت الوصف و حصول أثره. فالرحمن: الذي الرحمة وصفه. و الرحيم: الراحم لعباده. و كان الله بالمؤمنين رحيما، فرحمته تغلب غضبه.
و صفات العدل و القبض و البسط، و الخفض و الرفع، و العطاء و المنع، و الإعزاز و الإذلال، و القهر و الحكم: أخص باسم « الملك » ، و خصه بيوم الدين و هو الجزاء الحق لأنه يوم الحق (ابن القيم- كتاب: تهذيب مدارج السالكين).
Tumblr media
و بناء على هذا الحراك من عباد الله و التوجه إلى الله سبحانه بقلوب خاشعة مخبتة، بدت هذه الرحمات الربانية استجابة لدعواتهم.
Tumblr media
فتنزلت الرحمات و العطايا من لدن الخالق فاطر السموات و الأرض،  في جو الرغبة و الرهبة و المحبة بين الخلق المتوجهين بقلوب وجلة  و خالقهم الرحمن الرحيم.
فالمؤمنون خير خلق الله من العالمين، خلقهم ليتم نعمته عليهم، و خصهم من كرامته و فضله ليسألوه من المواهب و العطايا الباطنة و الظاهرة، التي لا تُنَال إلا بمحبته، و لا تُنَال محبته إلا بطاعته و إيثاره على ما سواه ، فاتخذهم أحباء له، و أعد لهم أفضل  ما يعده محب غني قادر جواد لأحباءه إذا قدموا عليه.
فوقع الرضوان من الله الودود الحنان ، و تحققت السعادة و السكينة لعباده الصالحين، مستمسكين بهذه الرسالة الربانية، و معمرين للأرض بقلوب مطمئنة راضية مرضية، فلا قلق و لا خوف و لا وهن، ما داموا يحافظون على هذا السمت، و يؤدون هذه العبادة الروحية في أنفسهم و سلوكهم و علاقتهم بربهم (د.أحمد فليح- دراسة:من الإعجاز اللغوي في سورة الفاتحة/ المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية 2009).
لنتأمل هذه الكلمات
إن ابن تيمية رحمه الله كان يقرأ الفاتحة و يكررها من الفجر حتى طلوع الشمس، و يرفع بصره إلى السماء بين فينة و أخرى (الحافظ عمر بن علي البزار- كتاب: الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية).
و قد روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، قال: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل و يتفقدونها في النهار".
نحتاج - خصوصا و نحن ننتظر قدوم رمضان المبارك على أحر من الجمر - إلى مصالحة صادقة مع كتاب الله تعالى، و نجعل القرآن الكريم أنيسنا و جليسنا، ففيه السعادة و السكينة الحقيقية، و فيه خير الدنيا و الآخرة.
قال الله سبحانه و تعالى:{ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } [غافر:39-40].
Tumblr media
.
.
.
:
58 notes · View notes
tadkiraimania · 1 year
Text
Tumblr media
في هذا المقال نحاول استكشاف طبيعة أخطر الفتن التي تعاني منها الأمة الإسلامية في القرن الحالي، فقد أصبحنا نعيش على إيقاع صراع مرير بين الغيب و الطبيعة، بين الإيمان و المادة، بين الجسد و الروح، بين الحق و الباطل، بين نداء الفطرة و عبادة الشيطان، و نفوسنا ثملة بدجل الحضارة الغربية التي غزت عقولنا و سكنت قلوبنا، ففقدنا بفعل ذلك بوصلة طريق الحق، تائهين في غيبوبة الحياة كالذي يتخبطه الشيطان من المس!
Tumblr media
الحضارة الغربية هي حقا حضارة بنيت على التقدم التكنولوجي و العلمي، و لكنها حضارة يَنْقُصُها جانب مُهِمٌّ: و هو الجانب الرباني أو الرُّوحي في حياة الإنسان.
إنها عُنِيَت بالجانب المادي، و أغفلت جانب الروح، و بهذا عَمَّرت الأرض، و خَرَّبت الإنسان، هَيَّأَتْ له وسائل الرفاهية و المُتْعَة، و لم تُهَيِّئ له أسباب السكينة و الطمأنينة؛ لأن مصدر هذه هو الإيمان. و لهذا كانت حضارة مبتورة ناقصة، بحُكْم نَشْأَتِها و ظروفها التاريخية.
و مِنْ هنا كانت هذه الحضارة جديرة أن تُوصَف بأنها قامت على الدجل و مسخ الحياة، فهي ليست حضارة المسيح ابن مريم، و إنما هي حضارة المسيح الدجَّال. فهو أعورُ، و هي حضارة عوراء.
و ذلك على معنى أنها تَنْظُر إلى الحياة و الإنسان و الكون من ناحية واحدة، و هي الناحية المادية، و تَنْسَى أن للكون إلهًا، و أن للإنسان رُوحًا و أن للحياة غاية هي الإعداد لحياة أخرى هي خير و أبقى، و ليس معنى مثل هذا الكلام أن هذا هو التفسير المُراد من”المسيح الدجال” الذي ورد في الأحاديث النبوية الصحيحة و حَذَّر منه النبي صلى الله عليه و سلم. 
فمِن المعلوم الذي لا يَخْفَى على دارس للحديث أن “الدجَّال” الذي وردت به النصوص، إنما هو شخص من البشر، يَخْرُج مُدَّعِيًا الألوهية و يَمْلِك من أساليب التأثير ما يُمَكِّنه من إضلال بعض الناس، و فِتْنَتِهم عن دينهم، و لكن المؤمنين قد عرفوه قبل أن يُوجَد، فلا تَزِيدُهم خَوارِقُه و ألاعيبه إلا إيمانًا مع إيمانهم، و يقينًا بحقهم، و لو نالوا في سبيل ذلك الشهادة. 
يقول ليوبولد فايس النمسوي، الذي أسلم بعد طول معاناة، في كتابه «الإسلام في مفترق الطرق»: «إن المدنية الغربية لا تجحد الله البتة، و لكنها لا ترى مجالاً و لا فائدة لله في نظام فكرها الحالي». و يرى «ان الأوروبي الحديث سواء عليه أكان ديموقراطياً أم فاشياً، رأسمالياً أم بلشيفياً، صانعاً أم مفكراً يعرف ديناً إيجابياً واحداً، هو التعبد المادي و الشهوات».
Tumblr media
سورة الكهف و شخصية الدجال
إن سورة الكهف هي السورة الفريدة التي حوت أكبر مادة و أغزرها فيما يتصل بفتن العهد الأخير التي يتزعمها الدجال، كما تحمل التوجيهات و الإرشادات، و الأمثال و الحكايات ما يبين شخصية الدجال و يشخصه في كل زمان و مكان، و ما يوضح أيضا الأساس الذي تقوم عليه فتنته و دعوته، و تهيء العقول و النفوس لمحاربة هذه الفتنة و مواجهتها و مقاومتها، كما تحمل روحا تعارض التدجيل و زعماءه، و منهج تفكيرهم، و خطة حياتهم في و ضوح و قوة.
فالقصص الاربعة في سورة الكهف (أصحاب الكهف «فتنة الدين»، و صاحب الجنتين «فتنة المال»، و موسى و الخضر «فتنة العلم»، و ذو القرنين «فتنة السلطان») [ لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع الى مقال: الابتلاء و اللجوء في سورة الكهف ] رغم تنوع أساليبها و موضوعاتها، ترتبط برابط وثيق حول محور أساسي ينصب في منهجين مختلفين في النظر و الفكر: الأول المنهج المادي و الثاني المنهج الإيماني.
1- المنهج المادي
و هو المنهج التي اقتصر نظره على العالم المادي المحسوس، و خضع لكل الأسباب و مسبباتها، و رأى أن المسببات و النتائج تابعة دائمة لأسبابها، مرافقة لها و لازمة.
و قد جر هذا المنهج الإنسان إلى إنكار عالم الغيب و القوة الإلهية الفاعلة في السنن المسؤولة عن وجود التلازم بين الأسباب و مسبباتها، و عن إمكانية تغير قانون السنن الكونية وفقا للإرادة المطلقة و الحكمة الإلهية البالغة.
كان من نتائج هذا المنهج المادي المحض للكون و ما فيه، أن أصبح الإنسان عبدا للأسباب كافرا بالقوة الإل فيهية المطلقة، مسخرا وجوده و مواهبه في تذليل الطبيعة، حتى بات المنهج المادي إلها للأرض يُعْبَدُ من دون إله السماء و الأرض، و بعد أن قام أصحاب هذا المنهج بتسخير أسباب المادة لإرادتهم و ما تمليه حاجانهم، اعتقدوا بألوهيتهم أو أعلنوا ربوبيتهم، و تجلى ذلك في استعباد الناس، فعاثوا فسادا في دمائهم و أموالهم و أعراضهم، و استباحوها تلبية لمصالحهم و شهؤاتهم، فبنوا بذلك الطغيان و الظلم حضارة عمياء ظاهرها الجمال و السعادة و باطنها القبح و الشقاء.
إن الحضارة الغربية هي حضارة الغلو و التطرف إنطلاقا من قوله تعالى: { وَ لَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَ كَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطࣰا } [الكهف:28]، شعارها الإسراف في الإنتاج و اللهو و التسلية و الملذات و الشهوات، و إسراف في النظريات السياسية و الاقتصادية، و الغلو في الحريات، و الدكتاتورية و الليبرالية و الشيوعية أو تقديس النظم البشرية، و كل من يرفض كل هذا يعتبر عدوا للمدنية و ينعت بالوحشية و الرجعية.
لقد اتسمت الحضارة الغربية بالجمع بين القوى و تسخير الأسباب، و الاستيلاء على الكون، و تمجيد الكفر و المادية، و محاربة الأديان و الأخلاق، و الثورة على فاطر الكون و شرائعه.
2- المنهج الإيماني
و هو المنهج الذي يؤمن بالقوة الغيبية التي تملك زمام الأسباب الكونية و خواص الأشياء، فالإرادة الإلهية القاهرة هي علة العلل، الموجدة للإسباب و المسيرة لها، و خالق الكون لم تتحرر أسبابه من قهره و حكمه، فهو الذي يربط و يفك و يثبت و يمحو، و هو موجد الأشياء من عدم { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس:82].
كما يؤمن هذا المنهج كذلك بأن هناك أسباب أخرى مؤثرة في هذا الكون، و في مصير الأفراد و الجماعات مثل الأسباب الطبيعية أو أشد، و تتبعها نتائج أعظم و أضخم من النتائج الطبيعية المادية، و هي أسباب من قبيل المعنويات في جوهرها، كالإيمان و العمل الصالح، و الأخلاق الفاضلة، و طاعة الله تعالى، و العدل، و العبادة، و الرحمة، و المحبة و غيرها. كما توجد أسباب معاكسة لها كالكفر و البغي، و الفساد في الأرض، و الظلم و الشهوات، و الآثام و غيرها كذلك.
فمتى تمسك الإنسان بالأولى، دون تعطيل للأسباب الطبيعية، و دون فناء فيها، صَالَحَهُ الگون و طابت له الحياة، و من تمسك بعكسها و اعتقد النفع و الضر الكاملين في الأسباب الطبيعية المحضة و أسس حياته على ذلك، حاربه الكون و خانته القوى التي أخضعها و ثارت عليه الطببيعة.
صلة الدجال بالحضارة الغربية
بعد التأكيد على موضوع السورة العام، لابد من ربط الصلة الموجودة بين الدجال و الحضارة الغربية، إذ أُدْرِجَتْ شخصية الدجال ضمن المعنى اللغوي لمادة "د ج ل" و الذي ينحصر في التغطية و التمويه و الكذب، و قد حملت كلمة الدجال جملة معاني الفساد و الكفر و الإلحاد، و هي القطب الرئيسي الذي تدور عليه شخصية الدجال و دعواته و أعماله و تصرفاته.
أما الصلة المشتركة بين شخصية الدجال و الحضارة الغربية المادية فهي التدجيل في كل شيء عن طريق المسميات و الشعارات و تمويه الحقائق، و ادعاء الحريات و الحقوق..، و قد كان من أكبر أسباب هذه الروح الدجلية تغييب الجانب الروحي و تكذيب الحياة الآخرة، و هيمنة المادة و الشغف بكل ما يعود على الإنسان باللذة البدنية و المنفعة العاجلة، و الغلبة الظاهرة، و هي النقاط الرئسية التي دندنت حولها سورة الكهف في قصصها و عبرها.
و عن ورود ذكر المسيحية و اليهودية، فسورة الكهف لها اتصال وثيق بهما؛ إذ تعرضت لذكر عقيدة المسيحية في مطلعها في قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَ لَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ ، قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا، وَ يُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } [الكهف:1-5].
غير أن العقيدتين اليهودبة و المسيحية اجتمعتا تحت لواء الحضارة الغربية في هذا العصر، و اتفقتا على اتخاذ الإسلام العدو الوحيد لهما، لذا فالحضارة الغربية الآن مركبة من ثلاثة عناصر : مسيحية محرفة، و يهودية ثائرة، و عقلية يونانية مادية.
و قد حملت هذه العناصر الكثير من الصفات التي تشكل تهديدا لمصير الإنسانية، و أبرزها غياب الآخرة في الشعور الإنساني، و غياب تأثيرها في النفس و السلوك، ، حب الاستعلاء و إنكار حق المساواة بين بني البشر، السعي إلى امتلاك أسباب القوة، و الثورة و التمرد على القيم و الأخلاق.
لقد أصبح اليهود العنصر الفعال في قيادة الحضارة الغربية، بحكم نفوذ اليهودية العالمية في المجتمع الغربي. إن هذه الحضارة و ما تحوي من علم و فن، ستبلغ نهايتها، و تصل إلى ذروتها في قوة التدمير، و الهدم و الإفساد، و التلبيس و التدجيل، على أيدي اليهود، و هم بذلك يشكلون أكبر محنة للإنسانية و أكبر خطر على العالم، فضلا على المسلمين بصفة خاصة (المفكر الإسلامي و الداعية أبو الحسن الندوي، كتاپ: الصراع بين الإيمان و المادية - تأملات في سورة الكهف).
Tumblr media
سيكولوجية الاحتشام و الستر
إن من حكمة الله في الأمر بالستر، خصوصا بالنسبة للمرأة، تكريمها و تعظيمها، و جعلها تُعَامَلُ في المجتمع إنسانا مكرما، لا مجرد تضاريس و جغرافيا و كتل لحمية متناسقة و مثيرة للشهوات و الغرائز، فالمرأة يجب أن لا تكون أنثى إلا لزوجها، و هي للآخرين إنسان، عكس أنثى الحيوان التي هي أنثى لكل الذكور؛ أنثى لوالدها و أخيها و ابنها، يتقاتل عليها الذكور جميعا، و يظفر منهم بها الحاضر الأقوى .
قال الله تعالى: { : ( فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَ طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } [الأعراف:22] حدث هذا في الجنة التي في السماء، لما أكل آدم و حواء من الشجرة بدت لهما عوراتهما، و لما ظهرت عوراتهما خجلا، و جعلا يغطيان عوراتهما بأوراق شجر الجنة.
و فى هذا دليل قاطع على أن الستر هو من أصول الفطرة البشرية سواء عند الرجل أو المرأة.
فالاحتشام يمثل عنوانا بارزا يميز الحضارة الإسلامية بشكل واضح، و لذا فإن انتفاض الغربيين ضد الحجاب و اعتباره رمزا دينيا واضحا لا يأتي من فراغ، بل لأنهم يفطنون لحقيقة قد تغيب عن بعض المسلمين و هي أن الحجاب فعلا يمثل رمزا من رموز الثقا��ة الإسلامية، لأنه ليس مجرد ملبس و لكنه بناء نفسي متكامل يبثه الإسلام في نفوس أتباعه، بحيث يصبح الاحتشام جزء من سيكولوجية المسلم تظهر في تصرفاته و تصبغ حياته. غكيف بنى الإسلام هذه السيكولوجية الفريدة و التي يكاد يتميز بها الإسلام بين الثقافات؟
{ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ  }
إنه الأمر الإلهي في الآية 59 من سورة الأحزاب الذي يعلن بشكل واضح و صريح أن الحجاب هو فعلا شعار ترفعه المرأة المسلمة فيميزها فيعرف الجميع أن من تلبس الحجاب هي مسلمة فلا تتعرض للأذى أو الإيذاء من أي نوع.. و كأن صدر الآية يرد على كل من يدعي أن الحجاب أمر يخص أمهات المؤمنين فقط من زوجات الرسول فتبدأ الآية بهذا النداء للرسول الكريم { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَ بَنَاتِكَ وَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } فأمر الاحتشام يشمل جميع النساء و هو يمثل الخصوصية و الرعاية و الحماية و التكريم.
و الألفاظ التي تحمل على معنى -مما يروج له البعض- أن إهانة المرأة هي اعتبارها جسد يجب أن يغطى أو عورة تستر، و لكن لفظ أدنى كأفعل تفضيل يدل على أن هناك طيف واسع من الأهداف و التأثيرات و التفاعلات لهذا الاحتشام لأن التفضيل لابد له من مفضلات أخرى، و هذه حقيقة فالاحتشام يمنع الإيذاء الظاهري من الخارج و أيضا يحمي نفس الفتاة من الإيذاء الداخلي بالانجرار نحو شهوة الاستعراض الجسدي حيث يتحول الجسد إلى أداة للفخر و التباهي، و يصبح إظهار المفاتن مطلوبا لذاته و كأن لصاحبته فضل في جمالها فتتباهى به مثل من يتباهى بمهارة أتقنها، و هو ما يظهر بوضوح في الثقافة الغربية المادية حيث التجارة بجسد المرأة و اعتباره سلعة للكسب و الاسترزاق، و هو أمر يستهجنه العقلاء ذوي الفطرة السليمة السوية.
برزت في السنوات الأخيرة مناهضة شديدة لمسابقات ملكات الجمال حتى أنها لا تجد مقرا لإقامتها، لأن الناس تتظاهر ضد استغلال جسد المرأة و اعتباره مجال تنافس بين البنات لتكون ظاهرة فتيات الإعلانات و الاستغلال المباشر لجسد المرأة في الترويج لسلعة تجارية هو التجلي الواضح لما يمكن تسميته ثقافة العري، و لتصبح صناعة البورنو (الإباحية) أكثر الصناعات نموا و رواجا، لتبقى قدرة الفتاة المسلمة على حجب جمالها و عدم استعراضه أو الافتخار العلني به تحديا فعليا للثقافة الغربية التي تسعى لفرض نموذجها الحضاري تحت مسمى العولمة، و لا تكترث للاختلافات الثقافية خاصة و إن ثقافة الاحتشام تكاد تكون إسلامية بامتياز حيث تتمايز باقي الثقافات الشرقية عن الثقافة الغربية، و لكن لا يكاد يكون الاحتشام أحد نقاط الخلاف الجوهرية كما هو حادث مع الثقافة الإسلامية..
فالبنت المسلمة تقدم نموذجا مغايرا تماما لكل طريقة في الملبس، فكل خطوط الموضة و كل ما تنتجه صناعة الأزياء بآلتها الجبارة تقف عاجزة أمام سيكولوجية الاحتشام التي تنبني في المجتمع المسلم عامة و في نفوس البنات المسلمات خاصة ليحدث العكس.
{ وَ لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ  }
هذا الأمر الإلهي في الآية 31 من سورة النور مهم جدا و في منتهى الخطورة في فهم طبيعة الاحتشام، لأن البعض يروج أن الحجاب يحرم البنت من أنوثتها و يحولها إلى كائن ممسوخ على غير طبيعتها، فلا هي أنثى تستمتع بجمالها و زينتها و لا هي تحولت إلى رجل، كما يتصور البعض أن المقصود في الاحتشام تحويل طبيعة المرأة الأنثوية. فتأتي الآية و هي تتحدث عن غض البصر و حفظ الفرج كجزء أصيل من حالة أخلاقية عامة تقوم على العفاف و الاستعفاف و كبح الشهوات إلا في إطارها الشرعي، تأتي لتتحدث على أن زينة المرأة جزء فطري من طبيعتها لا يمكن الجور عليه أو منعه، بل بالعكس أن ما ظهر من زينة المرأة مستثنى من الحجب ليكون المعنى الأوضح و الأعم هو أن المرأة تتزين و تتجمل، لأن هذا من طبيعتها التي لا فكاك منها كونها أنثى خلقها الله بطبيعة خاصة، يمثل فيها الجمال والزينة جزء من إنسانيتها و بنائها النفسي.
لذا فإن ما بدا من هذه الزينة (الكحل في العين و الخاتم في اليد و اللباس) لا يدخل في نطاق الحجب للحفاظ على كينونتها الأنثوية و استقرارها النفسي، و لتحدد الآية بشكل واضح و صريح في الأمر الإلهي التالي شكل الحجاب و امتداده { وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } فالزينة الظاهرة ليس منها مكان الجيوب و هو فتحة الصدر حيث هو أكثر موضع تتباهى به البنات في استعراض جمالهن، و نظرة إلى نجمات هوليود و كيف أن الفستان مكشوف الصدر هو مناط المنافسة كجزء من مفاتن المرأة يجب استعراضه و إظهاره كتعبير عن ثقافة عامة سائدة في هذا الصدد، لتنتقل الآية بعد ذلك لتحديد من يجوز له أن يرى المرأة في زينتها في تفصيل معجز بذكر كل محارم المرأة و هو أمر لم يحدث في القرآن إلا و هو يستعرض من يحل له الزواج منهن حتى لا يلتبس الأمر و لا يكون محل نقاش أو خلاف في تعميق و بناء قوي لسيكولوجية الاحتشام في المجتمع ( عمرو أبو خليل - طبيب نفسي و كاتب في الشأن الإسلامي العام).
فالمرأة السوية حقا تميل إلى التخفي و التستر، و ما الخجل الفطري لدى المرأة إلا رغبة حقيقية في الابتعاد عن العيون الفاحصة المتأملة لتلك المظاهر البيولوجية الكاشفة، و من هنا يبدو حجاب المرأة ملبيا لها الاحتياج الفطري النفسي للتستر، أما محاولات التعري لدى النساء (المخدوعات) فإنها تحدث غالبا بإيعاز من الرجل أو رغبة في إرضائه أو جذب انتباهه، أي أن التعري ليس صفة أصلية في المرأة السوية.
و المرأة لا تحتاج فقط إلى ستر تكوينها البيولوجي و التظاهر بخلافه، و إنما تحتاج ذلك أيضا في مواجهة مشاعرها و عواطفها فقد خلقت بطبيعة جياشة لتكون مواكبة لحاجات الأب (الأبوة) و الزوج (السكن) و الأبناء (الأمومة) و هذه الطبيعة تتسم بالسيولة العاطفية و التي تتبدى في التغير السريع في المشاعر و في حرارة هذه المشاعر، و هذه السيولة العاطفية يكمن خلفها تركيبات عصبية و إفرازات هرمونية تجعلها قوة دافقة تخشى المرأة خطرها، و لذلك تحاول جاهدة إخفاء جزء كبير من مشاعرها، و ربما أظهرت مشاعر تبدو في الظاهر عكس مشاعرها الحقيقية؛ فإحساسها بضعفها و إحساسها بأنوثتها يجعلها تفضل موقف الانتظار فلا تسمح لرغباتها بالظهور الفج أو التعبير الصريح كما يفعل الرجل.
لا يفهم المرأة من لا يفهم هذه الصفة الفطرية فيها فهي تجمع بين اللذة و الألم بحيث لا تستطيع التفرقة بينهما في لحظة بعينها، و يتجسد ذلك في حالة الحمل و الولادة و الرضاعة و تربية الأولاد فعلى الرغم من شكوى الأم من ألام الحمل و الولادة و الرضاعة و التربية إلا أنها في ذات الوقت تشعر بلذة عارمة أثناء هذه المراحل، و يمتزج الحب بالكره لدى المرأة فهي تكره شقاوة الأبناء و تحبهم في ذات الوقت و تكره الزوج في حالة غضب و لا تطيق ابتعاده عنها و تضيق من الأب و تدعو له بطول العمر، و هي تجمع بين الضحك و البكاء و يساعدها تكوينها العاطفي و سيوله مشاعرها على ذلك و يساعدها التكوين البيولوجي فتسعفها الغدد الدمعية بما تحتاجه من دموع و بمنتهى السرعة و السهولة.
هذه هي المرأة اللغز! شديدة الغموض شديدة الوضوح، بالغة الضعف بالغة القوة ( دكتور محمد عبدالفتاح المهدي معالج نفسي و استشاري علاج زواجي- كتاب: الصحة النفسية للمرأة).
ثقافة الجسد العاري
إن الحضارة الغربية المادية الوثنية هي أكبر حضارة في التاريخ تخصصت بامتياز في الدجل و صناعة الفتن، و قد أدرك الصهاينة الشياطين إخوة القرود و الخنازير الذين يمسكون مقود القيادة نحو الشر و الإفساد في الأرض، أن تدمير المجتمعات و نظم القيم و الأخلاق لن يتحقق إلا عن طريق استخدام و عولمة جسد المرأة، بإشعال قضية حرية المرأة و المساواة مع الرجل، و هي قضية أغرقت المرأة فيما بعد في مستنقع التعري و الإباحية، ولعل حملة “إنه جسدي، إنها حقوقي” التي أطلقتها منظمة العفو الدولية و التي تدعو لتمكين الشباب و الشابات من اتخاذ قرارتهم الخاصة بأجسادهم من أوضح الأمثلة على فرض النظرة العولمية للجسد العاري على الثقافات الأخرى.
إن الرؤية المادية الدنيوية الغربية التي لا تبتعد عن أجواء الطعام و الشراب و الشهوة و الغضب، أوجدت نظاما اقتصاديا منسجما معها تدفع بواسطته العالم بما فيه من طبيعة و حيوان و إنسان نحو الاستهلاك. و هذه هي الرأسمالية المتوحشة: نظام اقتصادي يقوم على التعددية و التوسع، و هو بمثابة الآلة الوحش الذي ببتلع العالم.
بدأت الكارثة في الرؤية الغربية منذ أن تجاهلت الهوية المعنوية للإنسان و قصرت وجود المرأة على جسدها العاري فقط، ذبحوها في مسلخ المال، و أُقْصِيَ الحب، و حل محله الجنس الذي زُجَّ به في الاقتصاد، بمساعدة الإعلام و فلسفات و نظريات اللذة و المنفعة و الجمعيات النسوية و علم النفس الجنسي و شركات صناعة الأفلام ، كل هؤلاء مجتمعين أقنعوا المرأة أن قيمة و قوة وجودها في جمال وجهها و جسدها، فاقتنعت بأن التعري يرمز للقوة و يدل على الحرية ، فخرجت المرأة الغربية إلى الشارع و الأسواق و الشواطئ عارية إلا من قطعة قماش.
لم يقف الأمر عند حد الصناعات ذات الصلة بالجنس، فهناك قطاعان اقتصاديان عظيمان ينظران إلى المرأة بعين الطامع الجشع، و هما صانعو أداوات التجميل و مصممو الأزياء، و لم يعد يكفي أن ترتدي المرأة الغربية اللباس الذي يكشف عن جسدها و مفاتنها فحسب، بل عليها أن تغير ذلك اللباس بذريعة «الموضة» و ظهور تصاميم أزياء جدبدة، كي يبقى سوق أصحاب التصاميم و متاجر الأقمشة و معامل النسيج و الخياطة مزدهرة حامية بشكل دائم. و الْأَمَرُّ من كل ذلك أن المرأة ليست وسيلة (سلعة) لكي تستهلك نفسها فحسب، و إنما تحولت إلى أسلوب إقتصادي لمزيد من استهلاك أي شيء آخر، فلكي يُبَاعُ المزيد من السلع لابد من وضع صورة إمرأة نصف عارية بجانبها، و لا بد أن يكون باعة الأسواق التجارية الكبرى من النساء الشابات. بل إن الجنس و المرأة تحولا إلى وسيلة للدعاية للمرشحين في انتخابات البرلمانات و المجالس النيابية (الدكتور غلام علي حداد عادل- كتاب: ثقافة العري أو عري الثقافة).
و بهذا تمكنت ثقافة العري، بعد إحكام استغلال جسد المرأة جنسيا، من الوصول إلى تسليع المرأة أو تشييء المرأة و يعرف أحيانا بالتشييء الجنسي للمرأة (بالإنجليزية: The objectification of women)‏ و يعني رؤية و معاملة المرأة كشيء عبر استخدام جسدها في الترويج و التسويق للمنتجات و زيادة الأرباح.
يستعرض الدكتور بوفانش أوستاهي ما يقوله علم الأعصاب حول موضوع اللباس و علاقته بالتحرّش. حيث يجعل الموضوع في سياق معين يبدأ بما تقوم به وسائل الإعلام من عملية تشييء “Objectification” لجسد المرأة و وضع صور نمطية معينة لنوعية اللباس تنتقل هذه الصور النمطية إلى أدمغة الرجال فتصبح نظرتهم للنساء كأشياء “objects”. و مما أشار له المقال أيضاً أن العُري و الصور المثيرة لأجساد النساء تجعل الدماغ يُحول آلياته المعرفية بحيث ينظر للمرأة كشيء و ليس كإنسان ( في مقال انجليزي بعنوان: من الكسوة إلى الاعتداء: اللباس، التشييء ونزع الطابع الإنساني -مقدمةٌ ممكنة للعنف الجنسي).
فليس هناك جريمة أكبر من ربط حرية المرأة الغربية بالإباحية، و لنا أن نتخيل حجم الكارثة و فظاعة الجريمة المرتكبة ضد المرأة الغربية التي أقنعوها أن الحرية هي أن ترتمي بين أحضان الرجال و أن تصبح حقلاً للتجارب و هدفاً لكل باحث عن متعة مؤقتة مع قناعتها التامة أن حضارتها قدمت لها كامل حقوقها. لتفقد نفسها المسكينة بعد مرور السنوات دون أن تنعم بأمن و إستقرار الأسرة، فمستقبل الغالبة العظمى من نساء الغرب مظلم كالسراب، فإما أن تكون أسيرة دور العجزة أو ضحية للأغتصاب والعنف أو المعاناة من أمراض جنسية مزمنة، و ربما ما نشرته منظمة الصحة العالمية من إحصائيات بهذا الخصوص صادم جداً: في أمريكا وحدها يُقْتَلُ بالإجهاض أكثر من مليون طفل سنويا! حسب كلام المراكز الأمريكية الحكومية للسيطرة على الأمراض.
الكاسيات العاريات
من الفتن الخطيرة التي خاف منها النبي صلى الله عليه و سلم على امته فتنة النساء، ففي الحديث المتفق عليه عن اسامة بن زيد رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه و سلم قال: ( ما تركت بعدي فتنة اضر على الرجال من النساء ).
فبصلاح المرأة تصلح الأسرة و يبنى المجتمع بالأخلاق، و بفساد المرأة تتفكك الأسرة و يدمر المجتمع بالتخلي عن الأخلاق. و من يتأملِ التاريخ على طول مداه يجد ذلك، فإن من أكبر أسباب انهيار الحضارات و تفكك المجتمعات و تحلل الأخلاق و فساد القيم و فُشو الجريمة فتنة النساء.
و هذا السلاح ( فتنة النساء) أشد فتكا بالمجتمعات من الحروب، و هو ما خطط له اليهود في حربهم على الإسلام لإفساد المجتمع المسلم،
فلقد جاء في البروتوكولات الصهيونية لليهود ما يلي:
"يَجبُ أن نعمل لتنهار الأخلاق في كلِّ مكان؛ لتسهل سيطرتنا، إنَّ فرويد منَّا، و سيظل يعرض العلاقات الجنسيَّة في ضَوء الشمس؛ لكي لا يبقى في نظر الشباب شيء مقدس، و يصبح همُّه الأكبر إرواءَ غرائزه الجنسيَّة و إشباعها، و عندها تنهار أخلاقه".
و يقول المبشر الأمريكي صمويل مارينوس زويمر Samuel Marinus Zwemer "ليس الغرض من التبشير التنصير فقط و لكن تفريغ قلب المسلم من الإيمان، و إن أقصر طريق لذلك هو اجتذاب الفتاة المسلمة بكل الوسائل الممكنة، لأنها هي التي تتولى عنا تحويل المجتمع الإسلامي و سلخه عن مقومات دينه".
 كُتِبَ ولا زال يُكتب في الغرب الكثير من المقالات التي من شأنها صناعة صورة سوداوية عن وضع المرأة المسلمة المأساوي في ظل الحضارة الإسلامية، و لا شك في أن هذه الصورة قد شارك في صناعتها عن عمد وسائل إعلام و مؤسسات ثقافية و جمعيات نسوية و منظمات تنصيرية و هيئات و أحزاب سياسية و تم ترويجها على إعتبارها حقائق لا مجال للشك فيها، و كنتيجة لهذا الدجل (و هي بضاعة الغرب ردت إليهم) سارت النساء المسلمات المخدوعات على طريق المرأة الغربية تقلدها في كل شيء، و أصبحنا نرى صورة نمطية للكاسيات العاريات في عقر المجتمع المسلم.
إن من علامات الساعة الصغرى انتشار التبرج و السفور في دار الإسلام، و خروج نساءٍ يظهرن بألبسةٍ غير شرعية و غيرأخلاقية، تصفُ أجسادهن، أو يظهرنّ بألبسةٍ شفافةٍ تظهرُ منها عوراتهنّ في الجلوس و المشي، فهنّ كاسيات من حيث الظاهر، لكنهن عاريات لضيق أو قصر لباسهن الذي يجسد عوراتهن، و يبرز مفاتن أجسادهن. و لذلك أخبرنا الرسول ﷺ عن الكاسيات العاريات اللاتي سي��رجنا في زمننا هذا و توعدهن بكونهن من أهل النار، ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه، عن النبي ﷺ أنه قال: ( صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، و نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها ) [مائلات أي:عن العفة و الاستقامة، مميلات أي: مميلات لغيرهن بدعوتهن إلى الشر و الفساد، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة أي: يُكَبِّرْنَ رءوسهن بما يضعن عليهن من الخرق و اللفائف حتى تكون مثل أسنمة البخت المائلة، البخت أي: نوع من الإبل لها سنامان بينهما شيء من الانخفاض فهذا مائل إلى جهة و هذا مائل إلى جهة].
إن هؤلاء النساء المخدوعات لا يعلمن أن كرامتهن الحقيقية لن تكون إلا في حياة الإيمان و التوبة و العفة و أخلاق الإسلام. و لا يعلمن أيضا أن هنالك فرقٌ كبير بين حرية المرأة و تحررها، فالحرية ضمنها الإسلام للمرأة ضمن ضوابط شرعية للحفاظ عليها لا للتضييق عليها و مصادرة حريتها، أما تحرر المرأة فهو أن تخرج المرأة عن كل الضوابط الشرعية و الأخلاقية و عن العرف و العادات و التقاليد بحجة "حرية المرأة" و هذا ما لا ترضاه كل إمرأة حرة و فطرتها السوية السليمة تأبى عليها أن تجعل من نفسها سلعة لكل عابث، أو مادة تباع و تشترَى في سوق النخاسة، و لا يعلمن كذلك أن كثيرا من الذين لا يريدون للمرأة المسلمة خيراً ربطوا بين تخلف المرأة المسلمة و تمسكها بتعاليم دينها! و هذا ما يفنده التاريخ فالقارىء الجيد للتاريخ الإسلامي يكشف زيف هذا الإدعاء و أن هنالك الكثير من النماذج النسائية التي يُحْتَذَى بها على مر التاريخ الإسلامي، فقد نبغت النسوة المسلمات الرائدات و العالمات و المكتشفات و الاديبات و المفكرات و المحتسبات و غيرهن بالإسلام و في ظله، و في دراسة للدكتور محمد أكرم ندوي بعنوان “النساء المحدثات في الإسلام”  أثبت أن هناك حوالي ثمانية آلاف عالمة من المحدثات، لم يثبت على أي واحدة منهن في أي وقت كذب ولا تلفيق.
فمكانة المرأة في الإسلام و إنجازاتها العظيمة لم تكن لترى النور لولا إحترام كامل للمرأة نابع من تشريع إسلامي حضاري متقدم على كل التشريعات، و إعطائها الحرية التي تليق بها و بمكانتها الرفيعة التي تستحقها في المجتمع، يجب على كل إمرأة مسلمة مخدوعة بالحضارة الغربية أن لا تسلم عقلها لحضارة الجسد الخالية من الروح، ليس فيها سوى بريق زائف، و لا تسلم عقلها لكل حاقد على الإسلام من الغرب و من المتغربين من أبناء جلدتنا الذين اشتروا الدنيا بعرض من الدين.
يقول المستشرق الفرنسي إيميل درمنغم في كنابه "حياة محمد": "فمن المزاعم الباطلة أن يقال: إن المرأة في الإسلام قد جردت من نفوذها زوجة و أمًّا، كما تُذم النصرانية؛ لعدها المرأة مصدر الذنوب و الآثام و لعنها إياها، فعلى الإنسان أن يطوف في الشرق ليرى أن الأدب المنزلي فيه قوي متين، و أن المرأة فيه لا تحسد بحكم الضرورة نساءنا ذوات الثياب القصيرة و الأذرع العارية، و لا تحسد عاملاتنا في المصانع و عجائزنا، و لم يكن العالم الإسلامي ليجهل الحب المنزلي، و الحب الروحي، و لا يجهل الإسلام ما أخذناه عنه من الفروسية و المثالية و الحب العذري".
عندما اعتنقت الباحثة النروجية صوفي رولد الإسلام، و تعمقت في أدق تفاصيله و تفريعاته خرجت بنتيجة مهمة جدا، حصيلتها: «أن الإسلام أكرم المرأة، كما لم يكرمها دين آخر، و أعطاها ما لم تحصل عليه في أي دين سماوي أو قانون وضعي»، ألفت صوفي كتابها شديد الأهمية «نساء الإسلام برؤية غربية» أثبتت فيه بالأدلة و البراهين أن الإسلام أنصف المرأة و أكرمها و أعزها.
إن المرأة المسلمة الملتزمة، و هي تمشي شامخة في زمن الدجل و الفتن، قد أوتيت من قوةِ الإيمان ما أقام شخصيتَها، و حفِظ عليها نفسَها دون تشويهٍ، فنظرت فيما حولها من مدنيَّة مادية زائفة باطلة، و مظاهرَ العري و السفور التي تحيط بها، و فتنة الناس عن الدِّين، و تقليد أعمى لِما عليه النساء الكافرات، فرَمَتْ بذلك كلِّه إلى أسفل سافلين، و اختارت أحسنَ التقويم الذي أراده الله لها، و لبِست و اختمرت و حققت الزيَّ الإسلامي في نفسها، و دعت زميلاتِها و قريباتها إليه، فأثبتت بذلك أنها هي التي تقودُ نفسَها بنفسها، و أنها تقودُ و لا تُقادُ، و أنها متوافقة نفسيًّا و عمليًّا مع عقيدتها و إيمانها، فهي إذا قالت: إني مسلمة، نطق مظهرُها بذلك، و تحدث عملُها عن هذا الإيمان و الإسلام، و رأى الناس فيها اكتمالاً للشخصية، و توافقًا للمظهر مع المخبر.
Tumblr media
أسباب هيمنة الفكر المادي على الحياة الإسلامية
ترجع أسباب تغلغل الفكر المادي في الحياة الإسلامية إلى جملة من العوامل نذكر منها:
1- حركة التغريب التي كان لها أكبر إسهام في انتشار النزعة المادية في الحياة الإسلامية، فقد كان موقف أصحابها من الحضارة الغربية موقف الاستسلام و الخضوع الكامل، موقف المقلد الْمُسْتَلَب المتحمس، معتقدين بضرورة ذوبان العالم الإسلامي أو جزء منه في هذه الحضارة الغربية المادية الوثنية، و قبولها بمبادئها الأساسية، و مناهجها الفكرية، و فلسفتها المادية و قوانينها الاقتصادية و السياسية التي نشأت و اختمرت في بيئة بعيدة عن بيئتهم، تحت ضغط و توجيه عوامل و حوادث خاصة.
2- ضعف سلطان الدعوة إلى الله، و الربانية و تزكية النفوس، و ندرة الدعاة إلى الله و تجديد الصلة بالله و إصلاح الباطن.
3- قوة تأثير الحضارة الغربية لنفوذها أو القرب من مركزها و بفعل عوامل أخرى...، فأصبحت الشعوب فريسة المادية و الأمراض الاجتماعية و الخلقية، و أصبحت الطبقة المثقفة فريسة الجاه و المنصب و الأمراض الباطنية من حسد و شح و رياء و كبر و أنانية و حب الظهور، و نفاق و مداهنة و خضوع للمادة و القوة.
4- ضعف سلطان العلماء، مع اهتمامهم الزائد بالمظاهر، و خوفهم الزائد من الفقر و سخط الخاصة و العامة، و اعتيادهم المفرط على الحياة الناعمة.
و قد أدت هذه الأسباب و غيرها إلى الوقوع في أزمة عالمية و إنسانية، أزمة قيم و إيمان و حرية و عدالة، فُقِدَتْ فيها القدوة الصالحة على مستوى الشعوب و الأمم حتى أصبحت قطعانا من الغنم لا راعي لها، و هو الفراغ الموجود و الحلقة المفقودة على مستوى العالم الإسلامي بأكمله.
مظاهر الفكر المادي في الحياة الإسلامية
من مظاهر الفكر المادي في الحياة الإسلامية ما تلبست به النفوس من سريان الشك و سوء الظن في الأوساط الدينية و البيوت العريقة في الدين و العلم بتأثير التعاليم الإفرنجية، و ضعف الثقة بالله و بصفاته و وعوده، كما سبب الخوف من المستقبل الابتعاد عن التدين و الزهد فيه و في تعلم علوم الدين، و الانصراف فقط إلى تعلم العلوم المعاشية و تعلم اللغات الأجنبية دون غيرها.
و من أخطر عواقب طغيان المادة على حساب الروح أن يفقد المسلم الحس الديني، فيصبح جاحدا للغيب مكابرا فيما وارء الطبيعة، و معاندا في المعاني الدينية و قاسيا على المواعظ الدينية التي تهز النفوس و ترقق القلوب و تدمع العيون.
و من مظاهر هذا التحول الذي طرأ على شخصية المسلم، أن غابت عن اهتمامه أسئلة الوجود و مصيره و حقائق الآخرة، تلك الخواطر التي فقدت سلطانها على القلوب و الأفكار، و أصبحت هذه الأسئلة لا تحيك في صدر الإنسان، و لا تشغله كما شغلت أباءه و حاكت في صدورهم.
و من مظاهر هذا التحول أن استبدلت الأسئلة الجوهرية المصيرية بأسئلة مادية هي أهم في أعين أبناء القرن الحالي، و لم يشغلوا بالهم بالحياة الآخرة معتقدين أنهم غير معنيين بها، و لا يزال هذا النوع من الناس في ازدياد في كل أمة و بلاد بتأثير الحضارة الغربية.
لقد أدى هذا الوضع إلى اختلال التوازن بين الروح و المادة مما شكل أكبر معيقات أمام الدعوة إلى الله، و أصبحت النظرة المادية طاغية على كل التصورات و السلوكات، ما أنتج هو الآخر مشاكل اجتماعية و نفسية و خلقية، و أبسط ما خلفه هذا الوضع تراجع فاعلية الإيمان في الحياة، و أصبحت المادة هي محرك العلاقات الاجتماعية التي تبنى عليها جميع التعاملات، فحيثما كانت المصالح قامت التعاملات، و حيثما غابت المصالخ إختفت التعاملات.
حل مشكلة الفكر المادي في الحياة الإسلامية
إن الإيمان بالله عز و جل و حضور الآخرة في الحياة الاجتماعية و هيمنتها من غير رهبانية و من غير تعطيل للأسباب المادية، هو الحل لأزمة الفكر المادي في الحياة الإسلامية، و ما ينجر عنه من مشاكل دينية أخلاقية و اجتماعية و اقتصادية.
و حتى لا يترك القرآن الإنسان حائرا في معرفة السبيل، فإنه يعرض النماذج الأمثل لتكون مقايسات يُحْتَذَى بها، و عليه قدم القرآن النموذج الوسط و أثنى عليه لجمعه بين الدنيا و الآخرة مع إيثار جانب الآخرة؛ يقول الله تعالى: { وَ اكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ الَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُون } [الأعراف:156].
و قد تجلت هذه النظرة القرآنية على لسان النبوة حالا و مقالا فكان الرسول ﷺ يقول: « اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة » (رواه أنس بن مالك و أخرجه مسلم) و يقول ﷺ : « اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا » (رواه أبو هريرة و أخرجه البخاري).
و حتى يستأنس الإنسان بنماذج واقعية مثلت التوجيه القرآني، فيكفي أن حياة الرسول الأعظم و آل بيته و الصفوة من أصحابه كانت نماذج عملية مثالية ناطقة.
فالإيمان بالآخرة و ما يتطلبه من عمل و سلوك في الحياة يبقى المقوم الأساسي الذي تنبني في ظله شبكة علاقات متينة متماسكة و مجتمع متين الروابط، ذلك لما يلعبه الإيمان من دور تضمحل فيه الأنا و تنمو الأخوة، تضمر فيه المصالح الفردية من أجل قيام المصالح العامة للأمة، كما يسهم في تكوين مناخ تثمر في جوه القيم الأخلاقية و السلوكية (المفكر الإسلامي أبو الحسن الندوي- المرجع السابق).
40 notes · View notes
tadkiraimania · 2 years
Text
Tumblr media
في هذه المقالة نحاول تسليط الضوء على أزمة التزام المسلمين في عالم يشهد استكبار طاغوت النظام العالمي الجديد أو ما يسمى بالعولمة: عولمة ظاهرها التقدُّم و الرُّقي و الانفتاح الاقتصادي و باطنها السيطرة على العالم و الغزو الاقتصادي و الاستعمار الثقافي. إنه الإفساد في الأرض باسم الحضارة.
Tumblr media
العولمة المتوحشة
العولمة تعني: جعل العالَم عالمًا واحدا، موَجهًا تَوْجِيهًا واحدًا في إطار حضارةٍ واحدة، و يرتكز مفهومُ العولمة على التقدُّم الهائل في التكنولوجيا و المعلوماتيَّة، بالإضافة إلى الروابط المتزايدة على كافة الأصعدة على الساحة الدولية المعاصرة.
و العولمة في الأصل هي: السيطرة على العالم، و جعله في نسق واحد، و ذكر توماس فريدمان (صحفي و كاتب أمريكي) أن العولمة الحالية نوع من الهيمنة الأمريكية، و العولَمة لها تأثيرٌ كبير على حياتنا الدينية و الاجتماعية و الثقافية، فالعولمة تعني بالضرورة: اختراق البنْية الثقافية المحلية، و تفاقم مخاطر الاستلاب و الغزو و الاستعمار الثقافي، بل مخاطر مَحْو الهُوية و نزع الخصوصية الشخصية التي ما زالت الأمم تضحِّي بالأرواح في سبيل الحفاظ عليها.
فالذي نشاهده اليوم في ظلِّ هذا النظام الجديد، و التبشير بالعولمة: دولٌ تفكَّكَتْ كما يحدث الآن في أفغانستان، و الصومال، و العراق، و السودان، و اليمن، و سوريا، و لبنان، و ليبيا،حيث مذابح ضد الإنسان بشكْلٍ عام، و المسلم بشكل خاصٍّ، و ارتكبت دون تحقيق دولي، و كما حدث في البوسنة و الهرسك في قلب أوروبا، و ما حدث في كوسوفا، و ما حدث في رواندا؛ حيث أُبِيد أكثر من نصف مليون مواطن، دون أن تُحَرِّك القوى المهيمنة ساكنًا.
أبرز مخاطر العولمة
للعولمة مخاطرَ ضخمة، و مفاسدَ جمة، من خلال تحوُّل العالم إلى غابة إلكترونية يستعلي فيها الكبار على الصِّغار.
فغاية العولمة هي سيطرة الأقوياء ماديًّا و حضاريًّا على الضُّعفاء، مستخدمين قدراتِهم و سبقهم في توظيف آليَّات العولمة وثمار التقنية لصالِحهم؛ حتى تتمَّ عملية "تغريب العالم"، أو "أمركة العالم"، إستنادا إلى ما دعا إليه الرَّئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون عندما قال: "إنَّ أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، و أنَّنا نستشعر أن علينا التزامًا مُقدسًا لتحويل العالم لصورتنا".
الخطر المجتمعي
يحذر علماء الإصلاح الاجتماعي من أن أسوأ ما يقع على الأمم هو انقسام مجتمعها إلى طبقات الأغنياء و الفقراء، و أنَّ الآثار السيئة لتكدُّس الأموال في أيدي قلة من الناس تسبب تسلُّطهم و تحكمهم في مصير الكثرة، و تسخرهم لخدمتهم بغير حق، فمثلاً: هناك ثلاثة هم أغنى أغنياء أمريكا - على رأسهم بيل جيتس - ثروتهم أكثر من ثروة قارة إفريقيا كلها، التي يزيد بها عدد السُّكان عن 800 مليون نسمة، كما أنَّ حوالي 30% من الثروة في أمريكا يملكها 2.27 مليون شخص، من أصل ما يزيد عن 292 مليون من سكان أمريكا، حسب تقرير الثروة العالمية لعام 2004.
الخطر الثقافي
من أهداف العولمة صهر الثقافات الموجودة في ثقافة واحدة هي الثَّقافة الغربية، و لا سيما الأمريكيَّة، و جعلها النموذج العالمي، مستغلة التقدُّم التكنولوجي في مجال الاتصالات، و ما ترسله عبر الفضائيَّات من سيل جارف من المواد الإعلاميَّة، و تفريغ العالم من الهوية الوطنية و القومية الدينية، فمثلاً: يوجد في العالم 6000 لغة، لكن90 % من برامج الإنترنت تبث باللغة الإنجليزية؛ مما يسبب تهميشًا للغات الأخرى، حتى اللغات الحية منها.
الخطر الاقتصادي
يتجلى الخطر الاقتصادي في السيطرة على رؤوس المال العربية، و استثماراتها في الغرب، فالعالم العربي الذي تتفاقم ديونه بمقدار 50 ألف دولار في الدقيقة الواحدة هو نفسه الذي تبلغ حجم استثماراته في أوروبا وحدها 465 مليار دولار عام 1995م، بعد أن كانت 670 مليارًا عام 1986م، فنتيجة ع��م الاستقرار السياسي و الاقتصادي و التبعية النفسية للغرب؛ تصب هذه الأموال هناك لتدار حسب المنظومة الغربية.
و يتجلى أيضا في الهيمنة الأمريكية على اقتصاديات العالم من خلال القضاء على سُلطة و قوة الدولة الوطنية في المجال الاقتصادي؛ بحيث تصبح الدولة تحت رحمة صندوق النقد الدولي، حين تستجدي منه المعونة و المساعدة عبر بوابة القروض ذات الشروط المجحفة، و خاضعة لسيطرة الاحتكارات و الشركات الأمريكية الكبرى على اقتصاد الدول.
الخطر الديني
1- التشكيك و خَلْخَلة المعتَقَدات الدِّينية، و طمْس المقدَّسات لدى الشعوب المسلمة لصالح الفكر المادي اللا ديني الغربي، أو إحلال الفلْسفة المادية الغربية محل العقيدة الإسلامية، و إضعاف عقيدة الولاء و البراء، و الحب و البغض في الله، و إن استمرار مشاهدة الحياة الغربية، و إبراز زعماء الشرق و الغرب داخل بيوتنا مع ذِكْر أعمالهم و قوتهم و سيطرتهم على غيرهم، و الاستمرار في عرض التمثيليات و المسلسلات المترجمة و الرومانسية، سيضعف و يكسر الحاجز الشعوري بقوة الإسلام، و يرسخ هيمنة الغرْب، فمع كثرة المساس يقل الإحساس.
2- تقليد النصارى في عقيدتهم، و ذلك باكتساب كثيرٍ من عاداتهم المحرَّمة و غير مقبولة، و التي ربما تقْدح في عقيدة المسلم و هو لا يعلم؛ كالانحناء، و التشبه بالنساء, و لبس القلائد ووالصلبان، و إقامة الأعياد العامة و الخاصة، و هذا واضح و منتشر بين الشباب في أشكالِهم و ملابسهم.
3- نشْر الكفر و الإلحاد؛ حيث إن كثيرًا من شعوب تلك الدول لا يؤمنون بدين، و لا يعترفون بعقيدة سماوية، فلا حرج عندهم إذا نشروا أفلامًا تدعو بطريقة أو بأخرى لتعلم السحر و الشعوذة و الكهانة التي يقحمونها في بعض ألعابهم وأفلامهم.
4- استبعاد الإسلام و إقصاؤه عن الحكم و التشريع، و عن التربية و الأخلاق، و إفساح المجال للنظم و القوانين و القيَم الغربية المستمدة من الفلسفة المادية و العلمانية البرجماتيَّة.
5- تحويل المناسبات الدينية إلى مناسبات استهلاكية، و ذلك بتفْريغها من القِيَم و الغايات الإيمانية إلى قيَم السوق الاستهلاكية (كمثال رمضان الذي تحول إلى شهر لاستهلاك السلع و إهمال غايته التعبدية).
6- إنتشار الجمعيات الأهلية المدعومة غربيًّا، التي تقوم بمحاربة الهُوية الثقافية الإسلامية، و إثارة الشبَه و الشكوك حول النظُم و التشريعات الإسلامية، و خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين المرأة و الرجل و قضايا المرأة المسلمة.
7- تغريب الإنسان المسلم، و عزله عن قضاياه و همومه الإسلامية، و إدخال الضعف لديه، و التشكيك في جميع قناعته الدينية، و هويته الثقافية.
8- إشاعة الجنس و الإباحية وثقافة العنف التي مِن شأنها تنشئة أجيال كاملة تؤمن بالعنف كأسلوب للحياة و كظاهرة عادية و طبيعية، و تمجد اللذة و الشهوات، و ما يترتّب على ذلك من انتشار الرذيلة و الجريمة و العنف في المجتمعات الإسلامية، و قتل أوقات الشباب بتضييعها في توافه الأمور، و بما يعود عليه بالضرر البالغ في دينه و أخلاقه و سلوكه و حركته في الحياة، و تساهم في هذا الجانب شبكات الاتصال الحديثة و القنوات الفضائية و برامج الإعلانات و الدعايات للسلع الغربية، و هي مصحوبة بالثقافة الجنسية الغربية التي تخدش الحياء و المروءة و الكرامة الإنسانية (الدكتور إبراهيم الناصر- كتاب العولمة مقاومة و استثمار).
Tumblr media
حقيقة الالتزام بالاسلام
إن الالتزام في مدلوله اللغوي يعني ملازمة الشيء و التمسك به و إلزام النفس به، و على هذا فالملتزم بالإسلام قد ألزم نفسه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، واتخذ الإسلام عقيدة و عبادة و معاملة و أخلاقًا و سلوكًا في الظاهر و الباطن، يعيش المسلم إسلامه في سره و علانيته، في نفسه و مع زوجته و أبنائه و أسرته، و في مجتمعه و مع سائر الناس، فالمسلم الملتزم بدينه لا يتجرد من إسلامه أنى كان، و لو اقتضت ظروفه المعيشية أن يعيش مع غير المسلمين بعيدًا عن البيئة الإسلامية عليه أن يلتزم بدينه، إثباتًا للهوية الإسلامية، و كأن الشخص الملتزم بإسلامه ذكرًا كان أو أنثى إسلام حي في واقع الحياة يمشي على قدمين، و التزام الإسلام بهذا المفهوم هو الالتزام الذي كان سائدًا في سلف هذه الأمة انطلاقًا من الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه. ولا يكون الالتزام بالإسلام في جانب من جوانبه فقط، و إنما يكون الإسلام في عمومه ابتداءً بالتصور و العقيدة، و الملتزم بالإسلام يعبد الله بما شرع وفق تعاليم نبيه، فبه وحده يقتدي، و إياه وحده يتبع، يعصي هوى نفسه، و يستجيب لسنة نبيه، و لا التزام مع مخالفة هدي الرسول، و قد أمر أمته باتباعه و الاستمساك بهديه فقال صلى الله عليه و سلم: ( فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، و إياكم و محدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة ) [رواه أبو داود و الترمذي و قال: حديث حسن صحيح].
إن هناك رجالاً و نساءً و فتيانًا و فتيات يعانون معاناة لا حد لها من أجل التزامهم بدينهم، أحاطت بهم المشاكل و الأزمات، و مع ذلك هم صامدون ملتزمون بدينهم التزاما صحيحًا في نطاق بشريتهم، و لا يرضون أبدًا أن يشار إلى دينهم بسوء، و هم بالتزامهم يجسدون الصورة الحية للصبغة الإسلامية التي صبغهم الله بها {وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138].
الانهزام النفسي عند الشباب المسلم
تستهدف العولمة إعادة صياغة الشريحة الشبابية لأنها تشكل أغلبية سكانية في العالم الثالث و لأن الشباب هم الثروة البشرية الحقيقية لأوطانهم و مجتمعهم ، و الشباب هم أكثر تمردا و رفضا للنظام الاجتماعي و السياسي و أكثر رفضا للعادات في مجتمعاتهم نتيجة لعجزها عن إشباع حاجاتهم الأساسية، و هم الأكثر ميلا لما هو جديد يحركهم الطموح و التطلع إلى المستقبل.
و على هذا تظل قوى العولمة متربصة بالشباب تغذي الإشباع الغريزي لهم تارة من خلال الإعلان و الإعلام و تارة أخرى من خلال السلع التي تتدفق رخيصة في الأسواق أو من خلال إبداع سلع جديدة يستهلكها الشباب وحدهم كالجنس الذي تبيعه التكنولوجيات الحديثة للإعلام أو المعلومات. حيث يميل الشباب لمشاهدة الجنس في الفضائيات أو على شبكة الانترنت أو ممارسته عبر الهاتف، كما أن الشباب هم أسرع تأثرا بالتغيرات العالمية و الإقليمية في ظل ثورة الاتصالات، بالإضافة إلى تطلع كثير من الشباب للهجرة إلى أمريكا و في حالة عجزه عن تحقيق هذا الحلم يحاول تحقيقه في خياله أو تقليد الثقافة الأمريكية أو بعبارة أصح إنه الولع بتقليد المغلوب للغالب الشيء الذي يولد انهزاما نفسيا للشباب، و الهزيمة النفسية من الخطورة بمكان لكونها الممهدة لأي هزيمة حضارية و عسكرية و ثقافية و معنوية و روحية.
فالشباب لا يعي أن العولمة تحارب الثقافة و الهوية العربية الإسلامية من خلال نشر القيم الغربية التي لا مكان لها في القرآن و الشريعة الإسلامية و في عادات و تقاليد و تراث المسلمين، و منها بوجه خاص: تحييد اللغة العربية و إقصائها من المجال الفكري و الثقافي بإحلال اللغة الانجليزية، فرض عملية التنوير و العلمانية على المجتمعات الإسلامية بما فيها الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، فرض الديمقراطية الغربية على المجتمع ، الترويج للائحة حقوق الإنسان غربية المصدر و الثقافة، الدعاية لحرية المرأة و مساواتها بالرجل و رفض تعدد الزوجات، الترويج للحرية الجنسية و السماح بالزواج من الجنس المماثل، و التحلل من كل التزام أخلاقي و عائلي.
إن العولمة تقدم النموذج الأمريكي للشباب على أنه النموذج الأرقى الذي يجب احتذاؤه من خلال الترويج الإعلامي الذي يتكفل بمهمة غسل أدمغة الشباب: من لغة، و وجبات سريعة، و ملابس جينز- تشيرت، و موسيقى الجاز و الميتال الصاخبة، و أفلام عنف و مسلسلات و أغاني مبتذلة، و ترويج الثقافة السطحية و زرع اليأس و السلبية و اللامبالاة، و فقدان الثقة بالنفس.
و مما لاشك فيه أن الهيمنة الثقافية أخطر من الهيمنة الاقتصادية، فالهيمنة الثقافية تعمل على تدمير الإرادة و الشخصية و تشويه المعارف و طمس الهوية حتى يتحلل الشباب من انتماءاته الإسلامية و يصبح مسخا مشوها غير قادر على الإبداع المتميز أو الدفاع عن هويته و عقيدته أو مقاومة أشكال السيطرة و الهيمنة في أبعادها المختلفة.
و نتيجة لذلك انحسر التفاعل الاجتماعي و أصبحت الأنانية الفردية هي المعيار الذي يحكم سلوك الشباب، و انهار الجانب الاجتماعي بسبب ضعف قيمه و معاييره المؤسسة له، و أصبحت الغاية تبرر الوسيلة، فانتشر الغش و الفساد الأخلاقي و ارتفعت نسبة الانحراف بين الشباب، و انتشرت مجموعة من الأنماط الإجرامية كالعنف و الاعتداء على السيدات و ارتكاب الجرائم الجنسية، و ازدادت الاتجاهات السلبية و ظهور و استفحال ثقافة الاستهلاك، و قد أدى ذلك إلى إنتاج شباب يعيش يومه لإشباع حاجاته في مستواها الحيواني، عازفا عن المشاركة في الحياة العامة و منسحبا إلى داخل ذاته (الدكتور محمد عرابي- تأثير العولمة على ثقافة الشباب).
أسئلة اليقظة من الهزيمة الننفسية
– ما الذي يجعل الأفراد و الجماعات و الشعوب و الأمم على مر التاريخ الإنساني تنهزم و تستسلم؟ قد يستساغ ـ على مضض ـ أن يخضع فرد، حزب، جماعة … لكن، كيف نستطيع أن نستوعب خضوع أ��ة و خنوعها؟
– أن يستحسن بعض “العامة” و يتلذذوا بالخضوع و الخنوع، و يحسوا بالزهو و الافتخار في لحظة من لحظات خدمتهم للمترفين، أمر مفهوم، لكن كيف تبرر “الخاصة” من العلماء و المفكرين و المثقفين هزيمتهم النفسية و الفكرية؟ بل كيف يصل بهم الأمر للدفاع المستميت عن أنظمة العسف و الظلم؟
– أن يواجه الكبراء و المترفون الرسل و الأنبياء و المصلحين أمر معلل مفهوم، أما أن تشارك شعوب في محاربتهم، فهذا أمر غريب. فلماذا؟
– ما الذي جعل “المثقفين” في عهد سيدنا موسى ـ و هم هنا مجموعة من السحرة ـ يدافعون عن الباطل الفرعوني، و يعملون على الشرعنة له، و تجميله، ثم التحول بعد ذلك إلى صف الحق الموسوي، و الدعوة له و الموت في سبيله؟
– سلمان الفارسي، هذا الشاب المدلل المنعم، ما الذي اختلج في نفسه؟ ما الذي حركه؟ ما الذي أخرجه حتى هرب من العز و النعيم، و جال و سافر، و شقي و تعب، و بيع و استعبد. ماذا كان يطلب؟ ما الدافع؟
– أصحاب الأخدود: لماذا اختاروا الارتماء في أحضان أخاديد النار على النكوص إلى الخلف و التخلي عن المبدأ؟
– ما الذي دفع “بلعم بن باعوراء” و هو الرجل الصالح الذي علمه الله تعالى اسمه الأعظم أن ينقلب على عقبه، و يتحول إلى غاو يدعو على نبي الله موسى، فكان كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث؟
عوامل ذاتية للهزيمة النفسية
لا شك أن الهزيمة النفسية أمام طاغوت العولمة يعاني منها الكبار و الشباب بصفة عامة، و هناك عدة عوامل تقف وراء الهزيمة النفسية، و سنخلط بشكل واع بين العوامل التي تصيب الأفراد و المجتمعات دون فصل بينها، لأنها متداخلة و متشابكة و يصعب في كثير من الأحيان التمييز بينها.
1- نعتقد بأن العامل الأساسي و المركزي وراء إنتاج هذا المرض النفسي و المجتمعي، يتمثل في قلة الثقة بالله تعالى و بموعوده الذي يحتم انتصار الحق على الباطل، و يحسم في أن ” الأرض يرثها عباده الصالحون”، و أن هذا الدين منصور منتصر إذا التزم حاملوه بشروط النصر المبينة في القرآن، و على رأسها الإيمان ثم التدافع و الإعداد الطويل المتدرج. لأن عنصر الزمن أمر جوهري في كل مطلب تغييري.
2- و يمكن أن نربط بهذا العامل مجموعة من الأسباب التي تدور في فلكه و من جنسه، لكننا سنقتصر على ذكر واحد منها، و هو كثرة الذنوب و المعاصي، التي تعني ـ فيما تعنيه ـ انهزام الإنسان المسلم أمام عقبة شهواته، و استسلامه أمام جبهة النفس و الهوى و الشيطان. و من هنا تكون عناصر المقاومة الداخلية مخربة، فيعجز عن مواجهة التحديات الخارجية و الوقوف في وجهها، و من ثم تكون استجابته بمثابة استسلام و انهزام.
3- العامل الثالث الذي يغرس هذه العلة في نفسية الإنسان المسلم هو ما عبر عنه النبي صلى الله عليه و سلم بالوهـن، أي حب الدنيا، و التنافس و التهارش على ملذاتها، و التشبث بعيشها و لو بشروط غاية في الإسفاف و المذلة. و في المقابل، كراهية شديدة للموت.
4- أما العامل الرابع فيتجلى في غياب مشروع مجتمعي تغييري لدى النخب الثقافية و الاجتماعية و السياسية الطامحة للتغيير، مما يجعلها مرتهنة بالتدبير اليوميّ، و فعلها يكون بمثابة رد فعل على أعمال الآخرين و اقتراحاتهم و اجتهاداتهم. و قد تظن بعضها امتلاكها لهذا المشروع، لكن عدم وضوحه فقها و تنزيلا، يجعل وجوده كعدمه، و يجعل أنصارها يتحركون في حلقة مفرغة، مقدمات بلا نتائج.
5- العامل الخامس يتلخص فيما يقوم به الاعداء من “ضغط منظم” في الزمان و المكان، ماديا و معنويا.
6- العامل السادس يتجلى فيما تقوم به الأنظمة من تضليل ممنهج، و تلاعب بعقول الجماهير بواسطة الإعلام خاصة، و كذا عن طريق نشر الإشاعة. هذا العامل يفرخ آخر من جنسه يتمثل في الترويض الذليل لنفسية الفرد.
7- العامل السابع يبرز على شكل أمراض نفسية عميقة تحول دون النهوض لطلب التغيير، مثل الذهنية الرعوية، التي ترفع شعار: “إن أحسن الناس أحسنت، و إن أساؤوا أسأت”، و عادات سلبية جارفة.
8- خطورة بعض الكتابات و التنظيرات التي تدّعي الواقعية و العقلانية (بعضها بدون خلفيات، و البعض الآخر عن سوء نية)، و هي في العمق منهزمة ذاتيا، و ناشرة لفكر الإحباط و الانبطاح بين صفوف أبناء الأمة.
9- العامل التاسع يكمن في الفقر و الحاجة، و الذي يجعل الإنسان حبيس البحث عن لقمة العيش، غير مبال بما يدور حوله و ما يحاك ضده. فالإنسان الجائع لا يهتم كثيرا بالمبادئ و الأفكار، فهمُّه منصبٌّ أساسا حول لقمته و لقمة عياله، و هو مستعد لأن يتلون بلون من يشبع فاقته، من أجل ذلك قال الفقهاء قديما: ”لا تستشر من ليس في بيته دقيق”.
قراءة في التاريخ: الاستضعاف و التصر
من خلال عرض نموذجين؛ الأول عن غزوة الأحزاب، و الثاني عن واقع فلسطين اليوم ـ نرصد الجامع بينهما: شدة تكالب القوى السياسية و اتحادها من أجل اجتثاث الدعوة و المقاومة، و في المقابل صبر و مصابرة المجاهدين في كلتي المرحلتين التاريخيتين المتباعدتين، ليخرجوا من وهدة الاستضعاف منتصرين، و ليحققوا منعطفا مهما في تاريخ الأمة الإسلامية.
غزوة الأحزاب
قال الله سبحانه و تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا، إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَ إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [الأحزاب:9-11].
في هذه الغزوة نقف عند درسين :
الدرس الأول: يستوقفنا فيه مشهد التبشير من رسول الله صلى الله عليه و سلم، الذي نتج عنه موقفان: موقف التصديق الكامل و الثقة التامة بموعود الله و رسوله. و في ذلك يقول الله تعالى: { وَ لَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ ۚ وَ مَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وتَسْلِيمًا } [الأحزاب:22]؛ قال ابن عباس و قتادة :” يعنون قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة:212]؛ أي هذا ما وعدنا الله و رسوله من الابتلاء و الاختبار و الامتحان الذي يعقبه النصر القريب”.
أما الموقف الثاني فموقف التكذيب و التردد و النفاق، الذي تبناه بعض من كانوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في المعركة، و هم الذين قال فيهم الله تعالى: { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } [الأحزاب:12] و طائفة ثالثة استأذنت النبي في الرجوع، و قال فيهم الله تعالى: { وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَ مَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا } (د[الأحزاب:13].
الدرس الثاني: نتساءل من خلاله عن سر انتصار المسلمين في هذه الغزوة؟ و تحدثنا كتب التاريخ و السير أن العامل السر يكمن أساسا في التضرع و الدعاء إلى الله تعالى، و إظهار الافتقار، و التجرد من الحول و القوة، بعدما أعدوا، طبعا، كل ما في الوسع و الطاقة. و النتيجة، أن الله تعالى نصرهم بوسيلتين لا دخل للمسلمين فيهما:
الأولى: تمثلت في ريح هوجاء مخيفة في ليلة شديدة الظلمة و البرودة، عصفت بخيام المحاصِرين، من قريش و حلفائهم، و شتتت جموعهم.
و الثانية: رجل مشرك أسلم حديثا هو نعيم بن مسعود الغطفاني، نفذ خطة، بمشورة رسول الله صلى الله عليه و سلم، عنوانها الرئيس زرع الشك بين الأطراف المتحالفة، الأمر الذي أربك المشركين، و بعثر أوراقهم.
يحدثنا التاريخ، أن من سنة الله تعالى الخاصة بهذه الأمة، أن يجعل لها سببية غيبية، لا تدخل في حساب العقل: الإيمان عدة، و الصلاة عدة، و الصبر عدة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [البقرة:153].
فلسطين: الابتلاء و المشروع
لماذا لم تنكسر إرادة الشعب الفلسطيني؟
ليست ”قضية فلسطين” قضية محلية، أو صراع على الأرض و الموارد الطبيعية، بل هي مصيرية، دينية عقدية عند طرفي الصراع. و الدلائل تبين أنها بداية المواجهة الحاسمة بين الحق و الباطل: مع المحتل إيديولوجية دينية و تنبؤ بقيام مملكة صهيون الألفية، و مع المسلمين وعد إلهي بمقاتلتهم في بيت المقدس.
و في انتظار المواجهة الهائلة، يفعل التحدي الصهيوني فعله في واقع المسلمين و نفسيتهم. فكيف هي استجابة المسلمين، فرادى و جماعات، لهذا التحدي؟
عرَّت الهزائم المتتالية أمام إسرائيل عن عمق تفكك مجتمعاتنا و انهزامها و فشلها، و أظهرت مدى هوان الحكام العرب و تبعيتهم، في حين أن الآخر الصهيوني، و هو صاحب مشروع، أنشأ دولة لتبقى، حسب تصوره، و لتسود و تسيطر.
المشكلة أن السائد عندنا اليوم أن إسرائيل تحدِّ يستحيل تجاوزه. و مرد هذه الهزيمة النفسية أننا عزلنا هذا العائق و ضخمناه متأثرين بهمومنا اليومية و آلامنا. و الواجب يفرض في هذه الحالة أن نضعه في سياقه التاريخي، و أن نقيسه بمقياس القرآن و السنة.
و في هذا السياق يطمئننا التاريخ الإسلامي أن الأمة مرت بتحديات “وجودية”، و مع ذلك قامت الأمة من كبوتها و سقطتها. و كتب التاريخ تعج بالأخبار و النصوص التي تصور حالة المسلمين أثناء الغزو المغولي (فاجعة المغول) لبلاد الإسلام. و ابن الأثير، كمثال، يتوقف عن سرد الوقائع و الأحداث المفجعة، ظنا منه أن في ذلك نعي للإسلام و المسلمين، و هو القائل: "فيا ليت أمي لم تلدني، و يا ليتني مت قبل حدوثها و كنت نسيا منسيا" (كتاب الكامل)، و أما شيخ الإسلام ابن تيمية وصفها رأي العين و مما قال فيها:"و حدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى"(كتاب الفتاوى).
إن التاريخ يثبت لنا أن الأمم يمكن أن تنهض مهما كانت النكسات إذا توفرت الشروط الضرورية لذلك ( ألمانيا و اليابان بعد الحرب العالمية الثانية كمثال ).
و في تصورنا فإن إسرائيل ستبقى مدة من الزمن، قد تطول و قد تقصر، من أجل امتحاننا و تمحيصنا، و هذا يدخل في مجال ما يسمى بـ ”أمر الله الكوني“، ستبقى حتـى تنضج فينا شروط النصر، و في نفس الوقت هي مشروع إعداد جيل عودة الأمة إلى أداء دورها الطليعي الرسالي.
فما العمل؟
علينا أن نفهم أولا ثم نتحرك؛ نفهم و نستوعب و نعي تاريخ الأنبياء، الذي يعلمنا أن الأقوام الذين تمردوا على الله تعالى و آذوا رسله، و أهانوا عباده، و شكلوا عقبة أمام انتشار الدعوة و تربعها في قلوب الناس، أزاحهم مبدأ “تداول الأيام” بطريقة رهيبة من مسار التاريخ، و أصبحوا عبرة و تذكرة .
و بعد الفهم، يأتي الاستعداد لموعود الله ـ و هو المعروف في سورة الإسراء بـ” وعد الآخرة” ـ مع القَبول، بقلب مطمئن، بشروط المعركة، كما قبلها رسل الله تعالى، و التشبث مثلهم بعنصر الزمن و الإعراض عن المعارك الجانبية اللاهية. فمن سنة الله تعالى مع عباده، أن يمن عليهم بالنصر و التمكين بعد الفتن و الامتحان: تمحيصا و حصحصة. و صدق الله العظيم إذ يقول: {حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَ لَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [يوسف:110] (الهزيمة النفسية أو عندما تنكسر الإرادة- عبد الهادي المهادي- هسبريس 2014).
Tumblr media
الاعتزاز بالإسلام
العزة خلق محمود، و هي من أعظم أخلاق الإسلام، فالمسلم لا يهان و لا يستضعف و لا يستخف به، وأعظم ما يعتز به المسلم دينه و كتاب ربه عز و جل.
و قد حرم الإسلام على المسلم أن يهون، أو يستذل، أو يستضعف، أو تخدش كرامته و تجرح عقيدته، فالعزة و الإباء و الكرامة من أبرز الخلال التي نادى الإسلام بها، و غرسها في مجتمع الأمة الإسلامية. قال الله عز و جل: { و حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَ لَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [يوسف:110].
و من خلال نموذجين من القصص التي سجلها لنا التاريخ نتأمل فيهما عظمة الاعتزار بالإسلام و الثبات على الحق و الاستعلاء على الباطل و الثقة بالله تعالى و الدعوة إليه:
النموذج الأول: الصحابي ربعي بن عامر
في غزوة القادسية أرسل رستم قائد الروم إلى سعد بن أبي وقاص قائد المسلمين أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه و يكلمنا، فأرسل سعد ربعي بن عامر إليهم .
فدخل ربعي عليهم و قد زين رستم مجلسه بالنمارق المذهبة و الزرابي المبثوثة و أظهر اليواقيت و الوسائد المنسوجة بالذهب و الزينة العظيمة و غير ذلك من الأمتعة الثمينة.. و عليه تاج من الذهب و يجلس على سرير من الذهب، فدخل عليه ربعي بثياب صفيقة و معه سلاحه و سيفه الذي وضعه في خرقة و ترس و فرس قصيرة .. و لم يزل راكبًا الفرس حتى داس بها على البساط.. ثم نزل و ربط حبل فرسه بوسادتين شقهما، فلما اقترب من رستم قال له الجنود : ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم و لكني أتيتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا و إلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل ربعي و هو يمشي و يمزق الوسائد و النمارق التي في طريقه فلم يدع لهم وسادة و لا نمرقًا إلا أفسدها و هتكها، فلما أقبل عند رستم قال له: ما جاء بكم؟ فقال ربعي كلمات سطرها التاريخ، كلمات حُقَّ لها أن تكتب بمداد من ذهب، قال : ( الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، و من ضيق الدنيا إلى سعتها، و من جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه و رجعنا عنه، و من أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله ) فقال رستم: و ما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى الدخول في الإسلام و النصر لمن بقي.
فقال رستم : قد سمعنا مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا، فقال: نعم .. و لكن كم أحب إليكم؟ يومًا أو يومين؟ قال : لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا و رؤساء قومنا و نتشاور في أمرنا .. فقال له ربعي: ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نؤخر القتال أكثر من ثلاث ليال فانظر في أمرك و أمر قومك ثم اختر واحدة من ثلاث بعد ثلاث ليال : إما الإسلام، و إما القتال، و إما الجزية عن يد و أنتم صاغرون، و أنا كفيل بذلك عن أصحابي.
فتعجب رستم و قال له: أسيدهم أنت حتى تقرر؟ فقال: لا، و لكن المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض يجير أدناهم على أعلاهم .
فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أرجح و أعظم عزًا من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا و تدع دينك إلى هذا الكلب – أي تدخل في الإسلام – أما ترى إلى ثيابه؟ فقال رستم: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب و لكن انظروا إلى الرأي و الكلام و السيرة، إن العرب يستخفون بالثياب و المأكل و يصونون الأحساب (موقع الكلم الطيب).
النموذج الثاني: السلطان عبد الحميد الثاني
توفي السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله عن عمر 57 عاما، قضى ثلاثة عقود منها في حكم دولة مترامية الأطراف تنوء بحملها الثقيل، فكان شغله الشاغل طوال هذه الحقبة إنقاذ "الرجل المريض"، أو تأجيل حتفه يوما على الأقل، و هو اللقب الذي أطلقه الأعداء المتربصون على الدولة العثمانية في عصر الأفول.
كانت ثمة مواقف و تحديات أثقلت كاهل الخليفة، و جعلت من تصديه المتواصل لها أسطورة تاريخية ما زالت تلهم الأدباء و الشعراء و مبدعي الدراما حتى يومنا هذا. و أوجز أمير الشعراء أحمد شوقي المأساة بلسان الأمة قائلا:
ضجَّت عليك مآذنٌ و منابرٌ و بكت عليك ممالك و نَواح
و لقد سجل لنا التاريخ قصة السلطان عبدالحميد الثاني رحمه الله مع صهاينة اليهود، كان تيودور هرتزل مؤسس المنظمة الصهيونية هو الذي حوَّل قضيَّة اليهود الصهيونية إلى قضيَّةٍ عالميَّة! و تمكن هرتزل في 17 مايو 1901م من تدبير لقاء مع السلطان عبد الحميد الثاني في إسطنبول، و عرض عليه أن يدفع اليهود ثلاثة ملايين جنيهًا إنجليزيًّا إلى الدولة العثمانية، في مقابل السماح لهم بالهجرة إلى فلسطين، و إقامة وطنٍ تابعٍ للدولة العثمانية يدفعون فيه الجزية لها، و لكن السلطان رفض بإصرار. غادر هرتزل إسطنبول، لكنَّه لم ييأس، بل أرسل مع بعض المقرَّبين يُقدِّم عرضًا ماليًّا جديدًا.
و هنا قال السلطان كلمته الشهيرة التي أغلق بها باب الحديث مع هرتزل و الصهاينة: «إنصحوا الدكتور هرتزل بألَّا يتَّخذ خطواتٍ جدِّيَّةً في هذا الموضوع؛ فإنِّي لا أستطيع أن أتخلَّى عن شبرٍ واحدٍ من الأرض، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمَّة الإسلاميَّة التي جاهدت في سبيلها، و رو��ها بدمائها. فليحتفظ اليهود بملايينهم، و إذا مُزِّقت دولة الخلافة يومًا فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أمَّا و أنا حيٌّ، فإن عمل المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بُتِرت من الدولة الإسلاميَّة، و هذا أمرٌ لا يكون. إنَّني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا و نحن على قيد الحياة» (موقع قصة الإسلام).
يقول المستشرق الفرنسي لو شاتلي: "إذا أردتم أن تغزوا الإسلام و تكسروا شوكته، و تقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كلّ العقائد السابقة و اللاحقة لها، و التي كانت السبب الأول و الرئيسي لاعتزاز المسلمين و شموخهم، و سبب سيادتهم و غزوهم للعالم، فعليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم، و الأمة الإسلامية بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم، و كتابهم «القرآن» و تحويلهم عن كلّ ذلك بواسطة نشر ثقافتكم و تاريخكم، و نشر روح الإباحية، و توفير عوامل الهدم المعنوي" (كتاب حقبة من التاريخ للشيخ عثمان بن محمد الخميس).
قال الله سبحانه و تعالى: ﴿ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون:8]، فإن عزة الله قهره من دونه، و عزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها، و عزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم،
و قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر:10]. و بعض الناس تجده يتنازل عن أشياء من دينه ليرضي الكفار و يبين تسامح الإسلام، و هذا من الذل و ليس من العز، فالمسلم يرفع رأسه بهذا الدين و يفخر به،.
فخور بإسلامي
إن الاعتزاز بالإسلام و الانتساب إليه هو من أهم أسباب الرفعة للأمم، و هذا عمر الفاروق رضي الله عنه يسطر هذه القاعدة خالدة إلى يوم الدين فقال: "كنا أذلة فأعزنا الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة في غير الإسلام أذلنا الله".
فإلى اللاهثين وراء الطواغيت، و إلى الراكعين لأعدائهم، و إلى الراكضين وراء المال و الجاه، و إلى المفتونين بمتاع و زينة الكفار، و إلى المعتكفين في محراب المذاهب و الأفكار الضالة، و إلى الغارقين في شهوات الدنيا: هلا تمعنتم في قول الفاروق الذي لم يكن في قومه في الجاهلية ذليلا و لم يكن عبدا مهانا و إنما كان سيدا مهابا و رجلا عزيزا و مع ذلك يقول هذه المقولة عن تجربة و خبرة و علم.
لو رجعنا إلى القرآن و السنة النبوية و سيرة الصحابة الكرام و التابعين و من تبعهم من الصالحين، و إلى تاريخ و تراث و ماضي أمتنا، لوجدنا سنة إلهية تمضي على نسق واحد: كلما رجعت الأمة إلى دينها و تمسكت به، سادت الأمم و وصلت إلى القمة، و كلما حادت عن الطريق و ابتعدت عن الإعتزاز و الافتخار بهذا الدين سقطت في أودية الذل لا يرفعها إلا عودتها لدينها و تمسكها به و اعتزازها به.
قال الله سبحانه و تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النور:55-56].
وإنَّ مْن يتأمَّل تاريخ الإسلام الطويل في سائر العصور و شتَّى الأمصار، لَيتَجلَّى له حفْظ الله للإسلام، و صدْق وعده ببقائه و ظهوره على سائر الأديان، و تحقيق وعْد الله جلَّت قدرته للمؤمنين بالعز و التَّمكين، و النصر المبين على سائر أعداء الدين، مهما كانوا عليه من قلَّة العدد و ضعْف العُدد، و مهما كان عليه أعداء الدين من كثْرة في العَدد و قوَّة في العُدد، و إنَّ ذلك ممَّا يبعد خواطر السلبية و التشاؤم عن القلوب، و يَبعَث على التفاؤل بتمَكُّن الإسلام في القلوب، و ضرورة غلبته و ظهوره و هَيْمَنته على سائر الأمم و الشُّعوب.
و رغم جُهُود أعداء الإسلام الجبَّارة في حرب الإسلام و كثْرة مُؤامَراتهم و مُؤتَمراتهم على أهله على الدَّوام، فإنَّ الصَّحوة في المسلِمين قد عمَّت الآفاق، وأَغاظَتْ بحمد الله الكافرين و أهل النِّفاق، فعلى المسلمين أن يثقوا بوَعْدِ الله بالنصر للإسلام و المسلمين، و يستَقِيموا على الإسلام و يدعوا إليه، و يدافِعُوا عنه، ليكونوا من أولياء الله المتَّقِين و أحبابه المؤمنين و جنده الغالبين؛ قال الله سبحانه تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر:51]؛ أي: بالحجة و البرهان و النصر، في الآخرة بالحكم لهم و لأتباعهم بالثواب، و لمن حاربهم بشدة العقاب (تفسير السعدي).
و في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد عن تميم الدَّاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( ليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ اللَّيل و النَّهار، و لا يترك الله بيت مَدَرٍ و لا وَبَرٍ إلَّا أدخله اللهُ هذا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، و ذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر) [ المدر: الطين، الوبر: صوف أو شعر].
و في حديث الملحمة الكبرى بشَّر الرسول صلَّى الله عليْه و سلَّم بانتصار المسلمين على اليهود و الرُّوم آخِر الزمان، و بفتح روما عاصمة الفاتيكان؛ روى معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( عمران بيت المقدس خراب يثرب، و خراب يثرب خروج الملحمة، و خروج الملحمة فتح القسطنطينية، و فتح القسطنطينية خروج الدجال ) [رواه أبو داود].
و قال الله سبحانه و تعالى: ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم:6].
إذن لا بد لكل مسلم و مسلمة أن يعلنها مدوية: ديني الذي أحمل هو الإسلام، فخور بإسلامي و سأبقى فخورا بإسلامي، فهو الدين الحق الذي سينقذ البشرية و يخرجها من ظلم الظالمين و قهر الطواغيت و جور الأديان إلى عدل الإسلام، و يخرجها من الهوان و الذل الذي تغرق فيه إلى عزة الإسلام، و إن الله عز و جل على كل شيء لقدير.
 ملحوظة: الفديو أسفله قمت بتصميمه سابقا و نشرته على حسابي بالأنستقرام: https://www.instagram.com/ac.hraf8198
إستمعت إلى الأنشودة أكثر من مرة، فألهمتني موضوع كتابة هذه المقالة، و ارتأيت أن أدرجها هنا مسكا للختام.
52 notes · View notes
tadkiraimania · 2 years
Text
Tumblr media Tumblr media
إن الغرب عبر تاريخه الطويل من المواجهة الفكرية و الدينية مع العالم الإسلامي كان دائما يميل إلى الطعن في مقدسات الإسلام و في شخص النبي ﷺ، و هو ما لم يتغير عبر قرون طويلة من العلاقات مع الغرب.
و برغم الاختلاف في التوجهات و المدارس الفلسفية و الفكرية في الغرب عامة، إلا أن هناك قدرا مشتركا و واضحا من المفاهيم الأساسية عندما يتعلق الأمر بحضارة الإسلام و رسوله ﷺ.
ظلت الثقافة الغربية السائدة تنتهج الكذب و الافتراء على الرسول ﷺ من رجال الدين و المستشرقين و المؤرخين، حتى كون ذلك الكيان المعقد الذي ملىء حقدا و حسدا، فكان نتاجه نفي الرسالة و نبوة الرسول ﷺ و معاداته و تكذيب القرآن الكريم الذي جاء به إلى غير ذلك.
و لذا فقد أضحى الرسول ﷺ مشكلة تاريخية مزمنة حتى الآن في أدبيات الفكر الغربي فأصبحت النظرة أمام هذه الافتراءات التي رسخت في الثقافة الغربية لقرون طويلة موقفا عدوانيا ضد النبي ﷺ و ضد القرآن، لا رجعة فيها يتلقاه لاحق عن سابق، و يتواصوا به كما تواصى منكروا النبوات من الأمم السابقة أمة بعد أمة و جيلا بعد جيل بتكذيب الرسل و الأنبياء؛ قال تعالى: { كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:52-53].
و لا ننكر أن في الغرب أناس عقلاء نظروا إلى الرسول ﷺ و الإسلام نظرة إنصاف و إن لم يؤمنوا به و بدعوته و عددهم قليل، على رأسهم العالم الانجليزي سير توماس ارنولد Arnold sirthomas الذي أدلى بشهادته في كتابه الدعوة إلى الإسلام؛ على زيف دعاوى انتشار الإسلام بالسيف و العنف و الحرب و الإكراه - و هي دعاوى روج لها و لا يزال مشروع الهيمنة الغربية- فيعلن بالحقائق الموضوعية، أن انتشار الإسلام إنما حدث، بهذه الصورة المدهشة في سرعتها و قوتها، لسببين أساسين:
أولهما: الضعف الذاتي و المزمن الذي أصاب النصرانية، و الإفلاس الذي أصاب كنائسها المتناحرة و ما أثمرته من الانقسامات و التناقضات العدائية في صفوف المؤسسات الكنسية.
و ثانيهما: سماحة الإسلام و بساطته و منطقه العقلاني و القوة الذاتية التي امتلكها و تميز بها هذا الدين عن غيره من الديانات ،( الدكتور محمد عمارة- كتاب الإسلام في عيون غربية بين افتراء الجهلاء و إنصاف العلماء).
و قد ذكر الدكتور محمد عمارة في كتابه هذا شهادة 32 عالما غربيا بالترتيب و على رأسهم العالم الانجليزي سير توماس أرنولد و قال في حقهم: " إلا أن العدالة و الإنصاف يدعواننا إلى إبراز الوجه المشرق للغرب الحضاري ، و الذي تمثل في العلماء الغربيين الذين عبروا عن حقيقة الإنسان الغربي و موضوعية العلم الغربي، و أثمن ما في الثقافة الغربية، عندما درسوا الإسلام و حضارته دراسة العلماء المجتهدين فأنصفوه، و شهدوا له شهادات صدق، نتعلم منها نحن المسلمين، و نقدمها نحن للإنسان الغربي الذي ضلله الإعلام الغوغائي عندما شحن عقله و وجدانه بثقافة الكراهية السوداء للإسلام".
Tumblr media
مدلول الإسلاموفوفيا
من أكثر المصطلحات شيوعا في زماننا المعاصر، هو مصطلح الإسلاموفوبيا (islamophobia) أو الرهاب من الإسلام، و اختلفت التعريفات بخصوصه، و يكفي أن نعلم أن الغرب هو الذي ابتكر مصطلح (islamophobia)، و من ثم تعددت الترجمات العربية في تحديد المعنى المقصود بدقة، فمن قائل بأن الخوف أو الرهاب من الإسلام يعني: رفض الإسلام كديانة، و كطريقة حياة، و كمشروع تعتمده مجموعة أو طائفة من السكان، و كمشروع ثقافي أيضا، كما نظر إليه على أنه خوف يمنع التواصل و التبادل و الحوار الذي يجعل من المسلم الشخص المسؤول عن كل آثار العنف و التخريب في المجتمع و العالم، و أن الإسلام مناقض لللعقل، و أنه يصطدم مع الإسهامات العلمية التي يقدمها العلم التجريبي بالذات.
و عليه فالرهاب من الإسلام أو الاسلاموفويا يترجم إلى العداء و الخوف و الرهاب من كل ما هو إسلامي، أو ما يمت بصلة قريبة أو بعيدة للإسلام، حتى أصبح الإرهاب في قاموس العقل الغربي مرادفا للإسلام.
و من خلال تحليل محتوى الأفلام السينمائية و الرسوم المتحركة و صور الكاريكاتير، تتفق الدراسات على أن وسائل الإعلام الغربية عموما تكرس الصورة الذهنية السلبية عن العرب و المسلمين،. و تزرع بذلك في عقلية الرأي العام و العالم خوفا و فزعا لا شعوريا، و كراهية و رفضا عشوائيا للإسلام فكرا و ممارسة.
و لذلك فمصطلح الإسلاموفوفيا هو مصطلح سياسي حكومي ( وصل عدد المنظمات المناهضة للإسلام في أمريكا 114 منظمة في عام 2017) يستهدف إقناع المجتمع الغربي بوجود تناقض صارخ مع الإسلام حسب مقولة أن الإسلام هو الخطر الجديد (الخطر الأخضر) القادم نحو البلدان الغربية من الشرق، خصوصا بعد زوال الخطر الشيوعي (الخطر الأحمر) في الاتحاد السوفييتي.
و الإسلاموفوبيا لا تعني الخوف من رفض المسلمين لقيم و ثقافة الغرب التي تسعى أمريكا و أذنابها إلى عولمتها على باقي شعوب العالم من أجل استعبادها، بل تعني خوف الغرب من إنهاء الإسلام لهذا المخطط الدنيء، و لا يسعنا إلا أن نقول بأن الإسلام لا يبغضه إلا إثنان جاهل أو صاحب هوى (الدكتور الدراجي زروخي - كتاب خرافة الإسلاموفوبيا).
إن الغرب يخشى الإسلام ليس بسبب بعض الممارسات التي يقوم بها المسلمون، كالتفجيرات و خطف الرهائن و الاستيلاء على الطائرات، بل الغرب يخشى من الإسلام كإسلام، لأن الإسلام يحمل في ثناياه أشياء كامنة تتسبب بسرعة انتشاره و إقناعه للآخرين، يقول صامويل هنجتون في كتابه صدام الحضارات في معرض حديته عن مسببات انتشار الإسلام: "لا ٱدم سميث و لا جيرفسون، سيفي بالاحتياجات النفسية و العاطفية و الأخلاقية للمهاجرين الجدد -داخل أمريكا- و لا يفي بها الدين المسيحي و إن كانت فرصته أكبر، فعلى المدى الطويل محمد سينتصر، فالمسيحية تنتشر بالتحول بينما الإسلام ينتشر عن طريق التحول و التناسل".
و يقول أيضا: " يقول بعض الغربيين بما فيهم الرئيس كلنتون، إن الغرب ليس بينه و بين الإسلام أية مشكلة، و إنما المشكلات موجودة مع بعض المتطرفين الإسلاميين. أربعة عشر قرنا من التاريخ تقول عكس ذلك، العلاقات ما بين الإسلام و المسيحية كانت عاصفة ��البا، صراع القرن العشرين بين الديمقراطية الليبرالية و الماركسية اللينينية ليس سوى ظاهرة سطحية و زائلة إذا ما قورنت بعلاقة الصراع المستمر و العميق بين الإسلام و المسيحية".
نشأة الإسلاموفوبيا
إن ظاهرة الإسلاموفوبيا ظاهرة قديمة جديدة، قديمة قدم الدين الإسلامي نفسه، و إن كانت تصاعدت حدتها في عالم اليوم. و ترجع بداية الإساءة إلى مقدسات الدين الإسلامي، و بالتحديد الإساءة إلى شخصية الرسول ﷺ، إلى بداية ظهور الإسلام في مكة.
و قد وجهت أولى الإساءات الشخصية لرسول الله ﷺ من قبل مشركي مكة الذين كانوا يعبدون الأوثان أندادا من دون الله تعالى، ثم تلاهم اليهود أعداء الدين، حين هاجر الرسول ﷺ إلى المدينة حيث سكنها بعض اليهود بعد الشتات، و بدأت أحقادهم تظهر للرسول ﷺ و للمسلمين. و بعد انتشار الدعوة الإسلامية و بعد أن قويت شوكة الإسلام ظهر المنافقون.
فهذه هي الفئات الثلاث التي كانت تؤذي رسول الله ﷺ في حياته، بل ما زالت مستمرة إلى الآن، فإيذاء الأنبياء عليهم السلام سُنَّةٌ ماضية، و التاريخ خير دليل على ذلك، فما بعث الله نبيا إلا و أوذي؛ قال الله تعالى: { وَ كَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَ مَا يَفْتَرُونَ } [الأنعام:112].
و من إرهاصات نشأة مصطلح الإسلاموفوبيا الحروب التي نشبت في العصور الوسطى بين المسيحيين و المسلمين حول بيت المقدس لأخده من المسلمين و السيطرة عليه، فالحروب الصليبية كانت حروب دينية و محاولة لطمس الهوية الإسلامية و محاربة الإسلام و المسلمين بأشكال متعددة من أجل إنهاء وجود الدين الإسلامي لأنه كان يشكل خطرا على الغرب. و لم تحسم الحروب الصليبية الأمر في حكم بيت المقدس، و انتقل حكم المسجد الأقصى لليهود و لا يزال إلى يومنا هذا.
و تعتبر حادثة 11سبتمبر 2001 (التفجيرات التي نفذها تنظيم القاعدة و استهدفت برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك و مبنى البنتاغون بالعاصمة الأمريكية واشنطن) من أهم و أخطر الحوادث التي كانت من أسباب ظهور مصطلح الإسلاموفوبيا، و كانت ذريعة لتبرير و تنامي كراهية الغرب للإسلام، و التي كانت سببا في شيوع مصطلح الإرهاب و ربطه بأي حادثة عنف تحدث بالإسلام و المسلمين. فأخذ الغرب يوهم العالم بأن طبيعة الدين الإسلامي هي سبب تنامي ظاهرة الخوف منه، من خلال أنه دين يقوم على مبادئ تدعو إلى العنف و يستشهدون بالعديد من آيات القرأن الكريم و الأحاديث الشريفة المعروفة لدى المسلمين بالجهاد.
و وجد الغرب بعد تلك الحادثة ذريعة لمحاربة الإسلام و اتهامه بالإرهاب، و سعى إلى محو كل ما يتعلق بالإسلام و المسلمين، و حاول و لا يزال يحاول الفصل بين المسلمين و القرآن و السنة الشريفة، و يعمل على تدمير أخلاق الشباب المسلم و تفريقهم و تمزيق وحدتهم و تماسكهم، كل هذا بسبب الخوف من نهضة إسلامية و ظهور الإسلام كقوة تهدد الغرب و تهدد مصالحه، و ليس تخوفا على مصير الشعوب، و هناك فرق شاسع بين الإثنين.
Tumblr media
رسولنا ﷺ يزف لنا بشارات عظيمة لهذا الدين، و أن المستقبل للإسلام، حديث ينطلق من قول النبي ﷺ: ( بشّر هذه الأمة بالسناء و الدين و الرفعة و التمكين في الأرض ) [رواه أحمد، و ابن حبان، و الحاكم، و قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه]، و السناء يعني: العلو و الارتفاع.
إنه حديث في وسط اليأس و الإحباط الذي يشعر به الكثيرون اليوم من تكالب الأعداء، و ضعف المسلمين، و لكن الله رحيم بعباده و الفرج آت لا ريب.
هذا التبشير بالنصر و التمكين لهذا الدين يأتي بهذه الأجواء كما أسلفنا، و لكن المؤمن يعرف بأن الحال لم يستمر، و أن القوة لن تستمر للكفار، إننا نعيش في وقت استثنائي فعلاً، يجب علينا أن نفقه ونفهمه، و أنت لو تأملت منذ بعثة النبي ﷺ حتى الآن وجدت أن أكثر الوقت الذي عاشته هذه الأمة كان النصر لها، و أن الوقت الذي كان فيه المسلمون في استضعاف كمرحلة غزو التتار أو الحملات الصليبية، أو الوقت الحاضر الذي نعيش فيه هو الأقل و ليس الأكثر في هذه الأمة، و إذا عرفنا النصوص الشرعية التي تخبرنا بأن القوة للمسلمين، و أن النصر لهم، و أن هذا هو الأصل، يجب أن نقتنع بأن هذا هو الأصل، و ان ما نحن فيه الآن من الضعف هي مرحلة استثنائية، عندما يشعر المسلم بهذا و يعتقد به يختلف وضعه و يجتهد و يعمل لهذا الدين، لأنه يرى فُسحة، و يرى أملاً و نورا و فجراً سيأتي و لا بد.
و من النصوص الشرعية الدالة على هذا قول الله تعالى: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [سورة الصف: 9] إن وعد الله لا يتخلف.
و الله عز وجل قد أهلك القرون من قبلنا من الكفار، و سيهلك هؤلاء و لا بد { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَ أَكِيدُ كَيْدًا، فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ] [سورة الطارق:17]. و يمكرون: هؤلاء النصارى و اليهود، و غيرهم اليوم من المجوس، و الهندوس، { وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ] [سورة الأنفال:30]. هؤلاء ستبيد قراهم، و سيزول ملكهم؛ لأن الله تعالى قال: { وَ كَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَ رُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَ عَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا، فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَ كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا } [سورة الطلاق:8-9].
كم مليون من الكفار مات في الحرب العالمية الثانية؟ خمسين مليون، و كم دمر من مدنهم؟ و كم سقط من دولهم؟ كثير جداً، ما مضى زمن طويل عليه، و الله قادر على تدميرها مرة أخرى، و إهلاك الملايين الكثيرة من هؤلاء الكفار، فقد أرانا الله عما قريب آيات فيهم، و سيرينا آيات بمشيئته سبحانه و تعالى.
هؤلاء ينفقون اموالهم ليصدوا عن سبيل الله، كما يحدث اليوم بوضوح شديد، { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ] [سورة الأنفال:36].
و هذه البشائر النبوية تتوالى في أحاديث الرسول الصحيحة ﷺ، و يقسم على ذلك فيقول ﷺ : (و ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ) [رواه البخاري].
و كذلك فإن النبي ﷺ قد أخبر عن انتشار دينه في العالم، فقال: ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل و النهار، و لا يترك الله بيت مدر و لا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، و ذلاً يذل به الكفر ) [حديث رواه أحمد، و قال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم].
و قال الرسول ﷺ: ( إن الله زوى لي الأرض فرأيتُ مشارقها و مغاربها، و إن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِيَ لي منها ) [رواه مسلم]. زوى يعني: جمع و ضم، فإذا حدثك أحد بأن النبي ﷺ رأى قارة أستراليا و قارة أمريكا فلا تكذبه؛ لأنه قال: إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها و مغاربها فاطلع عليها كلها ﷺ و أخبر بأن ملك أمته سيبلغ المشارق و المغارب، و هذا لم يحدث بعد، فلماذا لا نتعبد ربنا بالتصديق بوعده، و نتقرب إليه بالتصديق بوعد رسوله ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى، و هو الذي بشرنا بفتح روما بعد فتح القسطنطينية، فقد سئل الرسول ﷺ: ( أي المدينتين تفتح أولا؟ القسطنطينية أو الرومية؟ فقال رسول الله ﷺ: مدينة هرقل تفتح أولا ) [رواه أحمد، و الحاكم، و حسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة].
و هو الذي أخبرنا أنه سيكون بعده ﷺ بعد منهاج النبوة خلافة على منهاج النبوة، ثم تكون ملكا عاضاً، ثم تكون ملكا جبرياً ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، و هذا لم يأت بعد ( محاضرة صوتية: لا تيأس فإن النصر قادم - الشيخ محمد صالح المنجد).
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: ( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء رفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ) [رجاله ثقات، و سنده صحيح و قد صححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة].
و في الحديث عن هذه المراحل يقول الشيخ سعيد حوى رحمه الله تعالى: "و واضح أن الدور الأول و الثاني انتهى بزوال الخلافة الراشدة، و أن الدور الثالث استمر حتى زوال الدولة العثمانية، و أن الدور الرابع هو الذي نحن فيه و أن الدور الخامس قادم بإذن الله"
و في هذا الحديث أن مرحلة خَيِّرَةٌ ينتظرها الناس، و هي مرحلة الخلافة على منهاج النبوة، و التي تمسح عن الناس آلام الماضي، و شدة الحكم الجبري، و عوامل ضعف المسلمين، و هذه المرحلة المذكورة هنا قادمة بعون الله تعالى، و إن لم تدركها أعمار بعض السامعين للبشارة إلا أنها واقعة لا محالة و لا يحتج عليها بكثرة السنين لأن صعود الأمم إلى مدارج العلى و الرفعة لا يرتبط بأعمار الأشخاص و لذا فقد يطول في نظر المتعجلين من الناس.
لكنه آت بعون الله تعالى و يسألونك متى هو؟ قل عسى أن يكون قريب، فتكتحل عيون المسلمين برؤية الإسلام عزيزا تقوم دولته و تعلو رايته و يهاب الناس جانبه، و يحيا الناس حياة العدل و الأمان في ظل الإسلام و تحت راية القرآن، ليضرب للناس المثل الواقعي تحت تطبيق هذا الدين في واقع الناس و بعد أن مرت عليهم التجارب المختلفة التي ما رأوا فيها إلا الأذى و الفساد ( أحاديث عودة الخلافة الراشدة في آخر الزمان- د. محمد أبو صعيليك- موقع السبيل).
Tumblr media
إن الطعن في شخص الرسول ﷺ هو أكبر قضية في مشروع الاسلاموفوبيا الغربي، فقد تجلت حرية التعبير عند الغرب في أن يستهزئوا بأعظم خلق الله عليه الصلاة و السلام، و لكنهم على ما يبدو لم يجدوا شيئاً علمياً ينقدون به الإسلام فلجأوا لمثل هذه السلوكيات اليائسة. بعدما فشلوا في إخراج أي خطأ علمي أو لغوي من القرآن الكريم أو أحاديث الرسول الأعظم يقنعون به أتباعهم.
لقد كان المسيئون القدامى من الكفار و المشركين و المنافقين و اليهود و النصارى متشابهين في أسلوب رفض الإسلام و إنكاره و الطعن فيه و في رسول الله ﷺ، فقد سخروا و استهزأوا منه ونعتوه بالسحر و الجنون و الكهانة و الشعر، و كذبوا بالبعث و استعجلوا العذاب؛ قال الله تعالى: { وَ إِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَٰذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا، إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا ۚ وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا } [الفرقان:41-42] و قال تعالى: { { وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [الأنعام:10].
و سار المسيئون المعاصرون على خطى إخوانهم القدامى مستعينين بالوسائط المعلوماتية التقنية و الفنية يغطون بها على جهلهم الفكري و بؤسهم الروحي.
الإساءة من بعض المنتسبين للإسلام
و هؤلاء هم المستغربون العلمانيون الذين سلبتهم حضارة الغرب فانبهروا بها و تمسحوا بها و صلوا في محرابها و مجدوها في أدبياتهم، و فيما يلي غيض من فيض:
1- الإساءة إلى الرسول ﷺ بجحد الرسالة و الكفر بها:
يقول الشاعر الحداثي الملحد بدر شاكر السياب في إحدى قصائده: كفرت بأمة الصحراء، و وحي الأنبياء على ثراها في مغاور مكة أو عند واديها.
2- الإساءة إلى الرسول ﷺ ببغضه و السخرية و الاستهانة به:
نشرت إحدى المجلات العربية (جريدة نيشان الأسبوعية المغربية - و قد صادرت السلطات المغربية العدد الذي نشرت فيه الإساءة) و تضمن الملف مقاطع سموها نكتا رأى فيها الكثيرون استهزاء بالدين الإسلامي، و اعتبروها مسيئة إلى الله و الرسول و الملائكة و الصحابة.
3- الإساءة إلى الرسول ﷺ باتهامه بالكذب و بما يشين:
كتاب على هامش السيرة الذي ألفه الأديب العلماني طه حسين و الذي يزعم فيه أنه أدى الأمانة العلمية، فهو لم يصدق فيما نقل، بل كذب و افترى فيما قال و ادعى، فقد منح نفسه كامل الحرية في رواية الأخبار و اختراع الحديث، و اتخذ من سيرة الرسول تسلية، لأن أخبارها غير ثابتة -كما يزعم-.
4- الإساءة إلى الرسول ﷺ بالسخرية و الاستهزاء و الكذب:
الرواية الإلحادية: أولاد حارتنا الذي كتبها الروائي نجيب محفوظ و نال بسببها جائزة نوبل للأدب (و هي جائزة تمنح لأعمال قدمت خدمة كبيرة للإنسانية، فماذا قدم هذا الملحد؟)، و نجيب محفوظ هذا إختزن أفكاراً حاقدة على الإسلام و المسلمين، رضعها من فكر أستاذه النصراني الذي كان يُشهر إلحاده: سلامة موسى.
تعرض في روايته إلى الرسول ﷺ و أدعى أن ورقة بن نوفل هو الذي يعلم الرسول، و قد استخدم فيها أسلوب الرمزية بشكل لم يكن معهودا من قبل، فقد رمز إلى الله -تعالى الله- بالجبلاوي، و أدهم يعني به آدم، و جبل يعني به موسى، و رفاعة بعني به عيسى، و قاسم يعني به الرسول،. و زكريا و يعني به أبا طالب،. و يحيى يعني به ورقة بن نوفل، و يسمى قريشا بحي الجرابيع و هكذا، و كان قال في روايته: "و قاسم غلام يتيم يكفله عمه زكريا بائع البطاطا الفقير، و يشب قاسم على حكايات الجبلاوي و أدهم و جبل و رفاعة و يعمل بالتجارة مع عمه ثم يتفرغ لرعي الغنم و يكثر من زيارة العجوز يحيى...".
5- الإساءة إلى الرسول ﷺ بمحاولة التلاعب بشخصية الرسول و انتقاصها:
فيلم محمد رسول الله و هو إنتاج إيراني سنة 2015 و باللغة الفارسية، و قد برر مجيد مجيدي مخرج الفيلم أن الهدف من تقديم الفيلم هو تصحيح صورة الإسلام التى شوهها المتطرفون (داعش)، و قد أقره المجلس الشيعي الأعلى، لكن المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي قرر تحريمه لما يتضمنه من التنقيص و التلاع�� بشخصية الرسول الكريم.
الإساءة للرسول ﷺ من الغرب الحاقد
1- كتاب: نبي الخراب Prophet Of Doom للمؤلف كريك ونن Craig Winn الذي وصف النبي ﷺ بقاطع طريق استعمل العنف و الغدر للوصول إلى الحكم و السلطة، و وصفه بكلام وقح، و قد صدر هذا الكتاب و كتب أخرى بعد أحداث 11 سبتمبر 2001،. و مؤلفوا هذه الكتب ليسوا بعلماء في مقارنة الأديان ، و لكن الباب تم فتحه على مصراعيه لكل من هب و دب لتفريغ الحقد الغربي.
2- ظاهرة الإساءة للرسول ﷺ بنشر رسوم كاريكاتيىية في صحيفة دانماركية تصوره بطريقة فيها أقبح إساءة مثل: صورة رجل يصلي في وضع مهين، و ثانية تتهم الرسول بانحراف جنسي، و ثالثة لوجه خنزير، و رابعة صورة رجل يجر عربة محملة بالقنابل! لعنهم الله، و ما لم ينشر قد يكون أعظم إساءة.
و قامت صحف أخرى بإعادة نشرها دعما للدانمارك في ألمانيا و النرويج و فرنسا و بريطانيا و أمريكا و بلجيكا و استراليا و نيوزيلندا و بولندا.
و مازال النزيف ينهمر من أولئك الحاقدين و المتابع للحدث سيلاحظ تواطؤ عباد الصليب و شدة تعاونهم و تشابه العقيدة الدينية و وحدة التفكير التي ينطلقون منها، كما هو الحال في الصحفيين و الرسامين.
3- الإساءة إلى الرسول ﷺ بالهجوم الظالم من بابا روما، ففي محاضرته التي ألقاها بتاريخ 12 سبتمبر 2006 تحت عنوان: العقل و الإيمان في التقاليد المسيحية و الحاضر المسيحي، و ذلك في جامعة ريجينسبرج بولاية بافاريا الألمانية، و التي أساء فيها إلى الرسول، عندما ذكر الحوار الذي تم بين الامبراطور البيزنطي مانويل الثاني باليولوغوس و مثقف فارسي مسلم في موضوع المسيحية و الإسلام، فيلتفت الإمبراطور إلى محاوره بشكل مفاجئ طارحا سؤاله: "أرني ما هو الجديد الذي أتى به محمد، و سوف تجد أشياء كلها شريرة و غير إنسانية، من مثل أمره بنشر الدين بالسيف".
و البابا يحاول أن يدلل على الفكرة الموجودة في ذهنه لا على حقيقة الإسلام، فقد تبنى مقولة الامبراطور، فلماذا لم يذكر ما رد به المثقف الفارسي المسلم؟ و لماذا لم يتحقق من المعلومة في القرآن؟ و لكن يبدو في هذا قيادة مسيحية على المواجهة بين الإسلا و الغرب، و لا غرو فإنه على رأس الهرم في الفاتيكان الذي أعلن و بكل وقاحة عن حملتهم التي ترعاها رابطة الرهبان و كان شعارها: ( مليون ضد محمد ).
فقامت اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء فأصدرت بيانا عقب حملة (مليون ضد محمد) نددت فيه بهذه الحملة و أطلقت حملة مضادة شعارها: المليار مع الرسول محمد.
4- الإساءة إلى الرسول ﷺ من طرف الحزب الحاكم في الهند بتصريحات مسيئة للرسول ﷺ، و هو الحدث الذي تفجرت به مظاهرات المسلمين في عدة دول آسيوية و عربية في هذه الأيام.
و تزين برجا لوسيل في العاصمة القطرية الدوحة، بعبارة { إلا رسول الله } احتجاجا على إساءة مسؤولَين في حزب "بهاراتيا جناتا" الهندي الحاكم لمقام النبي الكريم محمد صلى الله عليه و سلم، فيما انتشر الوسم على منصات التواصل الاجتماعي:
Tumblr media
و قد طالبت قطر و الإمارات الحكومة الهندية بالاعتذار، و أكدتا أن هذه التصريحات المعادية للإسلام تستفز مشاعر أكثر من ملياري مسلم في أنحاء العالم. و أدان الأزهر الشريف التصريحات، و بدأت حملة لمقاطعة البضائع الهندية في الكويت رداً على الإساءة للرسول.
و قالت منظمة التعاون الإسلامي في بيان: "هذه الإهانات تأتي في سياق من زيادة حدة الكراهية و الإهانات للإسلام في الهند و المضايقات الممنهجة التي يتعرض لها المسلمون هناك"، مشيرة إلى القرار الذي صدر في مارس/آذار الماضي، بحظر الحجاب في المؤسسات التعليمية في عدد من الولايات الهندية، و عمليات تدمير لممتلكات مسلمين، و مسلطةً الضوء على ما وصفته بأنه تحيز من الحكومة (موقع عربي بوست). و يبلغ تعداد المسلمين في الهند 172 مليون نسمة، أي يمثلون ثالث أكبر تجمُّع للمسلمين في العالم بعد إندونيسيا و باكستان.
و يبدو أن مسارعة الهند لمحاولة احتواء الغضب من الإساءة للرسول ﷺ، جاء خوفاً على مصالحها الاقتصادية خاصة مع دول مجلس التعاون الخليجي: الكويت و قطر و السعودية و البحرين و عُمان و الإمارات (يُقيم نحو 9 ملايين عامل هندي في بلدان مجلس التعاون الخليجي التي تُعتبَر مصدراً لـ 65% من تحويلاتهم المالية إلى الهند التي تقدر بنحو 89 مليار دولار، و تعد الهند الأولى عالمياً متفوقة على الصين و المكسيك).
إن هذه الإساءات لرسول الله ﷺ (و هي كثيرة لم نذكر منها إلا ما اتسع له المقام) و هذا العداء الغربي القديم، استخدم فيها الغرب كل ما يمكن تصوره و ما لا يمكن تصوره من وسائل لتحقيق أغراضه، و ما نراه هو صورة من استمرار ذلك العداء القديم في صورته المعاصرة، و هي في النهاية تشكل النظرة الغربية المجحفة للرسول ﷺ، و هو ما يفسر اشتداد حدة الخطاب الموجه لرسول الله في الآونة الأخيرة.
إن مزاعم الغرب بأن هذه الإساءات مما يدخل تحت بند حرية التعبير و أنهم أرادوا اختبار حرية التعبير عندهم!، و هذا مما لا يمكن أن يقبله عقل أو أن تنطوي دعواه على أي مسلم فطن، لأن الغرب يزن بمكيالين إذا تعلق الأمر بالإسلام و المسلمين، فقوانينهم تجرم الإساءة إلى الدين النصراني و تمنع ما يهدد أو يهين أي إنسان بصورة علنية بسپب الدين.
فمن العجب أن فقاعة (حرية التعبير ) هذه لا تلبث أن تتوارى خجلا إن مست جناب اليهود، أو طعنت في السامية، أو شككت في محرقة الهولكست، و لذلك لم نسمع أحدا ينعتهم باليهود فوبيا، أو المسيحو فوبيا بالنسبة للمسيحيين أنفسهم، ليعلم الجميع أن الحضارة الغربية حضارة ازدواجية، حضارة الكيل بمكيالين، لا أخلاق و لا قيم تقوم عليها، و لا مبادئ تستمر عليها، إن القيمة المقدسة الوحيدة عندهم هي المصلحة ليس إلا؛ فأينما كانت المصلحة فثم دينهم و شرعهم، و إن داسوا في سبيل تحصيلها على الأديان و المبادئ و القيم.
Tumblr media
تمثلت في شخص رسول الله ﷺ أسمى مكارم الأخلاق، و تجمعت فيه كل الصفات الحميدة، فتعلق الناس به، و تركوا في حبه كل ما كان يربطهم بحياة الجاهلية الأولى، و لذا أثنى الله سبحانه و تعالى عليه بما لم يثن على نبي من أنبيائه، فقال تعالى: ﴿ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم:4].
و من الصفات التي أعطاه الله إياها صفتا: الصدق و الأمانة، و كان يلقب في الجاهلية بالصادق الأمين، و في القرطبي عند تفسير قول الله تعالى: { و ختم على سمعه و قلبه } قال مقاتل: نزلت في أبي جهل، و ذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة و معه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه و سلم، فقال أبو جهل: و الله إني لأعلم أنه لصادق! فقال له: مه! و ما دلك على ذلك! قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صب��ه الصادق الأمين، فلما تم عقله و كمل رشده، نسميه الكذاب الخائن! و الله إني لأعلم أنه لصادق! قال: فما يمنعك أن تصدقه و تؤمن به! قال: تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، و اللات و العزى إن اتبعته أبدا فنزلت: و ختم على سمعه و قلبه.
فقد شهد له ألد أعدائه و أعتى خصومه بصدقه و أمانته، قال بعض الحكماء: إن الحق ما شهدت به الأعداء.
قال الله تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } [الجاثية:23].
فلا عجب أن ينطلق الفكر الغربي في نظرته للرسول ﷺ، و قد ختم الله عز و جل على سمعه و قلبه و جعل على بصره غشاوة، من ضلالات كفرية تحدد مسار تعامله و موقفه منه، نجملها على النحو التالي:
الأول: التصور الذي قدمه الإسلام عن الإله يهدم الفكر الغربي
فالفكرة الغربية تعتمد على مركزية الإنسان في الكون، و أن الفرد هو مركز الاهتمام الأساسي، و أن تطلعات الفرد و حقوقه تقدم على أي أمر آخر، و حتى أمور العبادة و علاقة الفرد بالإله، و الغرب يرى أن الرسول ﷺ قدم مفهوما يمكن أن يهدم الفكر الغربي من أساسه، و هو مركزية الله تعالى في حياة البشرية مقابل نظريات الغرب المادية، لذلك اختار الغرب أن يجعل عداء الإسلام ضمن منظومة قيمه الرئيسة، لأنه بذلك يتمكن من إبقاء الفرد مركزا للكون في مواجهة دعوة الرسول ﷺ.
الثاني: صفة الرسول ﷺ بشرا رسولا تخالف نمط الفكر الغربي عن المسيح
تحولت شخصية المسيح بعد تحريف الدين النصراني إلى تجسيد للفكر الغربي حول مركزية الفرد في الكون، فقد تحول الإله في نظر المتدينين إلى شخص إله في صورة فرد دفع ثمنا مقدما لجميع خطاياهم حتى قبل أن يقعوا فيها، و أبقى لهم الحياة لكي يمارسوا فيها ما شاءوا من أفعال طالما أن محبة المسيح كشخص و كإله تسيطر على مشاعرهم، حتى من لا يؤمن به فإنه مركزيا في مواقفهم الفكرية.
أما العلاقة مع محمد.ﷺ فهي علاقة تصادمية مع كل من التيار الديني و العلماني في الغرب على المستوى الفكري. فهو فرد و إنسان ، إنسانا بكل معاني الإنسانية، و ليس إله في صورة إنسان { {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيَايَ وَ مَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،لا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَ بِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام:162- 163] و هذا يناقض المتدينين من الغرب للإله الذي عرفوه، فأي عقل لمن يعتقد أن الإله يمكنه أن يولد كما يولد سائر البشر! و بالتالي تكونت الكراهية و الضيق من كل ما يمثله الرسول ﷺ.
الثالث: جحد النبوة و تكذيب الرسالة
سبقت الإشارة إلى العداوة القديمة للرسول ﷺ، و من ذلك تشكيكهم في صدق نبوته و طعنهم في رسالته، و هذا ما أ��ى إلى الرؤية التي تكونت في أذهان الغربيين عن الرسول ﷺ و التي قادت إلى تكذيبه و الطعن في نبوته، و هي الفكرة التي استقرت في أذهان الكثير من المفكرين الدينيين الغربيين في الغرب.
هذه الرؤية الغربية تتصور أن هذه النبوة الكاذبة -نبوة محمد- بزعمهم قد أوقفت تطور الإنسانية باتجاه المسيحية، و هذا بحد ذاته كاف في الوقوف ضد هذا الدين الزائف بنظرهم.
الرابع: شخصية الرسول ﷺ تفضح زيف الشخصية الغربية
يرى البعض من المفكرين الغربيين في شخصية النبي ﷺ نموذجا متكاملا لنوع من الكمال الإنساني الذي لا يمكن للغرب بأفكاره و نظرياته و ممارساته أن يصل لها أو يقاربها، و عند فريق من الغربيين يصبح القضاء على هذا النموذج هما حقيقيا بذاته.
فكأن حياة النبي ﷺ تفضح التردي الذي وصل إليه حال الشخصية الغربية نتيجة لابتعادها عن منهج الله تعالى، و لا أدل على ذلك من الفراغ الروحي الضخم في الغرب بالعموم، و يظهر ذلك من ارتفاع معدلات الجرائم و الانتحار و انتشار الرذائل.
و في المقابل تظهر الشخصية المسلمة التي يمثلها النبي ﷺ كمقابل حاد في مواجهته لتلك الشخصية الغربية، و من هنا جاء الهجوم الشديد و المتكرر على شخص النبي ﷺ.
الخامس: المشروع الإسلامي الذي قدمه الرسول ﷺ يمثل تحديا لحضارة الغرب
إن أحد مشكلات عداء الغرب التاريخي للنبي ﷺ هو أنه جاء بنظام سياسي و فكري متكامل ينازع الغرب في المسلمات الأساسية، كما في طرق التنظيم و الإدارة و سياسة المجتمعات و في نمط العلاقات الاجتماعية، إنه ببساطة نظام متكامل مواز للنظام الغربي و لا يلتقي معه و إنما يقدم بديلا قويا و خطيرا له.
لذلك هاجم المفكرون الغربيون و بشدة المشروع الحضاري الإسلامي و اعتبروه خطرا كبيرا يهدد سيادة الفكر الغربي و انتصار الحضارة الغربية، و لم يبدأ هذا الأمر مع أحداث سبتمبر، أو مع نشوء فكرة صدام الحضارات، أو نظرية نهاية التاريخ، و إنما سبق ذلك بقرون عديدة، و استمر يغذي الشخصية الغربية بمبررات العداء للعالم الإسلامي و لشخصية الرسول ﷺ.
السادس: فكرة المواجهة تفشل المخطط الغربي
يرى الكثير من المفكرين الغربيين أن الرسول ﷺ هو من تسبب في إحياء روح المقاومة و المواجهة التي تمتد لتمنع الكثير من محاولات الهيمنة الفكرية و الثقافية و العسكرية على الأمة الإسلامية من قبل الغرب، و أن الدين الإسلامي هو المحرك الرئيس لجميع الأفكار الموجودة في نفوسهم.
كما أن رسالة محمد و دعوة محمد ﷺ تقدم الرصيد الفكري و النفسي و العقدي لجهد المسلم في الانتصار على نفسه و عدم التسليم لشهوات الحياة و متع الدنيا التي يتفنن الغرب في محاولة تقديمها للأمة الإسلامية.
و هي تشكل إشكالا فكريا عميقا يصادم الفكر الغربي بقوة و يقدح في مسلماته الأساسية و يلقي مفكرو الغرب باللائمة على الرسول في ذلك، و بالتالي لا يملكون إلا أنيهاجموه و يعادونه ( فهد بن عبد الرحمن بن علي العليان- كتاب عظم الإساءة إلى النبي).
Tumblr media
قال الشاعر أبوتمام:
و قد ينعم الله بالبلوى و إن عظمت
و يبتلي الله بعض القوم بالنعم
إن ما وقع و مايقع من الطعن في مقدسات الإسلام و الإساءة و الاستهزاء برسول الله ﷺ، أثار حمية المسلمين لله تعالى و رسوله و أيقظهم من سباتهم و بصرهم بأعدائهم، فهي طعنة آلمتهم و لكنها أيقظتهم، يقول الله سبحانه و تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَ الَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور:11].
فهذه الإساءات إنقلبت إلى حصول مكاسب كثيرة للمسلمين، و حصول الخزي و الصغار لأعدائهم.
يقول ابن تيمية: "لم يزل الله سبحانه و تعالى يقيم لتجديد الدين من الأسباب ما يكون مقتضيا لظهوره، كما وعد به في الكتاب، فيظهر به محاسن الإيمان و محامده، و يعرف به مساوئ الكفر و مفاسده، و من أعظم أسباب ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين، و ذلك أن الحق إذا جُحِدَ و عُورِض بالشبهات، أقام الله تعالى له مما يحق به الحق، و يبطل به الباطل من الآيات البينات" (كتاب الجواب الصحيح).
أثبتت هذه الإساءات الدنيئة، أن أمتنا أمة عظيمة و أنها إذا مرضت فإنها لا تموت، و فيها رجال يذودون بكل ما أوتوا دون نبيهم الكريم ﷺ، و أن فيها ��يرا كثيرا، فهذه الأزمة أعادت الاعتبار للمسلمين و جعلت لهم وزنا، و أصبح كل متربص بالإسلام و أهله يعيد حساباته منه و أهله.
قال الله تعالى: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [الصف:8].
و من أسباب نصر الله تعالى لدينه أن جعل في كل محنة منحة، فكل محاولات تشويه صورة الإسلام و المسلمين و بِناءِ صورة سيئة لكل من هو مسلم باءت بالفشل و أن الإسلام مازال ينتشر في أوروبا و أمريكا، كما قال الله تعالى:{ لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم }.
و الكثير من الناس يدفعهم حب الفضول و الاستطلاع لما يقال و ينشر في الإساءة للمسلمين، فيطالعون المصحف الكريم و بعض الأحاديث النبوية، و ما هي إلاَّ أيام أو أسابيع أو شهور حتَّى ينطق كل منهم بشهادة الإسلام: أشهد ألاَّ إله إلاَّ الله و أشهد أنَّ محمداً رسول الله.
و من أروع الأمثلة على ذلك: السياسي أرناود فان دورن الهولندي الذي كان عضواً في حزب الحرية (اليمين المتطرف) الذي كان يعادي الإسلام و يحاربه، و هو منتج فيلم" فتنة" في سنة 2006 المسيء للنبي عليه الصلاة و السلام، و الذي اشتهر عالميًا، و حصلت بسببه ردود أفعال عارمة من قبل المسلمين في العالم. و أسلم بسبب هذا الفيلم الكثير، أعلن أرناود إسلامه في أبريل عام 2013، و أصبح من أهم المدافعين عن الإسلام في هولندا:
إن اجتماع كلمة الأمة الإسلامية في خضم حوادث الإساءات كان على أساس راسخ ألا و هو العقيدة، و هو ما أحيا جذوة الإيمان في قلوب المسلمين، فتوحدوا جميعا على كلمة التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، فظهر أهل التوحيد هم أهل النصرة و المحبة الحقيقية، بخلاف أهل المذاهب الفكرية الضالة، أذناب الغرب و هم من الذين قالوا أسلمنا و لما يدخل الإيمان في قلوبهم.
و ما يجب أن يدركه المسلمون اليوم هو أن هذه المحنة التي أنزلها الله علينا، هي بداية خير كثير و نصر قريب، فعلينا أن نستفيد منها، لأن شعاعا من الأمل و النصر قد أشرق من جنباتها المظلمة، و ما ليل إلا يعقبه صبح.
يقول الله سبحانه و تعالى:
{ حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَ لَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
41 notes · View notes
tadkiraimania · 2 years
Text
Tumblr media Tumblr media
ودعنا رمضان؟
منذ أيام خلت ودعنا رمضان: الشهر المبارك، شهر الصيام و القيام، شهر القرآن و تجديد الإيمان، شهر النفحات الرَّبانية و الإشراقات النورانية؛ حيث تعتدل طبائع النّاس و عاداتهم و يرتقي السلوك البشريُ و تزولُ الضغائن و يتقاربُ البعداءُ و تزيدُ حركةُ الإحسانِ و ينشطُ أهلُ الخيرِ في أعمالِ البرِ على كلِّ صعيد.
ودعنا رمضان بألم دفين على فراقه، و قد مرت أيامه بسرعة عجيبة كأنها حلم ولد ثم اختفى! و لكن النفس تأبى أن تودع رمضان بعد أن ملأ القلب بحلاوة الإيمان!
النفس تأبى توديع رمضان و تقول:
لم ينته الصوم و لن ينتهي ..
لم يرحل القرآن و لن يرحل ..
لم يرحل القيام و لن يرحل ..
لم يرحل الذكر و لن يرحل ..
لم ترحل الصدقات و لن ترحل ..
لم يرحل الحب و لن يرحل ..
لم يرحل القلب الطيب و لن يرحل ..
لم يرحل اللين و الرفق و لن يرحل ..
لم ترحل دعواتنا و لم تتوقف استجابة الله لدعواتنا و لن تتوقف ..
لم يقف الأجر و لن يقف ..
لن نودّع رمضان بل نصحبه، و نصطحب معنا -لباقي العام- حلاوة الإيمان التي ذقنا طعمها في رمضان.
لم يكن رمضان موسما إنما كان منهج أخلاق و أسلوب حياة. كان مدرسة ربانية تغرس في الروح قيما سلوكية و إيمانية و تعبدية.
رمضان كان الولادة التي سنعيش عليها لبقية العام.
لنفسح لرمضان الطريق و نمنحه المجال ليحيا معنا و بنا طوال العام.
إن كانت أيامه المعدودات قد انتهت بما فيها من إعداد، فإن أيام العطاء قادمة و وقت المنح آت في الطريق! قال الله عز و جل: { وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر:99].
Tumblr media
لباس التقوى
يقول الله تبارك و تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، ففي هذه الآية الكريمة يتضح بجلاء و وضوح أن غاية صيام رمضان الكبرى التقوى، فالتقوى هي شهادة التخرج من مدرسة رمضان! و هي لباس يجب علينا أن نرتديه طوال حياتنا، و من لوازم التقوى المجاهدة على فعل الخير و ترك الشر.
يقول الله تبارك و تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشًا ۖ وَ لِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [الأعراف:26]، فذكر الله تعالى نوعين من اللباس نوع ظاهر و نوع باطن، أو نوع حسي و نوع معنوي، و ذكر أن الحسي قسمان: قسم ضروري توارى به العورة، و قسم كمالي وهو الريش لباس الزينة، و الله سبحانه و تعالى من حكمته جعل بني آدم محتاجين للباس لمواراة السوءة، يعني لتغطية السوءة حتى يتفطن الإنسان أنه كما أنه محتاج للباس يواري سوءته الحسية، فهو محتاج للباس يواري سوءته المعنوية و هي المعاصي، و هذا من حكمة الله سبحانه و تعالى (الشيخ محمد بن صالح العثيمين- كتاب شرح رياض الصالحين).
و الدين في الإسلام شامل لتصديق القلب و اعتقاد القلب: تسليم القلب و قول القلب و عمل القلب، و قول اللسان و عمل الجوارح.
قال الشافعي رحمه الله: "كان الإجماع من الصحابة، و التابعين من بعدهم، و من أدركناهم، يقولون: إن الإيمان قول و عمل و نية، لا يجزئ واحد من الثلاثة عن الآخر" (شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي) فالعمل الظاهر لا ينفع صاحبه إن لم يكن معه عمل قلبي، و العمل القلبي لا يكفي بلا عمل ظاهر.
و قد امتن الله تعالى علينا بنعمة الإسلام: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [سورة المائدة:3]، جعله شرائع ظاهرة و باطنة، دين كامل لا يمكن الاستغناء بجزء منه عن الآخر، { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } [سورة البقرة:208]، في جميع عرى الإيمان.
و الإيمان لباسه التقوى، و زينته الحياء، و ماله الفقه، الإسلام عقيدة جوهرها التوحيد، و عبادة جوهرها الإخلاص، و معاملة جوهرها الصدق، و خلق جوهره الرحمة، و تشريع جوهره العدل، و عمل جوهره الإتقان، و أدب جوهره حسن المعاملة، و علاقة جوهرها الأخوة، فمن ضيع هذه فقد ضيع جوهر الإسلام (الشيخ محمد صالح المنجد- محاضرة دينية صوتية).
أنواع الناس في التدين
قد يوجد من يأخذ الدين جزءاً، و يعمل به جانباً، فمنهم من يتدين بعاطفة، و منهم من يتدين بظاهر و شكل، و منهم من يتدين تديناً قلبياً بزعمه، و منهم من يستغل الدين للوصول إلى مآرب و مصالح خاصة.
فبعض الناس التدين عندهم جانب معرفي، أنه يعرف، يقول: أنا أعرف الله، أنا أعرف الدين، أنا أعرف الأحكام فقط، أنا مقتنع بعقلي، و ربما لا يمارس شيئاً من الدين، و المعرض عن دين الله بالكلية لا يقوم بعمل أبدا، هذا يقول عنه العلماء: صاحب كفر!
و بعضهم يزعمون أن التدين يكون له نصيب منه في شيء من عمل القلب، و لكن لا يظهر بعد ذلك في سلوكه، و لا في حياته اليومية.
جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر: "إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم. قالوا : كيف يكون المنافق عليماً؟ قال: يتكلم بالحكمة، و يعمل بالجور، أو قال: بالمنكر"، (أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة عن عمر).
و لذلك قال الحسن البصري رحمه الله: "العلم علمان: فعلم على اللسان، فذلك حجة الله على ابن آدم، و علم في القلب، فذلك العلم النافع" (سنن الدرامي).
فالعلم النافع هو الذي يورث خشية الله، و تعظيم الله، و محبة الله؛ لأن القلب متى خشع خشعت بقية الجوارح؛ لأنها تابعة له، و النبي ﷺ كان يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ( [رواه مسلم]، فبعض الناس عنده معلومات عن الدين، لكن ماذا لديهم من الرصيد العملي؟
ظاهرة التدين الشكلي
هنالك من الناس من عنده بعض العبادات، فتراه يصلي، و يحج، ويعتمر، و يصوم، و هذه لديها حجاب جيد، مستمسكة به، و هذا عنده سمت إسلامي، و مظهر موافق للسنة، لكن إذا بحثت عن الخوف من الله، محبة الله، رجاء الله، التوكل على الله، الحياء من الله، الصدق مع الله، الإنابة إلى الله، الخضوع، التذلل، التوبة، الذل للرب، الانكسار له، تجد أن هذه المعاني ضعيفة، و لذلك لا يعتبر هذا الشخص قد أراح ضميره و قام بما عليه بأداء هذه الأشياء، و إن كانت من الدين ومن السنة، لكنها ليست هي الإسلام، ففي الحديث: ( بني الإسلام على خمس ) [ رواه مسلم]، فالأركان الخمسة هذه أعمدة الدين، لكن فوقها بناء: الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، و بر الوالدين، و الإحسان إلى الجار، و صلة الرحم، و الأمانة، و هكذا، فإذا كان عندك أعمدة بلا بناء فوقها فما الذي يظلك؟
لقد أصبحت ظاهرة التدين الشكلي، و ممارسة بعض العبادات، و ربما في رمضان يوجد شيء من الاجتهاد، و ذهاب إلى مكة، و لكن بقية السنة فيها تقصير كبير، جوهر الدين و ترجمة هذا الإسلام إلى سلوك في الحياة يوجد فيه نقص يجب تكميله، و المحافظة على الأركان في غاية الأهمية، و المعاملة للخلق لا بد أن تكمل المعاملة مع الخالق.
و تجد عند الناس في هذا إفراط وتفريط: فمنهم من يعامل الخالق في بيته معاملة حسنة، لكن إذا خرج إلى الخلق عاملهم معاملة سيئة. و منهم من يتعامل مع الناس معاملة حسنة، لكنه في غاية السوء في معاملته مع ربه؛ لأنه مضيع { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } [سورة مريم:59].
التدين بما يوافق هوى النفس
إن بعض الطبائع عند المتدينين عجيبة تلتزم بأمور من الدين، و تعرض عن أمور، فربما من جهة إعفاء اللحية لا توجد مقاومة هوى، فهو مستعد أن يقوم بذلك، و لكن في قضايا تتعلق بالنظرة المحرمة غير مستعد للقيام بذلك، التورع عن الخمر عند بعض الناس يمنعه من شرب الخمر، لكن في قضية أكل أموال الناس لا يتورع عن ذلك، يتورع عن شيء و لا يتورع عن آخر، و الدين جاء بمنع هذا و منع ذاك، فلماذا فرقت بينهما؟ لأن هذا ليس مخالفاً لهواك، أنت ما عندك مانع أن تمتثل بالأول، لكن الثاني مخالف لهواك، و لذلك لا تمتثل بالنهي الذي ورد فيه.
قال ابن القيم رحمه الله: "و لهذا تجد الرجل يتورع عن القطرة من الخمر، أو من استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة، و لكنه يطلق لسانه في الغيبة و النميمة في أعراض الخلق، كما يحكى أن رجلاً خلا بامرأة أجنبية، فلما أراد مواقعتها، قال: يا هذه غطي وجهك، فإن النظر إلى وجه الأجنبية حرام" (كتاب عدة الصابرين و ذخيرة الشاكرين).
قال ابن الجوزي رحمه الله: 'فإن الإنسان لو ضرب بالسياط ما أفطر في رمضان عادة قد استمرت، و يأخذ أعراض الناس و أموالهم عادة غالبة" (كتاب صيد الخاطر).
فأين هؤلاء من قوله تعالى: { وَ ذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَ بَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ } [سورة الأنعام:120]، فنهى الله عباده عن اقتراف الإثم الظاهر و الباطن، يعني في السر و العلانية، سواء متعلق بالقلب مثل سوء الظن، أو بالجوارح مثل الاعتداء و البغي.
صلاح الظاهر يكمل بصلاح الباطن
ليس الحل هو حذف مظاهر التدين لتفادي الوقوع في حالة النفاق و الازدواجية، لنكون واضحين و صريحين أمام الناس يجب أن نلغي مظاهر التدين حتى لا نقع في الازدواجيات، و في الحقيقة إذا كان عند شخص ما خراب داخلي فأضاف إليه خراب الخارج فقد ازداد إثماً إلى إثم، و معصية إلى معصية، و لكن يجب أن يكمل صلاح الظاهر بصلاح الباطن، فوجود ظاهر حسن جميل يقود إلى مقاومة لتصحيح الداخل، و لذلك بقاء الظاهر الحسن، الجميل، الموافق للسنة يعين الإنسان على التغلب على داعي الهوى؛ لأن هنالك صراع سيعمل في النفس.
أنا أمام الناس ملتزم و في الحقيقة أفعل كذا وكذا، ما هو المطلوب؟ أن أتغلب على ضعف نفسي، حتى لا أكون منافقاً، و لا يكون عندي ازدواجية، و يكون ظاهري كباطني، يجب أن أعدل الباطن، و ليس علي أن أعدل الظاهر؛ لأن تعديل الظاهر في هذه الحالة، أو إلغاء الظاهر هذا الذي يدل على استقامة، هو إثم على إثم، و سيئة على سيئة.
دلالة الظاهر على الباطن
قال الشاطبي: "و كذلك فقد جعلت الأعمال الظاهرة، في الشرع دليلاً على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرماً حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك أيضاً" (كتاب الموافقات)، و لذلك فإن عمل الظاهر مهم جداً، و عمل الباطن كذلك.
فالأعمال الظاهرة من صلاة، و صوم، و حج، و شعائر ينمي بها العبد باطنه، تزكو نفسه بها، هذه العبادات لها أثر على الروح، هذه العبادات فيها تصحيح للعادات، سينهاه ما يقول، إذا كان يقوم الليل سينهاه القيام عن السرقة، و لذلك قال شيخ الإسلام: "الصراط المستقيم أمور باطنة في القلب من اعتقادات، و إرادات، و غير ذلك، و أمور ظاهرة من أقوال، و أفعال قد تكون عبادات، و قد تكون عادات في الطعام، و اللباس، و النكاح، و المسكن، و الاجتماع، و الافتراق، و السفر، و الإقامة" (كتاب اقتضاء الصراط المستقيم).
أما كلمة الدين في القلب التي يريدون بها التهرب من التكاليف الظاهرة، حتى لا يحاسبهم أحد عليها، ولو جئت تأمرهم بالمعروف و تنهاهم عن المنكر قال لك: الدين في القلب، يعني: هو لا يريد أن يأمر بالمعروف، و لا أن ينهى عن منكر، و لا أن يؤاخذ، و لا أن يحاسب، و لا أن يلام، و لا أن ينكر عليه، و لا أن يخطأ، فيقول الدين في القلب، حسنا لو كان الدين موجود في القلب، فأين الظاهر الذي يدل عليه؟ أين العمل الذي يدل على أنه هذا موجود عندك في القلب ؟
خطر التدين المصلحي
إن التدين المصلحي -إن صح التعبير- بقصد جمع المال عند بعض الناس خطر عظيم، و ربما يكون استُغل في قضية ترويج السلع، ففي حديث: ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، و لا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، و لهم عذاب أليم، المنفق سلعته بالحلف الكاذب ) [أخرجه مسلم].
المنفق: المروج لسلعته بالحلف الكاذب، يتاجر باسم الله عز و جل، القسم و الحلف باسمه، هذا يشتري به و يبيع، فهذا جزاؤه عظيم يوم القيامة، كما جاء في الحديث الآخر: (عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( ثلاثة لا يكلمهم الله و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم: أُشيمطٌ زانٍ، و عائل مستكبر، و رجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، و لا يبيع إلا بيمينه ) [رواه الطبراني بسند صحيح]، استعمل الكلمة الدينية و الله العظيم، أقسم بالله العظيم، أقسم بآيات الله، استعملها ليروج سلعته، لينفق سلعته و هو كاذب.
و لقد حكى لنا التاريخ الإسلامي عن بعض الوعاظ الذين كانوا يبكون الناس، و في آخر الموعظة يقول: و أنا حالتي ضعيفة، و كذا كذا فتصدقوا علي.
و قال بعض السلف: السفلة الذين يأكلون بالدين، هؤلاء الأحبار و الرهبان، الذين قال الله عنهم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَ الرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [سورة التوبة:34]، و لذلك يجب صيانة الدين عن هذا.
الاهتمام بالباطن
قال النووي رحمه الله: "الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى، و إنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله، و خشيته، و مراقبته (شرح النووي على مسلم) فالباطن أجل من الظاهر.
قال ابن الحاج في المدخل: "فمراعاة الباطن أوجب من مراعاة الظاهر؛ لأن الظاهر للخلق، و الباطن للخالق" (المدخل لابن الحاج) أي ظاهر؟ الظاهر الدنيوي، يعني: ظاهر المال، ظاهر الجمال، ظاهر الحسب، ظاهر النسب، ظاهر الوظيفة، ظاهر المنصب، و لذلك فإن النبي ﷺ لما مر عليه رجل، و قال لمن عنده (ما تقولون في هذا؟ -يعني يسأله عن رأيه في هذا- قال: هذا حري إن خطب أن ينكح، و إن شفع أن يشفع، و إن قال أن يسمع لقوله، و رجل آخر فقير مر عليه، ما تقولون في هذا؟، قال: حري إن خطب أن لا ينكح، و إن شفع أن لا يشفع، و إن قال أن لا يسمع، قال: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا )[رواه البخاري]، إذاً الظاهر هذا المزيف، الظاهر الدنيوي يجب عدم الاغترار به.
و قد جاء عن النبي ﷺ أنه قال: ( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، و إنه لمن أهل النار ) [رواه البخاري]، لا بد من التدين الحقيقي، لا تدين النفاق، و لا العجب، و الغرور، و الكبر الذي يجعل الإنسان في آخر عمره يترك الدين، و يذهب إلى النار؛ لأن بعض الناس عندهم شعبة نفاق، أو غرور، و كبر، تظهر في آخر حياته.
و اختلاف السريرة و العلانية، اختلاف القلب و اللسان، اختلاف الخارج و الباطن، هذا كله مصيبة، خشوع النفاق أن ترى الجسد خاشع و القلب ليس بخاشع، و قد تقرر عند الصحابة أن النفاق هو اختلاف السر عن العلانية.
قال عثمان رضي الله عنه: "ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله عز و جل على صفحات وجهه، و فلتات لسانه" لأنه لا يتحمل مع الوقت الجمع بين المتناقضات، و الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله، فيظهره الله و لو بعد حين (الشيخ محمد صالح المنجد- المرجع السابق).
Tumblr media
ماهية حلاوة الإيمان
إن للإيمان حلاوة و زينة و نعيماً و نوراً لا يدركها إلا من عايشها سلوكاً و منهجاً، فمن عاشها سيدرك أن للإيمان حلاوة تباشرها القلوب أكثر من مباشرة اللسان لحلاوة الطعام الحسية،.
لقد طبق بلال بن رباح رضي االله عنه حلاوة الإيمان تطبيقـاً عملياً حينما كان يعذب من قبل قريش بعد إعلان كلمة التو��يد و كان يعذ ب في رمضاء مكة حيث إنه سئل كيف صبرت يا بـلا ل؟ قـال : مزجـت حلاوة الإيمان بمرارة العذاب فطغت حلاوة الإيمان على مـرارة العـذاب فصبرت.
كما أن للإيمان زينة و حلة يرتديها المؤمنون، و لذا كان دعاء رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( اللهم زينا بزينة الإيمان، و اجعلنا هداة مهتدين )، و هذه الزينة إذا كست القلب بدت آثارها على الجسد و الجوارح، قال تعالى: { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } [الأعراف:26].
و مما لابد أن يعلم أن للقلب نعيماً مثل نعيم الأبدان، و هو الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله؛ (و أسألك نعيماً لا ينفد و قرة عين لا تنقطع) [عمار بن ياسر-الألباني:صحيح الجامع]: ، قال الإمام ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان: "قوله: (و أسألك نعيماً) هذا نعيم الأبدان، ثم قال: (و قرة عين لا تنقطع)، هذا نعيم القلوب".
إن أجمل شيء يلقاه العبد في دار الدنيا هو لذة الأنس بالله عز و جل، و المعرفة بالله عز و جل، و الفرار منه إليه، و هو يقابل لذة النظر إلى وجه الله الكريم في الدار الآخرة، و لذلك يقول النبي صلى الله عليه و سلم في دعائه: ( و أسألك برد العيش بعد الموت، و أسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة، و أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم ) [عمار بن ياسر- الألباني: إسناده صحيح] ، فجمع بين لذة الدنيا و لذة الآخرة، فوالله ما طابت الدنيا إلا بذكره، و ما طابت الآخرة إلا برؤيته.
��قول يحيى بن معاذ الراز��: من سر بخدمة الله عز و جل سرت بخدمته الأشياء، و من قرت عينه بالله عز و جل قرت به كل عين.
أسباب تحصيل حلاوة الإيمان
يقول الله تعالى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ و لَا يَشْقَىٰ } [طه:123].
تكفل الله لمن التزم منهجه أن يمنحه الحياة السعيدة، و يؤمِّنه من الخوف و الجزعِ و الحزنِ في الدنيا ، و أن يمنحه العيشة المليئة بالسكينة و الاطمئنان. فالسعادة الحقيقية ليست في الغنى و رخاء العيش و وفرة النعيم الدنيوي، و إنما السعادة في السير على منهج الله تعالى. أما البعد عن منهج الله و التعلق بغير الله فيورث أهله القلق و الهم و الأمراض النفسية و العصبية.
قال ابن القيم رحمه الله: "الغموم و الهموم و الأحزان و الضيق، عقوباتٌ عاجلةٌ و نارٌ دنيويةٌ، و الإقبال على الله و الإنابة إليه، و الرضى به، و امتلاءُ القلب من محبتهِ، و اللهجُ بذكره، و الفرح و السرورُ بمعرفته ثوابٌ عاجلٌ و جنّةٌ و عَيشٌ لا نسبة لعيش الملوك البتَّةَ" (كتاب الوابل الصيب).
إن لذة العبادة و حلاوتها هي ما يجده المسلم من راحة النفس و سعادة القلب و انشراح الصدر، و سعة البال أثناء العبادة و عقب الانتهاء منها. و هذه اللذة و الحلاوة تتفاوت من شخص إلى شخص حسب قوة الإيمان و ضعفه، و هذه اللذة و الحلاوة تحصل بحصول أسبابها و تزول بزوال أسبابها.
و أهم الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان:
- الرضى بالله ربّاً و بالإسلام ديناً و بمحمدٍ رسولاً: روى الإمامُ مسلمٌ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( ذاق طعمَ الإيمان من رضي بالله ربّاً و بالإسلام ديناً و بمحمدٍ رسولاً )، أي لم يطلب غيرَ الله تعالى ، و لم يسع في غيرِ طريق الإسلام ، و لم يسلك إلاّ ما يوافق شريعة محمد [شرح النووي].
- حب الله و رسوله و الحب في الله و كراهية الكفر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله و رسوله أحبَّ إليه مما سواهما، و أنْ يحب المرء لا يُحبه إلا لله، و أن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يٌقذف في النار ) [متفق عليه: البخاري و مسلم].
فمحبة الله هي إيثار محبته على ما سواه بالتزام أمره و اجتناب نهيه، و محبة رسوله، و ثمة أسباب تجلب للقلب محبة الله عز و جل:
- إخلاص القصد لله في العبادة.
- تلاوة كلام الرحمن و التدبر في معانيه.
- الإكثار من ذكر الله آناء الليل و النهار.
- المواظبة على الصلوات الخمس في بيوت الله و النوافل.
- تركُ فضولِ الطعام و الشرابِ و الكلامِ و النظر، لأن ذلك يؤدي إلى قسوةِ القلب فلا يشعر المؤمنُ بلذّة الطاعةِ.
- البعدُ عن الذنوب و المعاصي فالمعاصي تُقسِّي القلبَ و تحرُمُ العبدَ من لذة الطاعات و القربات.
- الإنفاق و بذل المال في مرضاة الله.
- ملازمة حلق العلم و مجالس الإيمان.
- مصاحبة الصالحين و البعد عن الفاسقين.
- الإحسان إلى الخلق و النصح لهم.
- الصبر و الاحتساب على الأقدار المؤلمة و الرضا بها.
و حب الرسول واجب على كل مؤمن و مؤمنة عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده و ولده و الناس أجمعين ) [البخاري و مسلم]،فالصادق في حب النبي صلى الله عليه و سلم، هو من أطاعه و اقتدى به، و آثر ما يحبه الله و رسوله على هوى نفسه.
و الحب في الله تعالى من كمال محبة الله و ثمرتها المحبة في الله، فيحب المؤمن أخاه ابتغاء مرضاة الله لا يحبه لأجل نسب أو حسب أو مال أو دنيا، قال الرسول: ( إن الله يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ) [صحيح مسلم]، و قال الرسول: ( من سرّه أن يجد حلاوة الإيمان فليُحبّ المرء لا يُحبه إلا لله ) [أحمد و الحاكم و البغوي و إسناده حسن].
و كراهية الكفر و أهله تعني أن العبد المؤمن الذي يجد حلاوة لا إله إلا الله، يكره أن يستبدل هذه الحلاوة بمرارة الكفر، و يكرهُ الكفر لأنه يعلم أن الكفر نار، فمن يحب أن يُلقي نفسَه في النّار. و كراهيةُ الكفر معناها أداءُ حقِّ الإسلامِ في التمسُّك به، و نبذُ المبادئ التي تخالفُ شرعَ الله  و تتعارضَ مع أحكامه كالشيوعية و العلمانيةِ و غيرها.
و إجمالا فإن قوة حلاوة الإيمان و ضعفها و زيادتها و نقصانها هي بحسب قوة الإيمان و ضعفه و زيادته و نقصانه، فكلما زاد الإيمان و قويَ، كلما شعر المسلم بحلاوة الإيمان و وجد لذّة الطاعة، و كلما زادت محبته لربه و خالقه و رسوله كلما زادت حلاوة الإيمان عنده.
Tumblr media
.ظهور الذكاء العاطفي
استخدم مفهوم الذكاء العاطفي لأول مرة في أطروحة دكتوراه من قبل واين باين في عام 1987 كإضافة لنظرية الذكاءات المتعددة، و في عام 1995 ، انتشر مفهوم الذكاء العاطفي بعد صدور كتاب: لماذا الذكاء العاطفي أهم من معدل الذكاء؟ للمؤلف دانيال جولمان.
إن الذكاء العاطفي هو علم جديد من العلوم الإنسانية، و ما يزال جديدا على الغربيين أنفسهم.
ما هو الذكاء العاطفي؟
يشير الذكاء الانفعالي (Emotional Intelligence) إلى القدرة على إدراك العواطف و التحكم فيها و تقييمها. يقترح بعض الباحثين أنه يمكن تعلم الذكاء العاطفي و تقويته، بينما يدعي البعض الآخر أنه خاصية فطرية.
كل التعريفات الواردة في كل الدراسات المتعلقة بالذكاء العاطفي تجمع على معنى للذكاء العاطفي و يمكن تلخيصه في التعريف التالي: "الذكاء العاطفي هو الاستخدام الذكي للعواطف. فالشخص يستطيع أن يجعل عواطفه تعمل من أجله أو لصالحه باستخدامها في ترشيد سلوكه و تفكيره بطرق و وسائل تزيد من فرص نجاحه إن كان في العمل أو في المدرسة أو في الحياة بصورة عامة".
و تقول الدراسات أنه ليس أذكى الناس هم الأكثر نجاحًا أو الأكثر إشباعًا لحاجاتهم في الحياة. ربما تعرف أشخاصًا بارعين أكاديميًا و لكنهم غير مؤهلين اجتماعيًا و غير ناجحين في العمل أو في علاقاتهم الشخصية و الأسرية.
مكونات الذكاء العاطفي
يتم تحديد الذكاء العاطفي و تعريفه بشكل عام من خلال أربع مكونات:
1- إدارة الذات: بمعنى القدرة على التحكم بالمشاعر و السلوكيات و العواطف بطرق صحيحة، مع القدرة على التكيف.
2- الوعي الذاتي: أي فهم المشاعر و تأثيرها على السلوك و الأفكار، و فهم نقاط القوة و الضعف و الثقة بالنفس.
3- الوعي الاجتماعي: و هو مستوى التعاطف و فهم الآخرين، و التقاط الإشارات العاطفية و القدرة على فهم الجماعات.
4-إدارة العلاقات: و هي القدرة على تطوير العلاقات الجيدة و الحفاظ عليها ، و التواصل بوضوح، و القدرة على إدارة الصراع.
سلبيات الذكاء العاطفي
يُعد الذكاء العاطفي من المهارات المُحايدة التي تعتمد على طريقة الشخص في استخدامها و التعامل معها، إما بشكل إيجابي أو سلبي، و فيما يأتي توضيح لبعض سلبيات الذكاء العاطفي:
1- التلاعب في مشاعر الناس:
فهم المشاعر من المهارات المهمة في التواصل مع الآخرين، إلا أنّه يُمكن أن يُصبح طريقة للتلاعب بالأشخاص و إيذائهم، و من الجدير بالذكر أنّ حجم الأذى النفسي الناجم عن ما يُعرف بالتنمر العاطفي يُمكن أن يفوق حجم الأذى الناجم عن التنمر الجسدي بأضعاف.
2- تحقيق مكاسب شخصية:
يُمكن استخدام الذكاء العاطفي كوسيلة للتلاعب بالآخرين و تحقيق مكاسب شخصية، مثل اختلاق أكاذيب عاطفية، أو وضع الأشخاص بمواقف محرجة، أو إظهار مشاعر إيجابية لشخص محدد تزامنًا مع إظهار مشاعر سلبية للأشخاص الآخرين.
3- منع الآخرين من استخدام مهارات التفكير الناقد:
يَعرف الشخص الذكي عاطفيًا كيفية التعامل مع الآخرين، كما يعرف كيفية استخدام عواطفه، و كلماته، و حتى تعابير وجهه؛ و ذلك للتأثير عليهم بأقصى قدرٍ ممكن، و قد يميل إلى استخدام تقنيات تشوبه الواقع، و الحكم السليم على الأشياء و المواقف، بدلاً من مساعدة الناس في اتخاذ القرار السليم، و حل المشكلات عن طريق التفكير الناقد، ممّا يؤدي إلى اتخاذهم قرارات سلبية مبنية على التأثير العاطفي.
4- الشعور بالإحباط عند عدم تقدير مهارة الذكاء العاطفي:
يجد الشخص الذكي عاطفيًا أحيانًا أنَّ بعض الأشخاص لا يقدرون ذكاءه العاطفي كما ينبغي، مثال على ذلك عند البحث عن وظيفة، حيث تميل الوظائف التي تعتمد على الأرقام أو البيانات، مثل المحاسبة أو علوم الحاسوب، إلى إعطاء قيمة أكبر للقدرات التحليلية أكثر من القدرات العاطفية، و قد يؤدي رفض الذكاء العاطفي في مثل هذه الحالات إلى إحباط الشخص، و الشعور بأنَّ مدخلاته وأفكاره غير مرغوب بها.
5- إيجاد صعوبة في إعطاء و تلقي ملاحظات سلبية:
يمتلك بعض أصحاب الذكاء العاطفي العالي حساسية عالية تجاه العلاقات الشخصية، و يولونها اهتمامًا كبيرًا، ممّا قد يجعل من الصعب عليهم تلقي ملاحظات سلبية من الآخرين أو حتى إبداء ملاحظات سلبية للآخرين، كما يُمكن إيصال ملاحظاتهم السلبية بطريقة هادئة و غير انفعالية، ممّا قد يجعل الآخرين غير مبالين بأي ردود فعل سلبية يتلقونها منهم (موقع cornerstone).
الخلاصة
نستنتج مما سبق ذكره أن تطبيقات الذكاء العاطفي في المجتمع الغربي تنساق مع فلسفة المنفعة كما حددها جيرمي بنتام (عالم قانون و فيلسوف إنجليزي و مؤسس مذهب المنفعة)، فالمنفعة لا تلتزم بالأصول الدينية، إذ تقيس صواب العمل أو خطأه بمقدار ما يحققه من منفعة و لذة و سعادة بصرف النظر عن توافقه مع الأخلاق أو مطابقته للدين، فشعار النفعيين: "الغاية تبرر الوسيلة" أي استخدام أي وسيلة لتحقيق هدف المنفعة المقصود. و لا شك أن في هذا انحرافا يهدم أسس العقيدة و يحول المجتمعات إلى غابة تتصارع فيها المنافع بلا ضابط أو رابط.
إن أهم ما يميز الأخلاق في الفكر الإسلامي عن الأخلاق في الفكر الغربي، أن الأولى تأخذ في السواد الأعظم من مبادئها بمفهوم «الحلال و الحرام» كمعيار للحكم على الأفعال. في حين تأخذ في الفكر الغربي بمفهوم «الصواب و الخطأ» في الغالب الأعم من مبادئها (الدكتور خالد حربي- كتاب: الأخلاق بين الفكرين الإسلامي و الغربي).
Tumblr media
الذكاء العاطفي في التصور الإسلامي
في كتابه: الذكاء العاطفي نظرة جديدة في العلاقة بين العاطفة و الذكاء:
يحدد الدكتور ياسر العتيبي الذكاء العاطفي على أنه يعبر عن قدرة الإنسان على التعامل مع عواطفه، بحيث يحقق أكبر قدر ممكن من السعادة لنفسه و لمن حوله. و هو يتبنى هذا التعريف تماشيا مع التصور الإسلامي في العقيدة و السلوك و الأخلاق. و يقول: إن للتفكير علاقة مباشرة مع الشعور، فكثير من المشاعر تتولد في نفوسنا لنمط معين من تفكيرنا، فإذا غيرنا هذا النمط تبدلت تلك المشاعر، إن الذكاء العاطفي يعلمنا كيف نغير من أنماط تفكيرنا، و بالتالي توليد أكبر قدر من المشاعر الإيجابية في نفوسنا.
و يضرب مثلا (هذا متال واحد و الأمثلة لا حصر لها) على ذلك بقوله: ما الفرق بين إنسان يستطيع أن يحافظ على حبال الود مع الأخرين حتى و لو اختلف معهم في الرأي، و إنسان غالبا ما ينهي خلافاته مع الآخرين بخصومات تجعل الآخرين ينبذونه؟ الفرق هو أن الشخص الأول يتعامل مع الخلاف بذكاء عاطفي، أما الشخص الثاني فلا!
و يقول في مكان آخر: إن ما أثبتته الأبحاث من قدرة الإنسان على تغيير نفسه، يتماشى مع المبدأ الذي أقره الله تعالى في كتابه الكريم واصفا النفس البشرية بأنها قابلة للتزكية و التدسية، و أن الإنسان هو الذي يتحمل مسؤولية ذلك قال تعالى:{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَ قَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [الشمس:9-10] و قد أكد نبينا الكريم أن الصفات النفسية يمكن اكتسابها، كما يكتسب العلم، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( إنما العلم بالتعلم، و الحلم بالتحلم ) [رواه الطبراني في الكبير].
إن مبدأ الذكاء العاطفي بسيط جدا، فهو يعتمد على إعمال الذكاء في العاطفة، و لا يمكن أن نحسن التعامل مع عواطفنا إذا لم نفهم هذه العواطف؟ ما هي أنواعها؟ و كيف تنشأ في نفوسنا؟ ما هي وظيفتها؟ و كيف تؤثر على أفكارنا و تصرفاتنا؟ (لمزيد من التفاصيل يمكنكم تحميل الكتاب من الرابط المشار إليه أسفل المنشور، فالكتاب فيه فائدة و معلومات قيمة تساعد على اكتساب مهارات الذكاء العاطفي، و أنصح أخواتي و إخوتي بقراءته).
حلاوة الإيمان = الإيمان + الذكاء العاطفي
في كتابه: ما فوق الذكاء العاطفي حلاوة الإيمان، يقول الدكتور ياسر العتيبي:
إذا كان الذكاء العاطفي هو أن تعيش و لك هدف و غاية، فإن المؤمن يعيش لله في كل حركة من حركاته و في كل سكنة من سكناته. و عندما تصبح حياة المسلم لله تعالى، فإنه سيشعر بلذة الحب، فالحب ليس شعوراً فقط إنما هو شعور يغذيه فعل الحب، و إن الإنسان الذي يرعى نبتة صغيرة في حديقة منزله حتى تصبح شجرة باسقة سيمتلئ قلبه بحب هذه الشجرة؛ لأنه بذل الكثير من الجهد في تنميتها و رعايتها، كذلك المسلم لا يشعر بمقدار الحب لله إلا بمقدار ما يبذل في سبيل هذا الحب من مجاهدة للنفس، و إعراضه عن الشهوات، و إقباله على الطاعات، و عمل مستمر لنصرة دين الله و إعلاء كلمته.
و يضيف العتيبي قائلا: يبنى الذكاء العاطفي على العلاقة بين الذكاء و العاطفة، أو بين التفكير و المشاعر، و يستطيع الإنسان أن يتعلم أساليب التفكير الإيجابي و أن يستبدل بشكل واع التفكير الإيجابي بالتفكير السلبي، و من ثم يستبدل المشاعر الإيجابية بالمشاعر السلبية، و مهما حاول غير المؤمن أن ينظر إلى الأمور بإيجابية فهو لا يستطيع أن يرى العالم من الزاوية التي ينظر منها المؤمن؛ فالمؤمن يوقن أن الله تعالى هو خالق هذا الكون و أن كل ما يجري فيه من أحداث إنما يجري بتقدير من الله تعالى.
و هكذا يوقن العتيبي: أن تعاليم الدين الإسلامي تعطي الإحساس بالراحة و الاطمئنان يبعثه الشعور بعدل الله المطلق الذي لا يترك محسنا و لا ظالما حيث قال في كتابه العزيز: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَ مَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة:7-8].
و يرى العتيبي: أن من أهم مكونات الذكاء العاطفي الانسجام الداخلي، إذ إن الإنسان الذي يعيش في حالة صدق و انسجام بين مبادئه و سلوكه بين أقواله و أفعاله بين سره و علنه يتربع على عرش من الشعور الرائع بالسعادة و الانتصار. و الصدق و الانسجام يفجر طاقات الإنسان الدفينة و يوجه إمكانياته كلها باتجاه الأهداف و المبادئ التي يعيش من أجلها، بعكس التناقض الذي يربك الإنسان و يؤثر على توازنه و بهز شخصيته. و الكذب الذي يدمر شخصية الإنسان و شخصية المجتمع و شخصية الأمة بأسرها كلها هو التناقض الصارخ بين المبادئ و السلوك، بين الأقوال و الأفعال، بين الظاهر و الباطن { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [الصف:2-3].
ثم يبين العتيبي العلاقة بين الإيمان و الذكاء العاطفي قائلا: إذا كان الذكاء العاطفي يمكن الانسان من التعامل الإيجابي مع ذاته و مع الآخرين حيث يحقق لنفسه و لمن حوله أكبر قدر من السعادة، فإن الإيمان يمكن الإنسان من التعامل الإيجابي مع ذاته و مع الآخرين حيث يحقق لنفسه و لمن حوله أكبر قدر من السعادة في الدنيا و الآخرة، و إن الإنسان يشعر بحلاوة الإيمان عندما يتحلى بمهارات الذكاء العاطفي و يربطها بربه و نبيه و آخرته.
�� يقول أيضا: في القرآن و الأحاديث النبوية آيات و أحاديث تنمي كل مكون من مكونات الذكاء العاطفي. و إذا اجتمع الإسلام و الذكاء العاطفي في شخص واحد يتحقق الإيمان الذي فرقه الله تعالى عن الإسلام بقوله: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَ لَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات:14]
فالإنسان المؤمن في رأي العتيبي هو مسلم يتمتع بالذكاء العاطفي. و الإسلام قناعة فكرية محلها العقل، أما الإيمان فهو حلاوة قلبية محلها القلب. و الإسلام يخرج صاحبه من دائرة الكفر، و لكن الإيمان هو الذي يحلق به في آفاق السعادة و الطمأنينة و الإيجابية.
و الإسلام أفكار في الذهن لا تتحول إلى أعمال و بذل و تضحيات إلا بالإيمان، و جاء في الحديث الشريف: ( لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن، و لا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن، و لا يسرق السارق حين يسرق و هو مؤمن ) [صحيح البخاري].
و المسلم الذي يتمتع بذكاء عاطفي مرتفع أكثر قدرة على فهم الإسلام و تطبيقه و تحقيق مقاصده من المسلم الذي تعوزه مهارات الذكاء العاطفي، و الإنسان الذي يتمتع بالإسلام و الذكاء العاطفي معا هو المؤمن القادر على جلب أكبر قدر من سعادة الدنيا و الآخرة لنفسه و لمن حوله.
إذن المسلم الذي يتذوق حلاوة الإيمان هو المسلم الذي يتمتع بذكاء عاطفي مرتفع، و إن الذكاء العاطفي يمنحك شيئا من سعادة الدنيا، أما الإيمان فهو يمنحك السعادة كلها في الدنيا و الآخرة. و الذكاء العاطفي يصل بك إلى حالة من الشعور بالسعادة و الرضا يمكن وصفها بالكلمات، أما الإيمان فهو يجنح قلبك و يطلقه في عالم سحري لا يمكن وصفه بالكلمات و لا يعرف روعته إلا من ذاق حلاوة الإيمان { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَ لَا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ فِي الْآخِرَةِ ۖ وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } [فصلت:30-32].
Tumblr media
كتاب الذكاء العاطفي نظرة جديدة في العلاقة بين العاطفة و الذكاء للدكتور ياسر العتيبي - لتحميل الكتاب إضغط على الرابط التالي:
52 notes · View notes
tadkiraimania · 2 years
Text
Tumblr media Tumblr media
مقدمة
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهَا وَ حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
إنَّ أسوء أنواع الجهل ذلك المدموغ بختم العلم لأنَّ الجاهل، في هذه الحال، من شدّة تكبّره و اعتداده لن يرى جهله بتاتاً، بل سينطبق عليه المثل القائل "القرد في عين أمّه غزال" و لذلك أتحفنا العديد من أولئك "الغزلان" (غزلان الغرب و الشرق)، و خصوصاً في قرننا هذا و القرن الذي قبله، بمئات الآلاف من الكتب و المخطوطات، التي تقدّم لنا أطروحات و ايديولوجيات و نظريات و عقائد، قاصدين من ورائها تنويرنا و رفع مستوى وعينا، فهل ما نراه في زمننا هذا يشير إلى حصول تنوير و ارتفاع في مستوى وعي البشَر؟
إن أفظع الجهل سوءا و تدميرا جهل تتم صناعته في العالم الغربي و يصدر إلينا بطريقة خفية ماكرة تحت عباءة العلم و المعرفة: علم الجهل و هندسة التجهيل! هذه هي جاهلية الغرب، حضارة استباحت أرضنا و نهبت ثرواتنا و احتكرت أسرار العلم و التكنولوجيا و هي الحضارة التي قامت على علوم المسلمين و حضارتهم!
Tumblr media
يعد البروفيسور الأمريكي روبرت بروكتر من جامعة ستانفورد الأمريكية أول من ابتكر مصطلح "علم الجهل" (Agnotology) ليصف فيه التأسيس الاجتماعي للجهل من خلال نشر معلومات تبدو على أنها علمية و لكنها مضللة، من قبل الإعلام و الأجهزة الحكومية و الشركات الكبرى. و يتم تأسيس الجهل من خلال ثلاث مراحل:
- الحرمان من المعلومات
- نشر الشك في المفاهيم القائمة
- تأسيس مفاهيم جديدة.
و هذه المراحل الثلاث تدار بشكل ممنهج فيما يعرف بإدارة الإدراك (Perception Management) الجمعي.
لم يصدق الكثيرون أن عِلماً كهذا موجود حقيقة، و يحاضر فيه أساتذة كبار في جامعات منها أميركية، هذا العلم اسمه (الجهل و التجهيل)، يُعنى بتصنيع الجهل و تسويقه بآلية تجعل الآخر جاهلاً، و هذا العلم لا يزال يُدرّس في الجامعات كملحق بمساقات التاريخ النفسي psycho-history، و ثمة مؤسسات أميركية عدّة من بينها (راند كوربوريشن)، تهتم بالبحث في موضوع الجهل و تسويقه بأشكال جذّابة، في العالم الثالث أو ما يطلق عليه الدول النامية.
إن مستهلكي سلعة الجهل في أي مجتمع مُستهدف، يتمثلون في ثلاث فئات:
1) الفقراء في المجتمع، و جلهم من الأقليات الاجتماعية و الدينية و عمال البلديات، و فقراء المناطق النائية و فقراء الريف، و عمال المزارع، و ما شابه هذه التصنيفات. لكن الفاجعة هي تواجد معلمي المدارس و أساتذة الجامعات في الفئة المستهدفة من هذه السلعة الملعونة.
و قد تصل نسبة هذه الفئة كلها في الولايات المتحدة لوحدها إلى 90٪‏ من حجم السكان، و كان جنود القتال الأمريكان مشمولين في هذه الفئة…
2 ) المتدينون الذين يؤمنون بالقدرية، فهم مستسلمون للقدر الذي يظنوا به أنه لا يتغير، و على عاتقهم تقع مسؤولية تجهيل أكبر عدد ممكن من الناس الذين لديهم ميول دينية.
3 ) المغفلون الذين يعملون في الحكومات، و على وجه الخصوص حكومات الدول الفقيرة، و بالتحديد فئة التكنوقراط (الفنيين) الذين يقدمون النصح و المشورة لمتخذي القرار في دولهم. فيتم تدريب هؤلاء على تمرير الجهل و تبريره تحت مسمى النظرية و العلم و الإمكانيات و الموارد، و يأتي في مقدمتهم المعنيون بالشأن السياسي و الاقتصادي، إذ تنحصر مهامهم في بث روح اليأس في نفس صاحب القرار من إمكانية الإصلاح، و ممارسة الكذب و الكذب على عامة الناس و ترسيخ الأكاذيب في أذهان العامة على أنها حقائق لا بد أن يدافعوا عنها.
صناعة الجهل إحدى أجندات مؤتمر (هنري كامبل بانيرمان)، الذي انعقد عام 1906 بلندن، و المثال التالي من مدونات عصريّة: (ميريا شالوم) مجنّدة في الجيش الإسرائيلي، ما أن تعود إلى منزلها حتى تخلع زيها العسكري، و تفتح (فيسبوك) لتكتب على صفحتها المزوّرة باسم أم المؤمنين: هل عمر ابن الخطاب أحق بالخلافة أم علي بن أبي طالب؟! ثم تنتظر التعليقات.. ابتسمت (ميريا) لتوالي الردود: الشيعة يسبون السنة، و السنة يسبون الشيعة، و طرف ثالث يصمُ الاثنين بالتخلّف، ليتحول هذا الجدل العقيم إلى أنهار من الدم في شوارع الوطن العربي، أقفلت ميريا شالوم هاتفها، و تمددت على سريرها لتغط في نوم عميق، مطمئنة إلى مستقبل (دولتها) التي يحميها -بلا ثمن- مجموعة من المُغفلين (محمد حسن الحربي- موقع صحيفة الاتحاد).
في أمريكا توجد مؤسسات عملاقة لتسويق الأكاذيب و تسويق الحرية المزعومة للعالم في وقت لا يستطيع المواطن الأمريكي أن يتنفس، و تعتبر هوليوود أهم مصنع لترويج الأكاذيب و قلب حقائق التاريخ و تشويه سمعة الشرفاء من خلال أعمالها المباشرة أو من خلال مهرجاناتها و جوائزها، فمنظمة إجرامية كالخوذ البيضاء استحقت جوائز تقديرية و وساماً و هكذا.
فالصحافة الأمريكية لا تنفك عن الكذب حتى أصبح كاتب محترم كسيمور هيرش لا يجد صحيفة تنشر له عنواناً مما اضطره لنشر تقاريره و تحقيقاته خارج أمريكا بعد أن أقفل بوجهه آخر موقع كان يكتب فيه و هو موقع "نيويوركر".
و من أخطر ماكنات الكذب و ترويجه ما يسمى بمواقع التواصل الاجتماعي، كالفيسبوك و تويتر و اليوتيو�� و غيرها، هذه المواقع من أشد المعادين لكلمة الحق و معاييرها تندرج في باب تسويق الكذب.
إن ماكنات صناعة الكذب لا تقتصر على أمريكا بل تجاوزتها لتصل لمعظم المنظمات المسماة دولية و لتصل بعد ذلك لكافة القارات من خلال الإعلام المملوك من اليهود الصهاينة و وصولاً لماكنات إعلام الأعراب، المرئية و المقروءة في الوطن العربي (شاكر زلوم- موقع إضاءات).
Tumblr media
حياة رقمية متوحشة
يبلغ عدد مستعملي الأنترنت في الوقت الراهن زهاء 4.388 مليار شخص من أصل عدد سكان العالم البالغ حاليا 7.676 مليار، يتبادلون فيما بينهم يوميا ما يفوق 281 مليار رسالة إلكترونية، و طوفانا عرمرما من المعطيات الرقمية التي تُغرق العقل البشري و تضعه على مستوى جد خطير من الإجهاد و التوثر لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري برمته، فزيادة على الكم الهائل من المعلومات الرقمية هنالك سرعة تدفق هذه المعلومات التي يعجز العقل البشري على مجاراتها و استيعابها، و لإعطاء مثال على خطورة الموقف تجدر الإشارة على أن كمية المعلومات التي تنتجها الحضارة المعاصرة في يومين توازي ما أنتجته البشرية خلال مليوني سنة.
إن التقنية الرقمية أضحت لا غنى عنها في عالم اليوم، نظرا لفوائدها التي من شبه المستحيل على المجتمعات العصرية المادية الاستهلاكية بامتياز إنكارها (زيادة في الإنتاجية، أنظمة أكثر استجابة، أتمتة المهام، مصدر لا ينضب من المعلومات، أدوات تعاونية و تشاركية، العمل متنقلا في أي مكان من المعمور إلخ....)، و إذا أضفنا إلى كل ذلك الانتشار الرقمي في مجال الخدمات و المقاولات و الإدارات فإنه لا يسعنا إلا القول أننا لسنا فقط مرتبطين بالشبكة بل عبيدا مستعبدين لها و مرتبطين بالأوتاد لدرجةٍ يزوغ فيها العقل و يخرج عن الصواب.
لقد وصلت البشرية في الوقت الراهن إلى مستوى الغرب المتوحش الرقمي.. مستوى من الفوضى الإلكترونية الخلاقة التي تتدفق من كل بقاع الكرة الأرضية كالسيل الجارف من خلال الأدوات الرقمية الإلكترونية، و أضحت البشرية تعيش على الرغم من الطفرة النوعية التي أحدثتها التكنولوجيا الرقمية حياة متناقضة، حيث الاختراعات الرقمية التي كانت تأمل فيها هذه البشرية أن تيسر أمور حياتاها و تسعدها أضحت تعكر صفوها و تزيدها إرهاقا في الصحة العامة، و انحطاطا خطيرا في الأخلاق و القيم و الفنون و الفكر و الأدب و التعليم، في مجتمعات مريضة و مدمنة على (خردة المخترعات التقنية الحديثة)، تُعطي قيمة للفرد أكثر مما يستحق، و تفضله على الأسرة و الجماعة اللتين أضحيتا متهمتين في كيانهما، و تثمن القوة و السرعة العاليتين بجميع خردة التكنولوجيا و وسائل الانفصام عفوا الاتصال.
فمع انبعاث فجر تقنيات المعلومات حدثت تغيرات جذرية في جميع الميادين بكل المجتمعات البشرية، فاخترقت التقنية الرقمية كل الأنشطة البشرية و شجعت على إعادة النظر في كل الأنظمة التقنية و النظم الاجتماعية، و تم التغرير بكل الناس بواسطة هذه التكنولوجيا الحداثية أَنْ بإمكانهم القيام بمهام متعددة و متزامنة بسرعة الضوء، ربحا للوقت و كسبا للكثير من الأموال و مزيد من الأموال و القناطر المقنطرة من الذهب و الفضة، غير أن هذا الانطباع لم يكن إلا خداعا و مغالطة كبيرة و خطيرة من طرف من يشدون حبال اللعبة من خلف الكواليس.
إن العقل البشري في تكوينه -كما أظهرت الكثير من الدراسات و التجارب المخبرية و حتى الشخصية-ليس مهيأ للقيام بمهام متعددة متزامنة بدون خطورة عليه و بنفس الفعالية و الدقة و التركيز و الإتقان كما هو الحال عند قيامه بمهمة واحدة، يعني بصريح العبارة أن أولئك الذين يتحكمون في اللعبة و يحركون الدمى على مسرح الأحداث العالمي يسعون بالبشرية إلى إتلاف عقلها و تدمير أغلى ما في الإنسان (العقل) من بعدما أتلفوا و دمروا الأخلاق و القيم و الصحة العامة للناس، و ليذهب العقل في الهاوية!
لذلك لم يعد الأمر مستغربا أن تصبح الكثير من المواضيع المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي و مواقع نشر الفيديوهات كلها جهل و تضليل و جنون و سفه و انحطاط أخلاقي و مرض نفسي و كبث جنسي و خنث و شذوذ جنسي و سحاق و إباحية متوحشة و كفر و إلحاد، و بصريح العبارة خروج بصفة كاملة عن الفطرة السليمة و كل ما في الإنسانية من قيم و أخلاق و مبادئ تشد أزرها في هذه الحياة الأرضية التي أضحت من الناحية الإنسانية بيداء مقفرة بالرغم من كل هذا التقدم التكنولوجي (المتوحش).
الميتافيرس البعد الثالث للجهل
يعد أول من استخدم مصطلح «الميتافيرس» Metaverse هو «نيل ستيفنسون» فى رواية الخيال العلمى «Snow Crash» عام 1992. و تتكون الكلمة من مقطعين؛ الأول Meta و هو الاسم الجديد الذى تغيرت إليه فيس بوك، و يعنى «ما وراء»، و المقطع الثانى Verse الذى يأتى اختصارا لكلمة Universe بمعنى «العالم»، و الكلمتان معا تأتيان بمعنى «العالم الماورائى». و قد قصد به «نيل ستيفنسون» فى روايته تلك، العالم الافتراضى المملوك من قِبل الشركات، حيث يتم التعامل مع المُستخدمين النهائيين كمواطنين يعيشون فى «ديكتاتورية الشركات».
و يسعى مارك زوكربرج من خلال «الميتافيرس» إلى إنشاء عالم افتراضى، يسد الفجوة بين العالمين الواقعى و الرقمى، لينشأ بذلك عالم ثالث افتراضى، يستطيع فيه الأفراد إنشاء حياة افتراضية لهم عبر مساحات مختلفة من الإنترنت، بحيث تسمح لهم بالتلاقى و العمل و التعليم و الترفيه بداخله، مع توفير تجربة تسمح لهم ليس فقط بالمشاهدة عن بُعد عبر الأجهزة الذكية كما يحدث حاليا، و لكن بالدخول إلى هذا العالم فى شكل ثلاثى الأبعاد عبر تقنيات الواقع الافتراضى.
فمن خلال استخدام نظارات الواقع الافتراضى و الواقع المُعزز و ارتداء السترات و القفازات المُزودة بأجهزة استشعار، يستطيع المُستخدم أن يعيش تجربة شبه حقيقية، تعمل فيها هذه التقنيات الذكية كوسيط بين المُستخدمين فى عالم «الميتافيرس»، لإيصال الشعور بالإحساس المادى، فيستطيع أن يرى المُستخدم الأشياء من حوله بصورة ثلاثية الأبعاد عبر النظارة، كما يمكن أن يشعر فيها بالمؤثرات الجسدية الحسية، كإحساس السقوط فى المياه أو اللكمة فى الوجه أو غيرها، من خلال المستشعرات الموجودة فى السترات و القفازات التى يرتديها، فيحصل على تجربة أشبه بالواقعية حتى و إن كانت غير مباشرة.
يعتبر «الميتافيرس» عالما اختياريا، يُبنى وفق رغبات مُستخدميه، فيستطيع الأفراد إنشاء عالمهم الخاص بهم، و قد قسمها زوكربرج حتى الآن إلى ثلاثة عوالم أو آفاق Horizons كما أطلق عليها، و هى «آفاق المنزل أو Horizons Home»، و «آفاق العمل «Horizon Workrooms، و «آفاق العالم Horizons World».
و تُتيح هذه التقنية المُنتظرة للبشر التواجد بشكل «مُجسّد» في الواقع الافتراضي. و بالرغم من أنها لم تظهر بشكل رسمي حتى الآن حول العالم، فإن نُسخًا تجريبية منها ظهرت بالفعل في أمريكا و كندا خلال شهر ديسمبر.
غير أن عالم «الميتافيرس» شهد للمرة االأولى أول حالة «اغتصاب افتراضي» عرفها العالم. كانت الضحية هي نينا جين باتيل (Nina Jane Patel)، (43 عامًا)، أم لأربعة أطفال، تعمل -و يا للمفارقة!- نائب رئيس إحدى شركات التكنولوجيا التي تعمل في مشروع «ميتافيرس» ذاته!
سعت هذه المرأة الإنجليزية لخوض تلك التجربة الفريدة، واعدة نفسها بقضاء وقت ممتع في رحاب التكنولوجيا الحديثة، اختارت «أفاتار» يُماثلها في الشكل سعت للتواصل عبره مع التقنية الجديدة، لكن بدلاً من ذلك قضت دقيقة كاملة من التنكيل بعدما تعرّضت للاغتصاب.
كتبت نينا عن تلك التجربة قائلة: «في غضون 60 ثانية من الانضمام، تعرضتُ للتحرش اللفظي و الجنسي من قبل 3 أو 4 شخصيات رمزية ذكورية، و بعدها اغتصبوا «صورتي الرمزية» بشكلٍ جماعي.
و كشفت باتيل، أن هؤلاء الأشخاص استمروا في إرسال تعليقات ساخرة لها مثل «لا تتظاهري بأنكِ لم تستمتعي بالأمر».
و بالرغم من أن «ميتافيرس» احتاطت لمثل هذه الحوادث عبر تصميم ميزة تحظر المستخدمين «سيئي السلوك» تُدعى «Meta Safe Zone»، فإن باتيل كشفت أن الاعتداء عليها جرى بسرعة و «كانت تجربة مروعة لم تُمكنها من التفكير في وضع «حاجز الأمن» في مكانه».
و بعد هذه الشهادة، توالت اعترافات أخرى من مُجرِّبات للتقنية كشفن فيها عن تعرضهن لإهانات جنسية و تحرشات لفظية و جسدية «افتراضية».
بالرغم من أن هذا الحادث يبقى افتراضيًّا لم تتعرّض بطلته لأذى مُباشر، فإن «باتيل» أكدت أن ذلك الحادث «صدمها و أهانها».
كما صرّحت للصحافة بعدها بأنها شعرت «كما لو أنها تعرضت للاغتصاب في الواقع»!
فسرت باتيل ذلك بأنه «تم تصميم الواقع الافتراضي بحيث لا يستطيع العقل و الجسد التفريق بين التجارب الافتراضية و الواقعية، و هو ما جعل استجابتي الفسيولوجية و النفسية للاعتداء تبدو كما لو أنها حدثت في الواقع».
و هو ما يفتح الباب واسعًا أمام النقاش حول تأثير حوادث من مثل هذا النوع و من أنواع أخرى على البشر (بل كل أنواع الجرائم الإلكترونية في بعدها المادي و المعنوي)، و هو ما يُمكن اختصاره في سؤال «ما حجم تأثير و خطورة ما سيجري في الفضاء الإلكتروني على البشر؟» (علوم و تقنية- موقع إضاءات).
Tumblr media
في سلسلة من المؤلفات، تُخرج لنا “الشبكة العربية للأبحاث و النشر”، إصداراتها المترجمة لأعمال عالم الاجتماع البولندي، و الأستاذ بجامعة “ليدز” البريطانية، “زيجمونت باومان” (1925 – 2017): الحداثة السائلة، الحب السائل، الخوف السائل، الشر السائل، اخلاق في زمن الحداثة السائلة، الحياة السائلة، الثقافة السائلة، المراقبة السائلة.
في سلسلة السيولة، يتناول “باومان”، بترجمة للدكتور”حجاج أبو جبر و تقديم للدكتورة “هبة رؤوف عزت”، مفهومي الحداثة و ما بعد الحداثة بنظرته الخاصة، ليحولهما إلى مصطلحين جديدين على القارئ العربي، فيبدل الحداثة (و هي مرحلة سيادة العقل على كل شيء) بتعبير الحداثة الصلبة، و يعبّر عن مرحلة ما بعد الحداثة (و هي مرحلة تفكك المفاهيم الصلبة و التحرر من كل الحقائق و المفاهيم و المقدسات) بتعبير الحداثة السائلة، ليخرج لنا بسلسلة السيولة التي كونتها كُتبه الثمانية عن هذه الظاهرة، فمن كتابه الأول “الحداثة السائلة” ينطلق “باومان” إلى ما طالته السيولة من “الحياة، و الحب، و الأخلاق، و الأزمنة، و الخوف، و المراقبة، و الشر”.
و في تعريفه لمصطلح السيولة الذي يعنيه، يشرح لنا “باومان” في أول هذه الكتب “الحداثة السائلة” مفهوم السيولة بأنه انفصال القدرة (ما نستطيع فعله) عن السياسة (ما يتوجب علينا القيام به)، أو بكلمات أبسط، فإننا إذا اعتبرنا مرحلة الحداثة الصلبة هي مرحلة الإنتاج والتطور الذي تتحكم به الدولة و تكبح جماح الأفراد لصالح المجموع، فإن مرحلة السيولة هي مرحلة تخلي الدولة عن هذا الدور و فتح السوق أمام الرأسمال الحر و الاستهلاك و التحديث المستمر الذي لا غاية و لا هدف له إلا المزيد من الاستهلاك و الإشباع الفوري و المؤقت للرغبات.
و في زمننا هذا، يرى “باومان” أن الاستهلاك قد تجاوز فكرة السلعة المادية إلى استهلاك العواطف و العلاقات الإنسانية و تكنولوجيا التواصل، بالصورة التي أثرت كثيرا على معاني الحياة و الحب و الأخلاق، و بالطريقة التي جعلتنا مراقبين باستمرار بسبب استهلاكنا النهِم للتكنولوجيا الحديثة، مما أدى إلى سيولة الخوف تحت وطأة الاستهلاك و القلق مما يخبئه الغد، و أنتج لنا اضطرابا أخلاقيا أصبح معه الشر مُبررا حتى من جانب الدولة.
عندما يكون التغير هو الثابت، و يكون اللايقين هو اليقين الوحيد، تكون السيولة التي طالت الأشياء، فالحياة السائلة -وفق “باومان”- حياة استهلاكية تجعل من العالم، بكل أحيائه و جماداته، موضوعات للاستهلاك، تفقد نفعها بمجرد استخدامها، فتفقد سحرها و جاذبيتها و إغراءها، و تتشكل معايير تقييم الأفراد وفق قدرتهم على الاستهلاك، أي أنك كلما استهلكت ارتفعت قيمتك، و هكذا، ففي عالم حديث سائل، فإن الفرد يقبع تحت الحصار من قِبل كل الأحوال التي تمنيه بالحرية، و لكنها في الحقيقة تحاصره بخلق الاحتياج.
في عزف متصل، يكمل “باومان” سلسلته السائلة، فيخرج من “الحياة” إلى “الحب السائل” الذي أصبح معبرا عن هشاشة الروابط الإنسانية، في مجتمع استهلاكي يكمل منظومة الاستهلاك و يتجاوز استهلاك الجمادات و الأشياء إلى استهلاك العواطف و العلاقات. فكل الروابط التقليدية الثابتة قد فقدت سيطرتها و لم تعد مرغوبة كما كانت من قبل.
و يرى “باومان” أن ما يحكم العلاقات في مجتمع الاستهلاك هو التعامل مع العاطفة بالتعامل نفسه الذي نتعامل به مع السلعة، فهو عالم من الصلات العابرة التي يمكن الاستغناء عنها كأي منتج تم استهلاكه، و هي الصلات، أو العلاقات، التي يطلق عليها علاقات الجيب العلوي، كناية عن سهولة الاستغناء عنها بعد إشباع الاستهلاك.
ففي عالم السيولة تتغير القيم و الهويات و تسيل الحدود السياسية و تفقد الحواجز التقليدية تأثيرها و أهميتها بسبب حركة رأس المال و الهجرة المستمرة من أجل البحث عن الربح السريع، و هو ما يؤثر بدوره على ثبات القيم و صلابة الأخلاق التي قد تواجه منفعة الكسب و الاستهلاك فتكون معرضة للهزيمة و التطويع من أجل ألا تتوقف عجلة الاستعمال السريع.
كما يتطرق باومان لسيطرة العوالم الافتراضية على عالمنا الحقيقي، و كيف أن العلاقات في الواقع أصبحت تُقاس بمقاييس الواقع الافتراضي، أي أن ضغطة زر واحدة على “حذف” أصبحت تُستعمل في الحياة الحقيقية كتعبير عن سرعة إنهاء العلاقات و كأنها لا شيء، و كذا سرعة تسرب الملل إلى الحياة الزوجية -عما مضى- بسبب استشراء معاني الاستهلاك داخل النفوس بالبحث الدائم عن اللذة الفورية قصيرة الأجل، ففي ظل تنامي السيولة في كل شيء، و تحوّل “المجتمع” إلى مجرد “تجمّع بشري”، تحوّل هذا الإنسان من “وضوح العلاقات الاجتماعية” إلى “ غموض الصلات العابرة”.
كنتيجة متوقعة، من هذا العصر السائل و العلاقات الإنسانية العابرة في زمن اللايقين، يخرج “باومان” بنقد آخر للحداثة في مرحلتها السائلة بخصوص الخوف الذي يحياه إنسان العصر الحديث، حيث يخبرنا بأن العهد الذي قطعته الحداثة على نفسها بتحرير الإنسان من الخوف، لم يتم فقط نقضه، وإنما تم توزيع هذا الخوف نفسه على الأفراد، بدلا من الدولة.
فهؤلاء الأفراد الذين سقطوا في سجن الخوف، بعد أن وعدتهم الحداثة بتحريرهم منه، صاروا يشعرون بالتهديد الدائم من المستقبل والخوف المستمر من مصيرهم المجهول لما أدّت له السيولة من سرعة في الاستهلاك و الاستبدال. و هو الخوف الذي قام على ثلاثة أركان هي: الخوف من الطبيعة، و الخوف من المرض و الموت، و الخوف الإنساني بين البشر و بعضهم وفقا لمقولة هوبز أن “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”.
لكن، وعلى الرغم من محاولات الدولة الحداثية في تحييد هذه المخاوف عبر التقدم الطبي و الردع القانوني للأفراد، فإننا أصبحنا -وفق رؤية “باومان”- أمام دولة جديدة في الغرب تنسحب من أدوارها الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية، لتترك الفرد في مواجهة عولمة الاقتصاد و الرأسمالية، خادما لأغراضمها و خاضعا لسلطتهما عليه، و هو ما يصنع القلق الدائم من المستقبل المتغير.
Tumblr media
قدمت الحداثة الغربية رؤية مغايرة للخلاص تشبعت بروح العقلانية المادية حولت مسار الخلاص من السماء إلى الأرض، فلم يعد طريق الإيمان بالله هو طريق الخلاص، بل المعرفة فقط و ليس الإيمان هي طريق الخلاص و هي رؤية نابعة من الاستقواء بمنجزات الحداثة العلمية و الإيمان بقدرات العقل و تفرده في إدارة شئون الحياة بمنأى عن الدين. و بهذا تحولت مركزية الكون من الإله أو الكنيسة إلى الإنسان. إلا أن منجزات الحداثة الغربية العلمية و الثقافية لم تتناسب مع قدرتها على سد منافذ الخوف المتولد من منتجاتها، و قد خرج الخوف من دائرة الوحدة إلى دائرة الشتات.
Tumblr media
مالك بن نبي (1905-1973م) من أعلام الفكر الإسلامي في القرن العشرين. يُعدّ المفكر الجزائري مالك بن نبي أحد رُوّاد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين و يُمكن اعتباره امتدَادًا لابن خلدون، و يعد من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبّهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة.
لقد أنتج العقل الغربي من رحم الحداثة رؤية جديدة للخلاص هي (ما بعد الحداثة) فحسب مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة، فإن الحضارة هي التي تلد منتجاتها التي حاولت تفكيك أنساق الحداثة الغربية العلمية و العقلية إلى عدمية ما بعد الحداثة بالتشكيك في قدرة العقل في الوصول إلى الخلاص الحقيقي، بعدما أصبحت مفتقرة إلى اليقين المعياري الذي كان الدين مصدرا له.
و في سياق مغاير يقابل مصطلح ما بعد الحداثة في الفكر الغربي مصطلح المفكر مالك بن نبي «إنسان ما بعد الحضارة»، فالإشكالية الكبرى لديه هي أزمة انبعاث الوعي الحضاري التي يراها بالأساس أزمة تغيير الإنسان في كل زمان فيقول: «إن كل تفكير في مشكلة الإنسان هو في النهاية تفكير في مشكلة الحضارة».
فالحضارة تنبعث بميلاد الفكرة الدينية، فالحضارة لا تظهر في أمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء، أو على الأقل تقوم أسسها في توجيه الناس إلى معبود غيبي أو على حد قول كيسر لنج (عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلاقي).
و يدخل الإنسان في عهد (ما بعد الحضارة) عندما تتفسخ الحضارة، و الإنسان (في مرحلة ما بعد الحضارة) يحتاج إلى تغير جذري لكي تعود له فعاليته الحضارية.
و على العكس من ذلك، فإن الإنسان السابق على الحضارة يظل مستعدا كما هو الحال مع البدوي المعاصر للنبي صلى الله عليه و سلم للدخول في دورة الحضارة.
و ثمة اختلاف بين النموذجين في فاعلية التغيير و التطور؛ فإنسان ما بعد الحضارة الذي يراه مالك بن نبي متفسخاً حضارياً، يحمل قدراً من الخرافات و الأوهام، في حين أن إنسان ما قبل الحضارة يكون أكثر استعداداً و قبولاً للدخول في الدورة الحضارية، لأن إصلاح إنسان (ما بعد الحضارة) يتطلب عملية نفسية أكثر تعقيداً تتمثل في إصلاح المدركات الدينية و إعادة بناء نفسيته. وفقاً لهذه المدركات، فإن إنسان ما بعد الحضارة يعيش أزمة أكثر تعقداً، بينما إصلاح مدركات الإنسان الطبيعي يعتبر أكثر سهولة، و إعداده لمرحلة الانطلاق الروحي الحضاري أقل تعقيداً من الإنسان المتفسخ حضارياً.
و من الفرد ينتقل مالك بن نبي إلى المجتمع الذي يراه لا يستحق هذا الاسم، إلا إذا أصبح جماعة تسرع في الحركة و تغير دائماً خصائصها الاجتماعية بإنتاج وسائل التغيير، مع علمها بالهدف الذي تسعى إليه من وراء هذا التغيير.
و تبدو شبكة العلاقات الاجتماعية هي رأس مال المجتمع الذي لا يقاس غناه بقدر ما يملك من أشياء، بل بمقدار ما فيه من أفكار.
Tumblr media
عبد الوهاب محمد المسيري (1938-2008)، مفكر و عالم اجتماع مصري مسلم، و هو مؤلف موسوعة اليهود و اليهودية و الصهيونية أحد أكبر الأعمال الموسوعية العربية في القرن العشرين.
يعتبر المفكر عبد الوهاب المسيري في كتابه قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى، الحداثة السائلة التي يسميها ب "الواحدية السائلة"، نتاجا طبيعيا لارتفاع معدلات استبدال كل القيم الدينية بالقيم المادية، و تفكيك الإنسان و علمنة القيم، فتصبح كل الأمور مقدسة بصورة سائلة لا يمكن معها تحديد الثوابت الحقيقية للإنسان، فحق الشذوذ مقدس، و حق الإباحية مقدس، و حق التعري مقدس، و حق أي إنسان في فعل أي شيء مقدس في ذاته حسب هذا النموذج العلماني المتخاصم مع القيمة الدينية للأفعال.
لكن.. هل نجحت هذه الحداثة السائلة في احتواء الإنسان و استيعابه؟ هذا ما لا يراه "المسيري" من أي جانب إذ يراها قد حولته إلى أداة مجردة من كل ميزة إنسانية، فقيمة كالتضحية، مثلا، قد فقدت الكثير من معناها مع هذه الرؤية للإنسان، و هو يسوق ذلك -كمثال- على ما لحق بوظيفة الأم في هذا العصر، إذ اختفت أهمية الأم و تلاشت أمام المرأة العاملة، فأصبحت المرأة لا تعتبر عملها في التربية أو تنشئة الإنسان عملا حقيقيا ذا قيمة؛ لأنه لا يدر الربح المادي مغفلة القيمة المعنوية و التربوية للأم في صناعة الإنسان، و أصبحت كذلك العلاقات البشرية محكومة بفكرة العقد أكثر منها خاضعة للتراحم.
و هذا النموذج العلماني ينتقده "المسيري" بشدة و يرى قصوره الشديد عن فهم الإنسان، و يرى، بدلا منه، أهمية الدفاع عن الثنائية البشرية (المادة/الروح) التي تنشأ نتيجة للإيمان بالله، فيتجاوز الإنسان عالم الطبيعة إلى عالم الروح، و يحقق التوازن بينهما عن طريق السعي في الدنيا و الإيمان بالحقائق التي يشرحها الدين و يفسرها، كالحقائق الأخلاقية و التراحمية، و هي الأمور التي لا نجد لها محلا في التفسير المادي/العلماني، مما يجعل "المسيري" يصفها بفلسفة تفكيك الإنسان، و هي الفلسفة التي زارت الشرق عن طريق العولمة و (الاستهلاكية) التي أضحت قيمة في ذاتها و سلطة استعمارية من نوع جديد تُخضع لها الأفراد بدون سلاح.
آثار ما بعد الحداثة على المجتمع الغربي
كان لفلسفة ما بعد الحداثة آثار وخيمة على المجتمعات الغربية، و برزت هذه الآثار في مجالات متعددة كالاقتصاد و السياسة و المجال الاجتماعي و الفن و الأدب و الدين، ويسلط عبد الوهاب المسيري الضوء على ثلاث مجالات مهمة هي: المجال الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي، و ذلك انطلاقا من تجربته الكبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية التي امتدت لخمس عشرة سنة، و قام خلالها بتحليل الواقع الأمريكي باعتباره نموذج حي للتصور الما بعد حداثي ( و يتجلى ذلك في كتبه: الحداثة و ما بعد الحداثة، الفلسفة المادية و تفكيك الإنسان، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري).
1- في المجال الاقتصادي: أهم ما جاءت به حقبة بعد الحداثة هو شعار “الاستهلاك و المزيد من الاستهلاك”، فأضحى ما يحرك الإنسان الغربي هو الاستهلاك بدافع اللذة، بحيث أصبح نمط الاستهلاك لدى الفرد مؤشراً على مكانته الاجتماعية، و الرغبة في الاستهلاك من أجل اللذة لا المنفعة، هو الذي يدفع المصانع لإنتاج السلع غير الضرورية، و من ثم أصبح ��لإنسان الغربي يستهلك أشياءً لا ليلبي بها حاجاته، و إنما ليشبع بها لذته التي لا تنتهي و ليس لها حد، وجاء هذا في سياق تحكم الرأسمالية في العملية الإنتاجية، فانتقل النظام من المنفعة إلى اللذة و قداسة الاستهلاك.
2- في المجال الاجتماعي: فالأمر كان أشد و أمر، و يبين لنا المسيري هذا بوضوح بقوله: إن مرحلة ما بعد الحداثة تم القضاء فيها على مفهوم المركز، فأصبحنا بذلك أمام تعدد المراكز، و جراء هذا التعدد أصبح من المتعذر على الإنسان أن يتجاوز حدوده المادية الضيقة. و يضرب مثالاً على هذا من عمق تجربته في أمريكا، فيحكي أنه قبل عام 1965م كان لباس المرأة الغربية محتشماً نسبياً، أما بعد هذا التاريخ تنامت ظاهرة العري، و تزامناً مع هذا برزت ظواهر أخرى كالشذوذ الجنسي، و الحمل السفاح بين المراهقات، و انتشار المخدرات، و تآكل الأسرة، و الحمل خارج إطار الأسرة، و تقديس اللذة.
و من الآثار المدمرة التي جرتها فلسفة مابعد الحداثة على المجتمع، تآكل الأسرة في ظل انفصال الجنس عن القيم الأخلاقية و الاجتماعية، فيصبح النشاط الجنسي مرجعية ذاته و يزداد السعار الجنسي، و يرى المسيري أن اللذة أضحت من الآليات التي يوظفها المجتمع العلماني للضبط الاجتماعي من خلال الإغواء، فتتم إشاعة الإحساس بأن حق الإنسان الأساسي و الوحيد هو إشباع اللذة، فهو أقصى تعبير عن الحرية الفردية، و هو ما يعني ضمور اهتمام المواطن برقعة الحياة العامة و تركيزه على ذاته و رغباته، و هذه اللذات يتم تشكيلها و صياغتها و توجيهها من قبل أجهزة الإعلام، فيظهر لنا الإنسان ذو البعد الواحد، ذلك الفرد المُخدر الذي لا يمكنه التحكم في رغباته الحسية، و الذي تتركز أحلامه في تحقيق انتصار جنسي أو فوز النادي الذي ينتمي إليه فوزاً ساحقاً.
و من شدة ما فقد الإنسان الغربي المعنى، بدأ يتخبط في شذوذات غريبة، فأصبحت الإباحية صناعة، و بدأنا نسمع بالاختيار الجنسي أي تحييد الجنس و تطبيعه، و جراء هذا ظهرت عدة أشكال منافية للفطرة كممارسة الجنس مع الحيوانات Zoophilia و مع الأطفال Pedophilia، و تحرر الجنس من الإطار الاجتماعي و الأخلاقي مما أدى إلى ظهور أشكال بديلة عن الأسرة، مثل أسرة تتكون من رجلين أو امرأتين.
3- في المجال السياسي: بعد 1965م، ضمرت الدولة القومية و مؤسساتها و ظهرت مراكز قوى أخرى (نقابات -جماعات ضغط- شركات ضخمة منظمات غير حكومية)، فالسلطة لم تعد مجموعة مؤسسات مركزية يمكن الاستيلاء عليها والتحكم فيها، فهي موزعة بين عدة مؤسسات متغلغلة في المجتمع، و لم يعد هناك إيمان بالصالح العام، كما بدأ التوجه الحاد نحو اللذة يقوض مركزية الدولة، إذ تصاعدت النزعات الفردية.
لذلك يؤكد المسيري على أن مابعد الحداثة هي أيديولوجية النظام العالمي الجديد، فقد تمت عولمة بعض القضايا مثل الطاقة النووية – التلوث البيئي – الإيدز- الثورة الإلكترونية، و يمكن القول بأن الدول الاستعمارية السابقة تحاول في الوقت الحاضر استغلال الموارد الطبيعية و البشرية على المستوى العالمي بدون مواجهات عسكرية، و ذلك من خلال تجنيد النخب المحلية الحاكمة لتنفيذ مخططات الدول الغربية، و من خلال تزايد معدلات التدويل، بحيث يتحول الكون بأسره إلى شيء متجانس يتسم بالواحدية الدولية، لا خصوصيات له و لا ثنائيات و لا تنوع، فبدلاً من استعمار الشعوب، يحاول الغرب أمركتها و كوكلتها (نسبة إلى الكوكاكولا) و تحل الكوكاكولانية بدلا من الكولونيالية، و هنا يتم الحديث عن نهاية التاريخ و نهاية الأيديولوجيا.
موت إنسان ما بعد الحداثة
إن الخطاب المابعد حداثي يمثل أزمة متكاملة الأركان في عالم اليوم، و يتجلى هذا في بروز النسبية المطلقة و الإباحة المطلقة، فلم تعد هنالك حدود يحترمها الإنسان أو مرجعية يستند إليها في حياته، و بالتالي ظهرت لنا جملة من الآفات المهلكة للإنسان و المبشرة بخراب العمران.
في خضم نقده للرؤية المابعد حداثية، يرى المسيري أن إعلان موت الإله يقابله موت الشيطان، و هذا يؤدي بنا إلى انعدام معيار الخير و الشر و العدل و الظلم، و بالتالي نصل إلى موت الإنسان نفسه، و بهذا نحصل على الفكر الواحدي حيث تتم تصفية كل الثنائيات من حق و باطل، روح و جسد، دين و دنيا، المقدس و المدنس.
و حسب نظرة المسيري، فإن الذات الإنسانية المستقلة الواعية في مرحلة ما بعد الحداثة تختفي و تصير ذاتاً منغلقة على نفسها و غير متماسكة، و تختفي المعيارية و هو ما يعني استحالة المحاكاة أو التفاعل أو التواصل. و هذا يبشر بانهيار المنظومة الدلالية و الجمالية.
إن ما بعد الحداثة فلسفة مادية متطرفة معادية للعقل، فهي تنكر الكون و الكليات و المطلقات و الحدود و تنكر وجود الذات و الموضوع و تنكر وجود أي مركز، و تعلن استحالة قيام نظم معرفية و أخلاقية عالمية، و هذه الفلسفة لا تقف ضد الأديان فحسب و إنما تقف ضد العقلانية المادية الصلبة ذاتها، و بالتالي فإن الحضارة المعاصرة ذات نسبية كاملة و سيولة شاملة.
تعقيب
إن الإنسان الذي يعيش في هذه الحياة بلا معنى و لا غاية يعتبر ضالاً بالمصطلح القرآني، أي أنه يسير في طريق مجهول، و الحضارة الغربية المعاصرة بقيادة فلسفة مابعد الحداثة تعبر عن هذا المصطلح القرآني بجلاء، فهي حضارة ضلت الطريق، كفرت بالله تعالى و عبدت أصناما تمثلت في الجسد و اللذة و الاستهلاك المتوحش و تزاوج المال الحرام بالشهوات المحرمة، و صناعة الفساد و الإفساد في الأرض.
إن جاهلية الغرب على موعد مع نهاية مثل نهاية قوم عاد:
قال الله تعالى: { وَ اذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَ لَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } [الأحقاف:21-23].
71 notes · View notes
tadkiraimania · 3 years
Text
Tumblr media Tumblr media
Tumblr media
علم المستقبل: المفهوم و الدلالات
علم المستقبل هو علم حديث يعتمد أحدث المعطيات الاقتصادية و العلوم المتطورة و التقنيات المتقدمة لتصور ما يكون عليه العالم بعد عقد و عقدين.
و للدراسات المستقبلية معانٍ و مرادفات عدّة منها عِلم المستقبل، بحوث المستقبليات، دراسات البصيرة، بحث السياسات، التنبّؤ التخطيطي، التحرّكات المستقبلية، المنظور و المأمول المستقبلي، التنبّؤ المشروط المستقبلي.
و يعتبر عالم الاجتماع الأمريكي جيلفيلان s.gilfillain أول باحث استخدم تعبير علم المستقبل science of the future في أطروحة تقدم بها إلى جامعة كولومبيا لنيل درجة الدكتوراه عام 1920 و كان قد استخدم في مقال له عام 1907 مصطلح mellontology و هي كلمة لاتينية تعني أحداث المستقبل... كما أطلقه عام 1943 عالم السياسة الألماني أوسيب فلختايم ossip felecchtheim الذي كان يدعو لتدريس المستقبليات منذ عام 1941، و كان يعني به إسقاط التاريخ على بعد زمني لاحق. يقول فلختايم الملقب «بأبى المستقبلية» فى حوار نشرته ألفيجارو الفرنسية فى 18 مايو 1974: «إن المستقبل هو البعد الذى سنكون فيه بالضرورة، و لكنه أيضا البعد الذى سيكون فيه أطفالنا و افكارنا و تنشأ فيه حياة الملايين غيرنا. نعم الفرد يموت لكن لماذا لا يحيا آخرون بطريقة أفضل و اكثر إنسانية؟»
و قد انتقد العالم الهولندي فريد بولاك fred bolak هذا المصطلح على أساس أن المستقبل مجهول فكيف نرسي علما للمجهول.
عندما سئل أينشتاين عن سر اهتمامه بالمستقبل رد قائلا: “ببساطة لأننا سنعيش بقية عمرنا هناك”، و في عام 1971، نشر المنشق السوفياتي أندريه أمالريك كتابه المشهور: هل سيبقى الاتحاد السوفييتي حتى عام 1984؟، و توقع فيه أن ينهار الاتحاد السوفييتي عام 1984، و بنى توقعاته بعد تحليل الأوضاع الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و شبكة علاقات الاتحاد السوفياتي الدولية بخاصة مع الصين و الولايات المتحدة، و وضع احتمالين للشكل الذي سيأخذه الانهيار، و يمكن القول أن جزء من كل شكل هو ما وقع فعلا. فقد جاء غورباتشوف للسلطة عام 1985 و بدأ مسار الانهيار السوفياتي الذي اكتمل عام 1991.
استشراف المستقبل و علم الغيب
مفهوم علم استشراف المستقبل هو علم حديث و جهد علمي منظم يدرس الماضي و الحاضر ليتوقع المستقبل من خلال سنن الله في خلقه.
فالدراسات الاستشرافية لا تهدف إلى التنبؤ بالمستقبل بل إلى التبصير بجملة البدائل المتوقعة التي تساعد على الاختيار الواعي لمستقبل أفضل.. و الاستشراف ليس تنبؤاً و تكهناً بالمستقبل أو اطلاعاً على الغيب، و ليس القصد بالاستشراف علم الغيب، فهذا علمه عند الله وحده و هو المتصرف في الكون.
و الحقيقة أن الغيب يقاوم الخرافة، و لا يسمح لها أن تستقر، فالخالق سبحانه، قصر علم الغيب على نفسه، و بالتالي فالبشر جميعا متساوون أمام علم الغيب، لذلك جاءت الآية الكريمة : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } [الجن-26] حيث دارت الأساطير حول معرفة الجن بالغيب، و هو وهم اتخذه البعض ليعبد الجن ظنا منهم أن عنده علم الغيب.
الإعجاز الغيبي في القرآن الكريم
الإعجاز الغيبي هو إخبار ما غاب عن النبي محمد صلى الله عليه و سلم و قومه مما لم يشهدوه من حوادث وقعت، أو لم يحضروا وقتها، فلم يكونوا على علم بتفاصيلها، و هو يشمل غيب الماضي و غيب الحاضر و غيب المستقبل.
1- غيب الماضي: هو إنباء القرآن الكريم عن الأخبار التي وقعت في الماضي السابق لزمن النبي محمد صلى الله عليه و سلم ، و من الأمثلة على هذا النوع من الإعجاز الإخبار عن قصص الأقوام السابقين و الأنبياء، و ما ورد من معلومات و روايات و تفصيلات تتعلق بهم، قال الله عز و جل: { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَ لَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [هود:49]. و من الأمثلة على هذا النوع من الإعجاز هو إخبار القرآن الكريم بالتفصيل عن قصة النبي موسى مع فرعون و هروبه مع الذين آمنوا معه حيث ذُكرت هذه القصة في الآيات 76-92 من سورة يونس. و قد خُتمت القصة بقول الله تعالى إلى فرعون : { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ }.
2- غيب الحاضر: هو إنباء القرآن الكريم عن المغيبات التي حدثت في عهد النبي محمد صلى الله عليه و سلم، فقد كشفت الآيات القرآنية الكريمة مؤامرات الكافرين و المنافقين و مكائدهم قبل تنفيذهم لها.
3- غيب المستقبل: هو إخبار القرآن الكريم بأمور كثيرة ستقع في المستقبل في زمن النبي محمد صلى الله عليه و سلم، و من أمثلة الإعجاز الغيبي في القرآن إخبار القرآن عن انتصار الروم على الفرس، في قوله :{ الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 1-5]، و قد حدث ما أخبر به الله سبحانه من انتصار الروم على الفرس، و كان ذلك وقت غزوة بدر.
استشراف المستقبل في السنة النبوية
كان استشراف الرسول صلى الله عليه و سلم للمستقبل في كافة المجالات، في المجال التشريعي و الاجتماعي و التربوي و الدعوي و العسكري و السياسي و الاقتصادي، و في ذلك شواهد كثيرة من الأحاديث النبوية الشريفة التي تتناول هذه المجالات.
إن أخبار المستقبل في السنة النبوية تختلف عن استشراف المستقبل بالجهود البشرية الصرفة، لأن الأخير يمثل جملة من الافتراضات و الاحتمالات القابلة للخطأ، في حين أخبار المستقبل في السنة النبوية وحي سماوي لا مجال للخطأ في تقديراته. و لقد تضمنت أخبار المستقبل في الحديث النبوي الشريف معلومات ثمينة وردت عبر المحاور الآتية :
- أخبار المستقبل في شأن ارتفاع الأمة الإسلامية و كثرة الخير فيها.
- أخبار المستقبل في شأن الفتوحات التي تكون على أيديها.
- أخبار المستقبل في شأن اختلال المقاييس الدينية و الخلقية و الاجتماعية.
- أخبار المستقبل في اختلال بعض من نواميس الكون و الحياة.
- أخبار المستقبل في شأن العلامات الصغرى و الكبرى للساعة (مقال: الفيضي محمد بشار محمد أمين- مجلة مؤتة للبحوث و الدراسات).
فقه الائتمان على المستقبل
في بحث للدكتور محمد عبد الفتاح الخطيب - جامعة الإمارات، في ندوة الحديث و استشراف المستقبل بعنوان؛ (الائتمان على المستقبل في السنة النبوية) يقول:
إن المسلم من المنظور الحضاري الإسلامي، ليس مطالباً باستشراف المستقبل رؤية و تخطيطاً فقط، بل هو مؤتمن عليه أيضاً! و لعل في حديث النبي صلى الله عليه و سلم: «إِن قَامَتِ السَّاعَةُ وَ بِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فإن اسْتَطَاعَ ألا يَقُومَ حتى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ» خيرَ دليل على الشعور بالمسؤولية تجاه حركة المستقبل.
و يرى الدكتور الخطيب أن السنة النبوية تؤكد أن المسلم قادر على تشكيل مستقبله و امتداد فعله حتى بعد الموت! و من ثم يضيف هذا المفهوم بعداً رابعاً في الفقه الحضاري، بعد: فقه النص، و فقه الواقع، و فقه تنزيل النص على الواقع، و هو فقه الائتمان على المستقبل.
و يخلص إلى أن الإسلام يملك منظومة قيمية ليست ضرورة لشهودنا الحضاري من جديد، بل و أيضاً، ضرورة لحداثة إنسانية جديدة، بعيداً عن الحداثة الغربية، و أزماتها، و تطرفها في التعامل مع الإنسان و مع الأشياء (موقع رابطة العلماء السوريين).
واقع استشراف المستقبل في العالم العربي و الإسلامي
في القرآن الكريم قصة جعلها الله عبرة لأولي الألباب، و هي قصة نبي الله يوسف عليه السلام و فيها يذكر القرآن لنا مشروع تخطيط للاقتصاد الزراعي لمدة خمسة عشر عاماً لمواجهة أزمة غذائية عامة، عرف يوسف عليه السلام  بما ألهمه الله و علَّمه من تأويل الأحاديث أنها ستصيب المنطقة كلها، و قد اقترح يوسف عليه السلام مشروع الخطة و وُكل إليه تنفيذها، و كان فيها الخير و البركة على مصر و ما حولها: { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:47-49].
يرى الدكتور عمارة أنّ التاريخ يُعَدّ عِلماً من علوم المستقبل و ليس مجرّد قصص لتزجية الفراغ و الاستمتاع، حيث أنه إذا كان ما نملكه من اختيارات و مواريث يعين على الخلق و الإبداع بالشكل الذي يدعم النهضة الحضارية، كان الربط بين تراثنا و دراساتنا المستقبلية مطلباً قومياً و ضرورة من ضرورات النهضة و شرطاً من شروطها (الدكتور محمّد عمارة - كتاب الإسلام و المستقبل).
و يشير عبد الرحمن العكيمي في كتابه الاستشراف في النص: "كثيرا ما يصبح الاستشراف ضرورة تفرضها متطلبات مرحلية كثيرة، و رغم ذلك لا توجد لدينا مراكز تستشرف المستقبل، و تدرسه في الوطن العربي كما يحدث في أمريكا و في الغرب بشكل عام. فقد صدرت تقارير أمريكية تستشرف حالة المستقبل حتى عام 2020".
إن قراءة الواقع و استشراف المستقبل سواء كان علميا أو إبداعيا فإنه يصبح مطلبا حضاريا. من هنا كانت الضرورة في نشر الوعي به و بأساليبه و مبادئه و طرقه و أدواته أمر مهم جدا لنفهم جميع التحولات التي تدور حولنا و لا نقبع في مسرح الأحداث في الوطن الإسلامي دونما حراك.
يقول الدكتور محمد عابد الجابري: "إن علم المستقبليات كما يطبق اليوم بالنسبة إلينا نحن شعوب العالم الثالث علم مخيف يبشر بالكارثة، و الانحطاط و الانقراض". و يضيف الجابري: "إن الانطلاق من هذا الحاضر الخاضع كذلك للهيمنة الإمبريالية اقتصاديا و سياسيا و عسكريا و أيديولوجيا لا يمكن أن يسمح له علم المستقبليات، و لا لأي علم آخر يعترف بمعطيات الواقع الراهن كحقائق موضوعية نهائية" ( كتاب إشكاليات الفكر العربي المعاصر).
و يقول المهدي المنجرة: "إن العالم العربي و الإسلامي بصفة عامة يعيش أزمة كبرى تكمن في عدم وجود رؤيا للمستقبل، مما يجعل مجتمعاته تسير و تنمو على الصدفة و على العفوية و بدون نموذج اجتماعي أو تنموي قادر على تغطية 15 أو 20 سنة مقبلة، و هو ما يؤدي عكسيا إلى الاستسلام إلى نماذج التنمية الأجنبية و الغربية، و بالتالي إلى تقييد حرية الشعوب في تسيير ذاتها و الحد من حقوقها الديموقراطية" (كتاب الحرب الحضارية الأولى).
لذلك لازالت قدرتنا في العالم العربي الإسلامي على دراسة المستقبل و مستقبل الإسلام و العالم الإسلامي على وجه التحديد، تعاني من ضعف و قصور، تؤثر على رؤيتنا و تعاملنا الموضوعي مع الأحداث و التغيرات و التطورات في ظل عالم و واقع متغير.
و مما لا شك فيه أن الأمة التي لا تمتلك خريطة واضحة المعالم و التضاريس لهذا العالم سريعِ التغير شديدِ التعقيد، و التي لا تمتلك بوصلة دقيقة تعينها على تحديد مسارها الصحيح على هذه الخريطة، تعرض مستقبلها لأخطار عظيمة و تتحكم في تشكيل هذا المستقبل قوى خارجية تخدم مصالحها.
إن الولع بالمستقبل شيء إنساني، و المستقبل هو مجال الحرية و مجال العمل و مجال الفعل.. و الماضي شيء ولى، و الواقع قائم لا يتغير إلا في المستقبل المتاح، فإذا أردنا أن نغير واقعنا فليس أمامنا إلا هذا الغد لقوله عز و جل: { وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } [الحشر-18].
فمستقبلنا يجب أن نصنعه بأيدينا، لا أن يصنعه الآخرون لنا، و نبتكره من داخل حضارتنا و هويتنا و ثقافتنا، لا من داخل حضارة و هوية و ثقافة الآخرين، و نحن من يجب أن نختار طريقنا إلى المستقبل، و يكفي أن نتعلم من الماضي و الحاضر كيف نبني مستقبلنا الذي يجب أن نذهب إليه لا أن ننتظره أن يأتي إلينا، لأنه بكل بساطة لن يأتي إلينا! لأن التغيير -كما قال المهدي المنجرة- ضرورة، و لزوم القيام به لمستقبل أفضل يتجلى بوضوح في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد:11]، و التغيير قوامه الإبداع و الإبتكار، و كل مادة حية فاقدة للحركة و التغير هي معرضة للموت، و هي سنة يجري مفعولها على الفرد و المجتمع (كتاب الحرب الحضارية الأولى).
المستقبل و حرب الأفكار
إن الحروب في واقعنا المعاصر هي حروب أفكار أو مايسمى ب: القوة الناعمة، و أن المنتصر في هذه الحروب الفكرية هو المنتصر على جميع الأصعدة الأخرى؛ و لقد بدأ ظهور مراكز الدراسات السياسية و الإستراتيجية باعتبارها مصانع لأسلحة الفكر، و ليس أدلَّ على نجاح مراكز الدراسات الإستراتيجية في قيادة الولايات المتحدة إلى ما وصلت إليه الآن من شبه انفراد بالسيطرة على العالم، من أن عدد هذه المراكز الأمريكية التي أُطلِق عليها منذ ظهورها (بيوت الخبرة) يتجاوز 1750 مركزاً منتشرة في جميع الولايات الأمريكية.
و بناء على ذلك يمكن القول إن الدراسات المستقبلية هي ثقافة مجتمعية متجذرة و أسلوب تفكير و نمط حياة معهود، حيث أن الغاية الجوهرية لهذه الدراسات تكمن في استقراء الواقع و السعي نحو تحقيق الأهداف بغية الاستفادة من القيم الاجتماعية و الثقافية بعد ترجمتها إلى دراسات علمية و اختيارات متنوعة و ممكنة التطبيق.
و يمكن التأكيد على الأهمية المأمولة للدراسات المستقبلية في كونها ثقافة مجتمعية، مع العلم أن أزمة تخلفنا هي أزمة ثقافية قبل أن تكون اقتصادية،  و أنها أيضا أزمة قيم قبل أن تكون أزمة تنمية.
و لذلك كان لزاما علينا ان نتشبت  بهويتنا و ثقافتنا و قيمنا ضد الحرب الفكرية التي يشنها علينا الغرب المسيحي- اليهودي، و يخفيها تحت غطاء التفوق العلمي و الاقتصادي و التكنولوجي و ثورة الإعلام و المعلوميات و المعرفة.
و لتوضيح  و فهم ما سبق ذكره، كان لابد من تسليط الضوء (على سبيل المثال لا الحصر) على فكر مفكرين ه��ا رائدين من رواد العالم الإسلامي في مجال الإبداع و استشراف المستقبل.
Tumblr media
يُعتبر ابن خلدون من أشهر علماء الحضارة الإسلامية، كتبه ـ خصوصًا المقدمة ـ تُرجمت إلى لغات عدة كما كُتب عنه و عنها ما يَصعب حصره.
تَمتاز مقدمة ابن خلدون بِعمقها و أصالتها و إبداعها و جمعه بين عدد من التخصصات، فالمقدمة جعلت من ابن خلدون إسماً معروفًا في علم الاجتماع و التاريخ و الفلسفة و علم الإنسان و علم الاقتصاد و دراسات الحضارات.
و يعتقد الفيلسوف و عالم الاجتماع البريطاني إرنست غيلنر  أن ابن خلدون عالم اجتماع استقرائي متميز، مارس علم الاجتماع قبل اختراع علم الاجتماع و مفاهيمه.
  و يعتبر الفيلسوف محمد عابد الجابري في كتابه: نحن و التراث / قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، أن ابن خلدون تحدث ـ في القديم ـ عن واقعنا الذي نعجز، نحن أبناءه، عن الحديث عنه، و يفضح أمامنا واقعاً لم نتمكن من تغييره.
ولد عبد الرحمن محمد ابن خلدون، بتونس و توفي بمصر (1332م-1406م)، هذا المفكر لم يكن مجرد كاتب، أو مؤرخ عابر، بل أثبتت الأيام أن فكره يتجدد عبر الأيام، و أن في منابع هذا الفكر ما يدعو إلى التأمل و الاستقراء لأته فكر مستقبلي، فكر تجاوز بصاحبه الحدود، و هذا مدعاة إلى القول إن فكر ابن خلدون لا يهرم و لا يشيخ بالتقادم.
نظرية العمران: استشراف للمستقبل
أسس ابن خلدون في كتاب المقدمة لنظرية في علم الاجتماع غاية في الأهمية ألا و هي: نظرية العمران، حيث بين أن المجتمعات البشرية تسير وفق قوانين مضبوطة و محددة، و هذه القوانين تفتح المجال على قدر كبير من استشراف المستقبل من حيث تطور الحضارات و انهيارها إذا ما درست و فهمت بالشكل الصحيح.
لقد تناول ابن خلدون في مقدمته الكثير من العلوم على اختلافها، كعلوم الشريعة، و الجغرافية، و السياسة، و العمران و الاجتماع، و الاقتصاد و الأناسة (أحوال الناس و طبائعم).
في تلك القلعة المعروفة بـ”بني سلامة” و الواقعة في ولاية وهران غربي الجزائر، كتب الفيلسوف التونسي المولد، الأندلسي الأصل، مُقدّمته الشهيرة و التي استند عليها الفلاسفة المعاصرون لإنقاذ حضاراتهم من الإنهيار، و منهم ـالفليسلوف الإنجليزي أرنولد توينبي الذي وصف ابن خلدون على أنه:”أكبر منظر لفلسفة التاريخ في كل الأزمنة”، قائلاً:” ابتكر ابن خلدون و صاغ فلسفة للتاريخ و هي بدون شك أعظم ما توصل إليه الفكر البشري في مختلف العصور و الأمم”.
لقد رأى ابن خلدون في تفسيره للتاريخ أنه لا مفرّ من مرور الحضارات أو الأُمم بمراحل عُمرية ثلاث: البداوة، التحضر، التدهور. تماماً كما هو حال الأفراد الذين يُولدون و يشبّون و من ثم يهرمون و يموتون. و قال في ذلك: “إنّ أحوال العالم و الأمم و عوائدهم و نحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة و منهاج مستقر ، إنما هو اختلاف على الأيام و الأزمنة، و انتقال من حال إلى حال، و كما يكون ذلك في الأشخاص و الأوقات و الأمصار، فكذلك يقع في الآفاق و الأقطار و الأزمنة و الدول. “:
- المرحلة الأولى: طور البداوة للأُمم في مفهوم هذا الفيلسوف، يُشبه معيشة البدو في الصحاري  و البربر في الجبال و التتار في السهول ، و في هذه المرحلة  لا وجود لأي قوانين مدنية، و الغلبة هنا للأقوى و للغرائز.. فلا وجود لسلطة قانونية أو لأُسس بناء الدولة.
- المرحلة الثانية: في مرحلة التحضّر، فإن الدين و العصبية هو اللُبنة الأولى لبناء الدولة عقب الغزو أو الفتح، حيث للعصبية في هذه المرحلة الأثر الأهم في الحياة الإجتماعية؛ لأنه من خلالها تُفرض السيطرة، و بالسيطرة يحصل الحاكم على السُلطة، و هكذا تلعب العصبية دورا هاما في تأسيس السلطة و في تكوين الدولة. فالدعامة الأساسية للحكم تكمن في العصبية التي اعتبرها ابن خلدون نزعة طبيعية في البشر. و عليها تتوقف قوّة الدولة و مدى اتساع نطاق الحكم فيها، و ذلك بحسب نسبة القرابة أو نسبة التديّن. و برأيه، فإن مرحلة التحضّر تزدهر باستقرار المُدن و بالتمكّن من العلوم و الصناعات.
- المرحلة الثالثة: فلقد صنّفها ابن خلدون على أنها مرحلة الانغماس بالترف و الرخاء و التحلل الأخلاقي، و انزلاق العادات إلى المُنكر. و في هذه المرحلة تدخل الدولة مرحلة الخطر الذي يُنذر بالتدهور، و أول أسباب السقوط، سيكون “العصبية”.. و هنا نجد أن مراحل تحضّر الدولة هي نفسها عوامل تدهورها من وجهة نظره.
لقد طرح هذا المفكر الإنساني الإسلامي أسئلة  جوهرية حول الجنس البشري و حول شكل المجتمعات، محاولاً في جميع مؤلفاته صون الحضارة الإسلامية من خلال وضع تصوّر لعلاج الأزمات الأخلاقية و التفسخ في المجتمعات، معتمداً في ذلك على فهم المسار الإنساني. فانتهى بخلاصات جوهرية ما زالت حتى اليوم مرجعاً للأمم، و مصدر إلهام لعُلماء الإجتماع و السياسة في العالمين الإسلامي و الغربي (سحر ناصر-موقع إسلام أون لاين).
لقد حذر ابن خلدون من أن تطور التاريخ مرهون بعوامل سلوكية إنسانية تتمثل بالتدافع و الصراع و التفاعل، بالإضافة إلى عوامل  أخرى مؤثرة منها: الجغرافية و البيئية و الإقتصادية، خالصاً إلى أنه لا تصلح الإنسانية كُلّها بغير الدين؛ يقول ابن خلدون: "الوازع الديني” أقوى في ردعه و زجره من “القانون” الذي يسميه بتعبيره بـ (الأحكام السلطانية)،  و يوضح ذلك قائلا: “تبين أن الأحكام السلطانية مفسدة للبأس، لأن الوازع فيها أجنبي، و أما الشريعة فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي"، و نلاحظ تعبير ابن خلدون بـ(الأجنبي)، و كأنه يشير إلى أن مصدر الإلزام فيه أمر غريب ليس مؤسسا على قناعة ذاتية داخلية.
كما توجد ثمة علاقة بين الوازع الديني و تهذيب الفرد و المجتمع، فكذلك هناك علاقة أيضا بين الدين و الدولة في رأي ابن خلدون، فالدين في رأيه يزيد الدولة قوة، و يعزز وحدتها، و يضرب ابن خلدون مثلا في ضعف قوة العرب و الدولة الإسلامية وقتئذٍ إلى إنهم كانوا قد ” نبذوا الدين، فنسوا السياسة فتوحشوا كما كانوا”.
إذاً, فالدين في رأي ابن خلدون بالإضافة إلى أنه عامل في صلاح المجتمع و تهذيبه، يعده عاملا من عوامل القوة و الألفة و اجتماع القوة، و نبذ الفُرقة أيضا. و ذلك لأن أحكام الدين “راسخة فيهم من عقائد الإيمان و التصديق، فلم تزل صور بأسهم مستحكمة. قال عمر رضي الله عنه: «من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله»”.
و على نقيض ابن خلدون إستبعد أوغست كونت الدين،   فأوغست كونت أب شرعي و مؤسس للفلسفة الوضعية الذي حاول فيما بعد وضع “دين للإنسانية” و إخضاع السياسة للأخلاق منعاً للحروب و لإندثار الدول.
Tumblr media
المهدي المنجرة (13 مارس 1933م - 13 يونيو 2014م) اقتصادي و عالم اجتماع مغربي مختص في الدراسات المستقبلية. يعتبر أحد أكبر المراجع العربية و الدو��ية في القضايا السياسية و العلاقات الدولية و الدراسات المستقبلية. عمل مستشارا أولا في الوفد الدائم للمغرب بهيئة الأمم المتحدة بين عامي 1958 و 1959، و أستاذا محاضرا و باحثا بمركز الدراسات التابع لجامعة لندن 1970. اختير للتدريس في عدة جامعات دولية (فرنسا و إنكلترا و هولندا و إيطاليا و اليابان)، و شغل باليونسكو مناصب قيادية عديدة (1961-1979). و كان خبيرا خاصا للأمم المتحدة للسنة الدولية للمعاقين (1980-1981)، و مستشارا لمدير مكتب العلاقات بين الحكومات للمعلومات بروما (1981-1985)، و مستشارا للأمين العام للأمم المتحدة لمحاربة استهلاك المخدرات. كما أسهم في تأسيس أول أكاديمية لعلم المستقبليات، و تَرأّّسَ بين 1977-1981 الاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية. و كان عضوا في أكاديمية المملكة المغربية، و الأكاديمية الإفريقية للعلوم و الأكاديمية العالمية للفنون و الآداب، و تولى رئاسة لجان وضع مخططات تعليمية لعدة دول أوروبية. حاز على العديد من الجوائز الدولية و الوطنية، من بينها وسام الشمس المشرقة التي منحها له إمبراطور اليابان.
و لا عجب  أن المنجرة استقال من كل مناصبه في المنظمات الدولية، لأنها منظمات انحازت علنا للدول الكبرى، و تعاطفت معها على حساب بقية العالم متبنية نموذج الفكر الواحد دون اعتبار لحق الاختلاف كقيمة حضارية و تعدد الثقافات، إلى درجة عدم الاعتراف للشعوب بحقها في التنمية.
كما سبق و أن رفض تقليده لمناصب وزارية عُرضت عليه، و ذلك نظرا لاقتناعه بعدم ملاءمة الأرضية لمزاولة مثل تلك المهام في استقلالية و صلاحية لمشروعه الفكري و العلمي، مفضلا تفرغه لخدمة الفكر و البحث العلمي.
يتمحور فكر المنجرة حول تحرّر الجنوب من هيمنة الشمال عن طريق التنمية و ذلك من خلال محاربة الأمية و دعم البحث العلمي و استعمال اللغة الأم، إلى جانب دفاعه عن قضايا الشعوب المقهورة و حرياتها، و مناهضته للصهيونية و رفضه للتطبيع، و سخر المنجرة كتاباته ضد ما أسماه بـ"العولمة الجشعة". و ألف المهدي المنجرة العديد من الدراسات في العلوم الاقتصادية و السوسيولوجيا و قضايا التنمية، أبرزها: نظام الأمم المتحدة - من المهد إلى اللحد - الحرب الحضارية الأولى - الإهانة في عهد الميغا إمبريالية - عولمة العولمة - انتفاضات زمن الذلقراطية - حوار التواصل - القدس العربي رمز و ذاكرة - قيمة القيم.
وصفه ميشال جوبير وزبر الخارجية الأسبق لفرنسا ب «المنذر بآلام العالم». و قد اعترف المفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون بِأمانة علمية يُشهد له بها هنا، ضمن مؤلفه؛ صدام الحضارات، بمرجعية و أسبقية المهدي المنجرة في طرح مفهوم صراع الحضارات. و أن اللبنات الأساسية لبناء الأطروحة تعود للمفكر المغربي المهدي المنجرة.
لكن المنجرة، على خلاف صامويل هنتنجتون، يرى أن الغرض من طرحه لهذه النظرية هو موقف وقائي، بنائي لا أصولي، و ذلك من أجل ترسيخ قيم العدالة الإنسانية، و تفادي الكوارث اللاإنسانية في حق البشرية جمعاء، بنبذ الكراهية و التحريض، و ضمان سيرورة تاريخية للقيم المثلى، التي تحكم و تحكمت في العامل الإنساني من ناحية بناء القيم المثلى و تركيز المفكر على قيمة القيم التي ألّف لها كتاباً خاصاً (كتاب قيمة القيم) في أي علاقة إنسانية تحكم في ثنائية الشمال جنوب، و يعتبر أن التخلف الذي يعانيه العالم الثالث ثقافي قبل أن يكون اقتصادياً و اجتماعياً، وأن التنمية أو مفتاحها هو الثقافة، و أنه لا توجد ثقافة بدون منظومة قيم و قيمة القيم، و قد تناول المهدي نظريته من أجل تفادي الصدام و ما سينتج عنه من أضرار، سيؤدي الضعفاء من الشيوخ و الأطفال الثمن فيها باهضا. فلا بد للإنسيين من خلق حوار حضاري بين شمال العالم و جنوبه.
الدراسات المستقبلية في رؤية المهدي المنجرة
لقد كان المهدي المنجرة يشدد على أن الدراسات المستقبلية تستلزم أن يتسم تحليل معطيات الواقع و اتجاهات الأحداث من جهة، و الطريقة المنهجية المتبعة من جهة أخرى، بطابع الدقة و الموضوعية. فالدراسات المستقبلية في نظره تتحقق نتائجها من صياغة الأغراض في " إطار ابتكار و إبداع و أنساق قيم اجتماعية ثقافية، و ترجمة تلك الأغراض إلى مخطط عملي، في شكل اختيارات بديلة و سيناريوهات ممكنة".
و يلاحظ المنجرة  أن الذي يوجد الآن على المستوى العالمي، إنما هو هيمنة فكرية و منهجية على مستوى الدراسات المستقبلية، و هذه الهيمنة تزداد حدتها من جراء الأنانية العرقية للبلدان الغربية التي تشكل نوعا جديدا من الاستغلال لا يسهل معه التعاون الدولي في هذا المجال، و لهذا السبب، فهو يرى أن "البلدان المستعمرة سابقا تعاني صعوبة في إعادة اكتشاف ماضيها الذي انتابه تشويه فظيع، في الوقت الذي تكافح حاضرا، و تصارع عدم تكافؤ القوى في العلاقات السياسية و الاقتصادية الدولية".
 إن الوصفة الجوهرية التي ترتكز عليها الدراسات المستقبلية، يقول المنجرة بهذا الخصوص: "إن الانطلاق الحقيقي نحو النمو يبدأ عندما ينهض المسؤولون و المواطنون لتخطيط نظم و معاملات من شأنها أن تحدد، في حرية و تضامن، رؤية واضحة لمستقبل البلاد، من ثم تتأتى أهمية أهمية ترك حرية اختيار الطريق و ابتكار الحلول من داخل الواقع، و ذلك مع احترام الكرامة و القيم الثقافية-الاجتماعية لتلك البلدان، إن الإيثار في بعض الأحيان يكمن بالضبط و قبل كل شيء في فسح مجال الإفصاح لإيثار الآخرين"، و من ثم، فإن كل الأسباب متوافرة في نظره، للاقتناع بأن الدراسات المستقبلية ستصبح أحد المجالات المفضلة لتعاون الغد، تعاون سيتمحور حول الأفكار و الابتكار، أكثر بكثير منه حول المنتوجات و الضغوط".
دراسات المستقبل في الوطن العربي الإسلامي
إن مقاربة المنجرة للمستقبل هي مقاربة منظومية بامتياز، أي أنها لا تستشرف المستقبل ذاته في سياق قار، بل  بالاحتكام إلى وزن الماضي و بالنظر إلى معطيات الحاضر.
يقول المنجرة بشأن هذه النقطة: "إن ما يسمى بالحاضر هو اليوم في أزمة، و هي نتيجة عدم اهتمامنا بالمستقبل في السنوات الماضية، فالحاضر ليس سوى نتيجة لما أعددناه في فترة محددة، و إذا أردنا أن نغير المستقبل، فيجب أن نبدأ من اليوم بالذات".
و يقول مستطردا: " إن الرسول صلى الله عليه و سلم كان قبل أن يبدأ عمله كل يوم، يتصور الأشياء و يخطط و يستبصر، و بعد هذا الاستبصار يتوكل على الله، فالتوكل على الله يأتي بعد الاستبصار. و بتعبير بسيط، أقول إن أزمتنا في العالم العربي الإسلامي اليوم، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو أخلاقية، هي بالأساس أزمة استبصار، فليس هناك استبصار عند المسؤولين؛ (أي) ليست هناك رؤية. الرؤية الوحيدة الموجودة بيوميتهم هي كيفية البقاء في الحكم و المحافظة عليه".
و من ثم فإن الحقيقة الثابتة، برأي المنجرة، إنما هي أن "العالم العربي يتغلب على المشاكل بتأجيلها إلى المستقبل، حيث لا تتوفر مثلا إلا أمنيات عن الأداء الاقتصادي في المستقبل، مثل توقع زيادة في عدد السياح برقم معين، أو تطور الخدمات الصحية بتوفر عدد من الأسرة، بدون أن تكون هذه التوقعات مبنية على اختيارات و دراسات".
يعتقد المهدي المنجرة أن المنطقة العربية غير مدركة للتحولات الكبرى و المتسارعة التي يشهدها العالم، و لذلك يقول: "إن أول استنتاج خرجت به الدراسات المستقبلية، و هناك اتفاق في العالم حول ذلك، أنه ليس هناك أي مستقبل، أو أية إمكانية لأية مجموعة اقتصادية يقل عدد سكانها عما بين 150 و 200 مليون نسمة، أن تدخل القرن الحادي و العشرين بأي أمل، لأن التطورات الدولية تشير إلى أننا ننتقل من مجتمع مبني على الإنتاجية إلى حضارة أخرى تسمى المجتمع المبني على المعلومات و المعرفة".
و من ثم فهو يرى أن الدراسات المستقبلية هي مسألة رؤية، ثم تصور، ثم عزيمة سياسية؛ ثم مسألة تسيير بالأهداف و المقاصد، أو تسيير مبني على الكوارث. و كلما تأخر الإنسان في الاستعداد لمواجهة المشاكل، تعذر عليه حلها. أما إذا توقع الإنسان حدوث المشكل و استعد له، فتسهل عليه معالجته. أما التسيير في بلدان العالم الثالث، فهو تسيير كوارث، أي ننتظر إلى حين حصول الكارثة، ثم نحاول معالجتها بعد فوات الأوان في الغالب الأعم".
سيناريوهات مستقبل الوطن العربي الإسلامي
أثبت المهدي المنجرة أن الدراسات المستقبلية تزداد قوة يوما عن يوم، في إمكانياتها على التوقع و الاستشراف و الاستبصار.
و لقد عاين المنجرة بنفسه ما توقعه في السبعينيات: سيطرة الشمال و فشل  أو استحالة ما كان يسمى بحوار الشمال و الجنوب، و ماتوقعه في التسعينات: تحولات جدرية في العلاقات الدولية، و حدوث نزاعات خطيرة في بلدان العالم الثالث، و أزمات بين الغرب و بقية العالم تكون ذات أبعاد ثقافية أكثر منها اقتصادية، ثم الأزمة الأخلاقية التي تؤثر بقوة في باقي أشكال الأزمات، بسبب غياب الرؤية ناتج عن تدهور الحضارة الغربية المسيحية-اليهودية، أما في الجنوب فهو ناتج عن فشل النموذج التنموي، و الذي تأكدت عدم صلاحيته للواقع الاجتماعي و الاقتصادي و الثقافي المعاش.
إن الأزمة الأخلاقية التي تحدث عنها المنجرة التي تتفاقم كل يوم بين التطور العلمي و التكنولوجي من جهة، و البعد الثقافي و الاجتماعي من جهة أخرى، بل تبلغ أيضا منظومة القيم المتجذرة التي يتطلع الغرب لفرضها بأحد الشكلين، و هي قيم مسيحية-يهودية بغطاء سياسي و اقتصادي و ثقافي. لذلك فإن الغرب عندما يخشى اليابان و الصين -يؤكد المنجرة- لإمكاناتهما الاقتصادية و المالية و التكنولوجية فحسب، و لكن لأنهما تطورتا و تقدمتا خارج منظومة القيم الغربية، و برهنتا أن الحداثة ليست دائما رديفا للتغريب و قيمه، و برهنتا على أن أي حضارة يمكن أن تتطور و تتقدم و تدخل العصر بقيمها و تاريخها و لغتها و حضارتها و هكذا.
إن المنجرة، و هو يستشرف مستقبل الوطن العربي و طبيعة العلاقات التي ستسود في ظله، لا ينطلق من انطباعات ذاتية أو أحكام مسبقة، إنه يبني كل ذلك على أساس من السيناريوهات الممكنة (أو المشاهد)، و التي يحددها في ثلاثة كبرى:
- السيناريو الأول هو سيناريو الاستمرار أو الاستقرار. أي الحفاظ على الأوضاع كما هي، أو مع إضافة بعض "الرتوشات" الشكلية البسيطة التي لا تغير من طبيعة النظام و لا من شكل المنظومة. و لا يطول أكثر من خمس سنوات على الأكثر، ثم نرى بعد ذلك تغييرات أساسية في العالم الثالث.
- السيناريو الثاني و هو سيناريو الإصلاح، و هو سيناريو يحافظ على الاستقرار مع بعض الإصلاحات و التغييرات التدريجية، و نسبة إمكانية تحققه 5 في المئة، شريطة أن تكون الإصلاحات سريعة.
-السيناريو الثالث فهو سيناريو التغيير الجذري، أو سيناريو التحولات الكبرى و العميقة (تحرر بعض الدول، و بعض الدول تقوم بالإصلاح بنوع من التغيير الجذري على المدى المتوسط الذي لا يتجاوز عشر سنوات في بداية القرن الحادي و العشرين).
و لكن المنجرة تحفظ بخصوص السيناريو الإصلاحي، الذي يمكن أن يمتد إلى نهاية هذا العقد، لأنه لا يثق في إمكانياته لحل المشاكل، بفعل الأساليب و العقليات الموجودة في العالم الثالث، و التي لا تحترم بعد الإنسان كإنسان، و لكنه -كما يقول- متفائل جدا بخصوص بداية القرن القادم الذي سيحمل معه، عبر سيناريو التغيير، تحولات جذرية كبيرة، هو ليس حلما فقط، و لكنه ثقة مبنية على البحث العميق في الواقع و في التوقعات.
الدراسات و مستقبل الإسلام
يميز المنجرة بين الغيب و مفهوم المستقبل بقوله: "هناك فرق شاسع بين الغيب الذي هو من علام الغيوب سبحانه وحده، و بين مفهوم المستقبل كما يوظفه الخبراء في مجال الدراسات المستقبلية...هو انعكاس على الزمن لآثار و نتائج أعمالنا، أو عدم عملنا اليوم. و من ثم فمن الواضح، من المضمون و الدلالة، أن الأمر لا يتعلق لا بنبوءة و لا بكهنوت".
يقول المنجزة إن القرآن الكريم مليء بالمصطلحات و المفردات لإمعان النظر و الإعداد للمستقبل. من ذلك قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } [الحشر:18]، و قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَ أَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [الأعراف:185] تبين هذه الآيات و غيرها، في نظر المهدي المنجرة، دعوة الإسلام للاستفادة من الحاضر، و العمل فيه، مع إمعان النظر في المستقبل و الاستعداد له. المستقبل الذي هو الآخرة دون شك، لكنه أيضا العمر المقبل من الحياة الدنيا.
و يتابع قائلا إنه لو تأملنا هذه الآيات و دلالتها لاتضح لنا التالي:
- أن القرآن الكريم يدعو جمهور المؤمنين إلى رفض الكهانة، ليس في حد ذاتها فحسب، بل لأنها تريد أن تقدم لنا تاريخا مفصلا للغد. و هو ما يبدو مستحيلا، لأن الغيب من علم الله.
- و أن القرآن الكريم يدعو صراحة إلى استشراف الغد "حتى يتزود الإنسان بالتقوى اللازمة و يتجنب المفاجآت الداهمة".
إن الإسلام، بنظر المنجرة، إنما يقدم لنا نظرة شاملة للعالم الدنيوي الحاضر و للعالم الأخروي المقبل و هو يحمل في طياته "بالصلة التي يقيمها بين العالمين، ديناميكية أساسها التغيير و حوافزه، و ذلك في جميع المجالات، سياسية و اقتصادية و اجتماعية و ثقافية، ديناميكية تجعل الإنسان مسؤولا عن مستقبله، مفجرة طاقات التغيير و السعي نحو الأفضل لدى المجتمع، بين حاضره و مستقبله القريب، سواء عند التفكير في إصلاح واقعه الذي يحياه، أو عند البرمجة للغد الذي يتمناه، و يرى المنجرة أن التغيير هنا ليس سنة ثابتة فحسب، بل هو ضرورة حياتية أيضا، إعمالا للآية القرآنية: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [الرعد:11]. إذ أن التغيير الصائب إنما قوامه الإبداع و الابتكار. و الإبداع معناه مخالفة البدعة، التي تعني التبديل و الإضافة في دين الله. فلا يختلف مؤمنان في أن الإبداع وفق السنن الكونية و التشريعية الراسخة للأصول الإسلامية هو أساس التغيير، و هو الدافع للحركة... و بالمقابل فإن الذين يخافون من التغيير، خوفا على امتيازاتهم و حرصا على مصالحهم، فهم يعمدون دوما إلى الخلط بين الإبداع و البدعة، رغبة في منع كل تغيير يصب فيما لا يرضونه، و لا يطمئنون إليه و لا عليه  بل لا غرابة في أن يعزى التخلف و الأمراض الاجتماعية المصاحبة له في البلدان الإسلامية إلى مثل هذه العقلية المتحجرة، الرافضة للإبداع و الابتكار، و المغلقة لباب الاجتهاد.
و قد كان الرسول صلى الله عليه و سلم، وفقا للمنجرة، يمضي بنور الوحي نحو المستقبل، لا يلتفت إلى الوراء، و لا يكترث بما يحدث من ضوضاء، من لدن الراغبين في منعه من بناء المستقبل... ثم إن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يكن يهتم كثيرا بالماضي (لا سيما عندما أقر بأن الإسلام يجب ما قبله)، بقدر ما كان يتطلع لبناء المستقبل، و يحفز جمهور المؤمنين للاعتناء بغدهم، و العمل على صيانته و تثبيته.
كل هذا يبين، بنظر المنجرة، أن ليس ثمة جبرية أو حتمية في الإسلام، من شأنها أن تجعل الفرد و المجتمع غير متحكمين في غدهما و مستقبلهما، و من ثم، و لمواجهة تحديات المستقبل، فعلينا قبل ذلك القيام بتطهير عقولنا من رواسب التواكل و الجبرية، لأنها تقتل الإبداع و الابتكار، و تقتل الرغبة في الفعل و التفاعل، و لأن موضوع المستقبل هو دراسة وضع معين بصورة مفتوحة على البدائل و الخيارات...بمعنى أن الدراسات المستقبلية لا تصدر نبوءات، و هي لا تدعي العصمة في توقعاتها و استشرافاتها، إذ لا يمكن توقع المستقبل في المطلق، بحكم أنه اجتهاد قد يصيب و قد يخطئ.
و يرى المنجرة أن الإسلام، كقوة للتغيير و الإبداع سيلعب دورا طليعيا في التطور، و من الطبيعي أن يرجع الشباب المسلم إلى الأصول، للعثور على الأنماط المثالية التي تقود خطواته، لأن المستقبل الممكن و المنشود للعالم العربي و الإسلامي يتركز أساسا على تجديد الإسلام، إسلام الاجتهاد و ليس إسلام التقليد، ذلك الداء الذي كان وراء سقوط حضارة ابتعدت تدريجيا عن مهمة الخلق و الإبداع اللذين واصلاهما إلى يوم أعلن فيه بعض الفقهاء إغلاق باب الاجتهاد.
يقول المنجرة إن الإسلام دائما دين متفتح، يترك للفرد مبادرة كبرى في حرية التكيف و التغير و توقع التحولات. فلو لم يتوقع الرسول صلى الله عليه و سلم و صحابته المستقبل في فجر الإسلام، لما كان هناك اليوم مليار و 200 مليون من المسلمين.
يتابع المنجرة، إلا أن المفارقة المفجعة، أن تاريخ ماضينا القريب لا يزال كابحا تحت الاستعمار، و قسط كبير من حاضرنا منفلت من أيدينا؛ بل مستقبلنا أصبح مرهونا بدراسة الآخرين و بسيناريوهاتهم التي تعودنا الثقة في مصداقيتها... في هذه الحالة، يوشك مستقبلنا أن يكون نسخة مشوهة و غير صالحة من ماضي الآخرين. و الحقيقة المرة الوحيدة التي تفرض نفسها في الوقت الحالي، هي أن العالم الإسلامي لا يتحكم في مصيره، و أن استقلاله لا يزال شكليا على عدة مستويات.
في رأي المنجرة، إن أزمة العالم الإسلامي هي قبل كل شيء أزمة رؤية، ناتجة عن عدم وجود مشروع جماعي، و غياب فئة قادرة و كفؤة، و نخبة من المفكرين النيرين، بحيث أن أغلب هؤلاء هم مغتربون ثقافيا... و هذه الأزمة هي كذلك أزمة روحية أخلاقية، ناتجة من حيرة الانتماء إلى قيم متنافية، تتأرجح بين نظام قيم جامد، لم يعرف كيف يتطور لمواجهة التحديات الجديدة من جهة، و نظام قيم مستورد في شكله الخام، يتلاءم مع واقع صانعيه و مشاكلهم الحقيقية، لا مع ناقليه من جهة ثانية، و لعل هذا ما يفسر فقدان الثقة لدى الشباب.
يقول المنجرة، كل هذا يدعونا للمبادرة بعلاج أوضاعنا من خلال التفكير بإمعان في مستقبلنا. فالطبيعة تكره الفراغ، و الأمر كذلك بالنسبة إلى المسلمين غربا و شرقا و إلى الإنسانية جمعاء. (مقال: يحيى اليحياوي كاتب و أكاديمي مغربي - المستقبل في فكر المهدي المنجرة - مجلة استشراف).
57 notes · View notes
tadkiraimania · 3 years
Text
Tumblr media Tumblr media
هل يستطيع العلم تفسير الوعي؟
تخيّل كونك حجرًا، عقليًا هذا من ضرب المستحيلات و هذا ليس لأن الحجر لا يحس و لا يفكر، و لكنه لأن الأحجار تفتقد شيئًا أساسيًا، لا يوجد عند الجمادات.
و الآن، تخيّل كونك قطًّا أو بومة و لو أنّ هذا لن يكون سهلًا، لكن يمكنك تخيّل نفسك تعيش في نفس أماكن معيشتهم و تنظر للحياة من نفس وجهة نظرهم، الخاصيّة الفارقة هنا هي الوعي، أنت و القط و البومة تملكون وعيًا أمّا الحجر فلا.
ظلّ الوعي لغزًا منذ قديم الأزل، و ربما تعود أولى محاولات الإنسان لكشف أسراره إلى عهد الحضارة اليونانية، حيث وضع أرسطو أساس ما نطلق عليه اليوم (مشكلة الجسد و العقل) هذه المشكلة تتمركز حول الحقيقة التي تقول أنّ الكون يتكوّن من شيئين: العقل و المادّة. و هكذا أصبح العلماء و الفلاسفة، أمام تحدٍّ دائم هو كيفية المزج بين هذين المظهرين للعالم.
إن إيجاد تفسيرٍ لكيفية انبثاق شيء معقد كالوعي الإنساني من كتلة رمادية من الأنسجة تشبه الهلام هو بلا شك أعظم التحديات التي تواجه العلم اليوم. فالمخ عضو معقد بشكل غير عادي، يتكون من 100 مليار خلية تعرف بالنيورونات كل واحدة منها متصلة بعشرة آلاف خلية أخرى مكوّنةً بذلك عشرات المليارات من الوصلات العصبية.
لقد أحرز العلم تقدما كبيراً في فهم نشاط الدماغ و كيف أنه يؤثر بشكل ما في السلوك الإنساني. و لكن الأمر الذي لم يستطع أحدٌ حتى الآن أن يجد له تفسيراً هو كيف ينتج عن هذا النشاط الأحاسيس و المشاعر و الخبرات؛ كيف لمرور الإشارات الكيميائية و الكهربائية من خلال النيورونات أن ينشأ عنه إحساس بالألم أو شعور بالغضب.
مسألة الوعي تختلف اختلافًا جذريًا عن أي مسألة علمية أخرى؛ لأن الوعي لا يمكن أن يخضع للملاحظة، فلا يمكنك التعرف على مشاعر شخص ما أو تجاربه من طريق مراقبة دماغه. إذا اعتمدنا فقط على الملاحظة من منظور الشخص الثالث، فسينتفي سبب افتراض وجود الوعي من الأساس.
يمثل الوعي حالة فريدة، إذ لا تمكن ملاحظة الشيء المراد تفسيره. نحن نعلم بأن الوعي يوجد في إدراكنا الفوري لمشاعرنا و خبراتنا، لكنه لا يوجد في تجارب خارجية تمكن ملاحظتها أو قياسها.
بما أن المنهج العلمي القائم حاليًا لا يقدم إطلاقًا أي نظرية عن الوعي، بل يقدم ارتباطات فقط، فإن البديل التقليدي للاعتقاد أن الوعي جزء من الروح، هو التصور أن العقل و الجسم أمران منفصلان، و هو ما تتفاداه النظرية النفسية الشاملة panpsychist (إذ يزعم معتنقو النظرية النفسية الشاملة أن كتلة الحجر قد تحتوي حياةً باطنية، لكن ليس لهذه الفرضية أساس علمي، لأن الأحجار لا تُظهر أي سلوك، و من ثم فوجود حياة باطنية لها شيء لا يمكن إثباته أو نفيه) ، و لهذا يعتنق الكثير من رواد علم الأعصاب neuroscientists هذه النظرية باعتبارها الإطار الأصلح لبناء علم الوعي science of consciousness.
في العقود الأخيرة، بدأ العلماء في الإجابة عن سؤال “أين الوعي؟” بالإشارة إلى المخّ، و بالاستعانة بتقنيات تصوير المخ المتطوّرة، تطوّرت أبحاث الوعي كثيرًا في السنوات الحالية، و أنتجت ما يسمّى الارتباط العصبيّ للوعي، فعن طريق استخدام أجهزة الأشعة المقطعية الحديثة في تصوير المخّ، أصبح بإمكاننا رؤية الخوف و الغضب و الاسترخاء فيه، بل و تعدّى الأمر مجرّد رؤية تلك الحالات الواعية، فأصبح بالإمكان رؤية إشارات للوعي نفسه، تلك الإشارات تتكوّن من موجات مخية بمدى تردّد محدّد و نشاط عصبيّ متواصل، نشاط عصبي ينتج عن مؤثرات جديدة، كما يحدث حين نستمع لنغمة غير متوقّعة وسط سيل من النغمات المتشابهة.
في فبراير العام 2017، أشارت ورقة بحثية نشرت في مجلة نيتشر Nature البريطانية ( و هي من أبرز الدوريات العلمية في العالم)، إلى أنّه تم اكتشاف ثلاث خلايا عصبية تلتفّ حول مخّ فأر، و تتفرّع على نطاق واسع لتتيح تواصلًا هائلًا بين أجزاء المخّ المختلفة، و بناءً على هذا الاكتشاف قفز إلى الأذهان استنتاجُ أنه ربما تكون تلك الخلايا العصبية مسئولة عن الوعي. و رغم أهمية هذا الاكتشاف إلا أنه لا يعطي إجابة مرضية عن التساؤل الأساسيّ: ما الوعي.
و يبدو أنّ العلم الكامل بالعقل قد يخفق في الإجابة عن تساؤلٍ كهذا، فهناك شيء خارجيّ فيما يتعلق بالوعي، فربما ينشأ الوعي عن المخّ المادي و لكنه ليس مثله تمامًا، و رغم أنّ بعض الفلاسفة لا يتّفقون مع تلك المقولة، فإنه يبدو أنّ العِلم لم يُصَمَّمْ للإجابة على أسئلة من هذا النوع (أحمد عبد المطلب-موقع المحطة).
طبيعة عمل الوعي
إن كلمة "الوعي" أخذت حظها من التطور في الاستعمال على نحو مواكب لارتقاء حياتنا الفكرية و الثقافية، فقد كانت هذه الكلمة تستخدم للجمع و الحفظ، على نحو مانجده في قوله سبحانه: { وَ تَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [الحاقة:12]، و قوله تعالى: { وَ جَمَعَ فَأَوْعَى } [المعارج:18].
و في مرحلة لاحقة صارت الكلمة تستخدم بمعنى الفهم و سلامة الإدراك، و كان علماء النفس في الماضي يعرفون الوعي بأنه: " شعور الكائن الحي بنفسه، و ما يحيط به "، و مع تقدم العلم و تعقد المصطلحات و المفاهيم أخذ مدلول الوعي ينحو نحو العمق و التفرع و التوسع، ليدخل العديد من المجالات النفسية و الاجتماعية و الفكرية، و صار هناك كلام كثير عن تنمية الوعي و تجلياته، و عن تشتته و انقساماته، و علاقته بالخبرة و الثقافة و النظام العقلي؛ كما كثرت المجالات التي يضاف إليها الوعي؛ فهناك وعي الذات و الوعي الاجتماعي و الوعي السياسي و الوعي التاريخي...
إن الوعي هو محصلة عمليات ذهنية و شعورية معقدة؛ فالتفكير وحده لا ينفرد بتشكيل الوعي، فهناك الحدس و الخيال و الأحاسيس و المشاعر و الإرادة و الضمير؛ و هناك المبادئ و القيم و مرتكزات الفطرة و حوادث الحياة و النظم الاجتماعية، و الظروف التي تكتنف حياة الإنسان.
و هذا الخليط الهائل من مكونات الوعي، يعمل على نحو معقد جدا، و يسهم كل مكون بنسبة تختلف من شخص إلى آخر، مما يجعل لكل شخص وعي يختلف عن وعي الآخرين.
يتغير وعي الأفراد عادة على نحو أسرع مما يتغير وعي الجماعات و المجتمعات، لكن كلا منهما يتغير على نحو تراكمي؛ فالإسلام لم ينقل العرب إلى المدنية في يوم و ليلة، كما أن الحضارة الحديثة لم تَصُغْ الغرب صياغة جديدة إلا عبر قرون من التفاعلات المتتالية.
و تتمتع وسائل الإعلام المبرمجة و الممنهجة بتأثير قوي في تغيير وعي الناس، حيث تستخدم تقنيات فائقة، تستند إلى دراسات نفسية و اجتماعية دقيقة و عميقة، مما يجعل موقف كثير من الناس تجاهها التسليم و الاستسلام.
في بعض الأحيان يكون تغير الوعي سريعا و جذريا بسب ضخامة الأحداث التي تؤثر في مجرى التاريخ، و توجد ظروفا و إمكانات و تحديات جديدة، فانتصار ساحق في حرب، أو هزيمة منكرة في معركة، أو اكتشاف مؤامرة خطيرة، أو موت زعيم فذ، أو زلزال مدمر... كل ذلك يحدث للوعي ما يشبه الصدمة، و يمنحه فرصة لأن يكتشف ذاته من جديد. و في كل الأحوال فإن طبيعة التغير الذي يتعرض له الوعي متوقفة على أمرين: طبيعة الأحداث و الصور و الظروف الطارئة، و طبيعة التركيب العقلي للفرد و المجتمع. و يلاحظ في هذا السياق أن خصوبة الخيال، و اتساع قاعدة الفهم، و ارتقاء مستوى التعليم و الانفتاح، و نجاح التربية السائدة... كل ذلك يجعل إمكانات تجدد الوعي و تغيره أكبر.
ليس ارتباك الوعي شيئا غريبا في حياة الناس، و ليس انقسامه على نفسه من الحوادث النادرة في واقعنا المعاصر؛ فطبيعة عمل الوعي في المواءمة بين القديم و الجديد، و بين الذات و الآخر، و بين المعنوي و المادي، و بين المبادئ و المصالح... هي التي تعرضه لتلك المخاطر، و تجعله ساحة لاجتماع المتناقضات، و هي التي تسبب له التمزق و التشتت، فيبدو عاجزا عن المراجعة و النقد و اكتشاف الممكن، كما يبدو حائرا في دمج الثنائيات الناتجة عن طبيعة تشعب حياتنا العصرية.
و الوجود غير الواعي هو الوجه الخفي للتجربة الوجودية للإنسان، إنه كيان متكامل يتمتع بالطلاقة و الحرية، و يتغلغل في كل أنشطة حياتنا، و هو قاعدة أعمالنا الغريزية، و مبعث ردود أفعالنا.
الوجود غير الواعي يتجسد في حياة الإنسان البدائي و إنسان الغابة، و يتجسد في سلوك المجتمعات التي فسدت نظمها و مؤسساتها المدنية، و برز فيها تحكم النزوات و الغرائز محددا نمط الشخصية و ردود أفعالها و نوعية تطلعاتها.
فالإسلام بما هو بنية تمدينية إصلاحية، يطالبنا دائما أن نسيطر على وعينا على أكبر مساحة ممكنة من مشاعرنا و آمالنا و سلوكاتنا و مواقفنا، و تحويلها إلى ظاهرات، تتجسد فيها الإرادة الخيرة، و العزيمة الصلبة، و الاختيار الرشيد. و هذه المطالبة تنطلق أساسا من الثقة في إمكانية تنمية الوعي، و تحسين قيادته لأنشطتنا كافة.
و قد ذم الله جل و علا ألوانا من التصرفات الخاطئة و المشينة، و التي ما كان لها أن تقع لو أن وعي أصحابها كان يقظا و قادرا على تأدية وظائفه على الوجه المطلوب. و لنتأمل الآيات الآتية لنكتشف شيئا من ذلك:
{ وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ } [البقرة:11-12].
{ وَ كَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَ مَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ } [الأنعام:123].
على المسلم أن يستخدم كل إمكاناته، و أن يجاهد نفسه من أجل توجيه مشاعره، و صياغة وجوده كله في ضوء تعاليم الشريعة السمحة و آدابها السامية، و نلمس ذلك في آيات كثيرة، منها:
{ وَ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [ العنكبوت:69].
{ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَ لَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } [القيامة:14-15].
{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } [الإسراء:36].
و إلى جانب ذلك هناك الكثير من الآيات و الأحاديث التي تحث المسلم على التفكر و التأمل و التدبر و الاعتبار في أحوال الوجود و سير الأمم السابقة؛ و ذلك كله يستهدف إبعاد الاعتباطية عن حياتنا، و تعميق فهمنا للسنن الربانية في الخلق، و جعل وعينا يتمدد باستمرار إلى مواطن لم يتعرف عليها من قبل (الدكتور عبد الكريم بكار - كتاب: تجديد الوعي).
المنهج الإسلامي في بناء الوعي
إن من يتأمل الواقع الحضاري للأمة الإسلامية يدرك أن هناك حقيقتين لا يمكن إنكارهما:
الحقيقة الأولى: أن هناك أزمة حضارية متشعبة المناحي تحياها الأمة.
الحقيقة الثانية: أن هذه الأزمة ليس معناها عدم أهلية ما تحمله الأمة من مكنون حضاري راسخ في أصولها أولا، و تجربتها الحضارية ثانيا.
و بناء على هاتين الحقيقتين نستخلص أن العلة الحقيقية ليست في مكنون الأمة الحضاري بل في انعدام الوعي بهذا المكنون وعيا حقيقيا يتجاوز دائرة المعرفة الظاهرة السطحية.
إنها أزمة وعي بالتصورات الأصلية التي تشكل عمق الرؤية الإسلامية الحضارية، و التي يمكن تلخيصها في أبعاد خمس، و هي: الإنسان (الوعي الذاتي)، و الزمان، و المكان، و المعرفة، و اللغة.
الوعي الذاتي في الإسلام
لا يمكن تصور حركة حضارية منضبطة دون وعي بحقيقة صانع هذه الحضارة و بانيها و هو: الإنسان، لذا فقد بدأ القرآن قبل كل شيء حسب أسبقية كل من الترتيب الكتابي و النزول الزماني بتعريف الإنسان على ذاته، و تبصيره بأصله و خصائصه و مدى أهميته و خطورته في هذا الكون الذي يعيش فيه، و ذلك لأنه أهم العناصر الحضارية و أخطرها، و لأنه المحور الذي تدور عليه حركة معظم الموجودات المتماوجة من حوله.
و بذلك يمكن استشعار أهمية الوعي الذاتي الذي شكلهالإسلام من خلال النقط التالية:
1- بيان أصل الخلق الإنساني
لقد مثل حديث الإسلام عن أصل الخلق الإنساني النواة الأولى في بناء الوعي الذاتي الذي أراد تشكيله لدى هذا المخلوق لتبدأ قضية المعرفة بالإنسان من أولى خطواتها، و لقد تكاثرت النصوص القرآنية في هذا السياق.
يقول الرازي في تفسيره لقوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران:59].
إنه تعالى ذكر في كيفية خلق آدم عليه السلام وجوها كثيرة أحدها: أنه مخلوق من التراب كما في هذه الآية، و الثاني: أنه مخلوق من الماء، قال تعالى: { وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَ صِهْرًا } [الفرقان:54]، و الثالث: أنه مخلوق من الطين، قال تعالى: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ } [السجدة:7-8]، و الرابع: أنه مخلوق من سلالة من طين، قال تعالى: { وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } [المؤمنون:12-13]، و الخامس: أنه مخلوق من طين لازب، قال تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ } [الصافات:11]، و السادس: أنه مخلوق من صلصال، قال تعالى: { إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [الحجر:28].
و اجتهد الرازي بعقليته المتأملة و منهجه العلمي الاستدلالي الدقيق في إعطائنا صورة شاملة لكيفية الخلق من خلال هذه الآيات، فذكر أنه مخلوق من تراب، و أن لذلك حكما عدة منها: ليكون متواضعا، و الثاني: ليكون ستارا، الثالث: ليكون أشد التصاقا بالأرض، و ذلك لأنه خلق لخلافة أهل الأرض، قال تعالى: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ } [البقرة:30]، الرابع: أراد إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام و ابتلاهم بظلمات الضلالة، و خلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام و أعطا��م كمال الشدة و القوة، و خلق آدم عليه السلام من التراب الذي هو أكثف الأجرام، ثم أ��طاه المحبة و المعرفة و النور و الهداية، و خلق السموات من أمواج البحار، و أبقاها معلقة في الهواء حتى يكون خلقه هذه الأجرام برهانا باهرا و دليلا ظاهرا على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج، و الخالق بلا مزاج و علاج، الخامس: خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئا لنار الشهوة، و الغضب، و الحرص، فإن هذه النيران لا تطفأ إلا بالتراب.
2- بيان الأطوار التي يمر بها خلق الإنسان
هناك آيات بيات بينت لنا حقيقة مهمة في الخلق الإنساني و هي قضية الأطوار أي المراحل التي يمر بها الخلق الإنساني، و من الآيات الواردة في ذلك قوله تعالى: { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ } [الزمر:6]، و جاءت هذه الأطوار مفسرة في قوله تعالى: { وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون:12-14].
جاء في تفسير ابن كثير: ثم أنشأناه خلقا آخر، أي: ثم نفخنا فيه الروح، فتحرك، و صار خلقا آخر ذا سمع و بصر و إدراك و حركة و اضطراب.
و جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسير أشمل حيث قال: ثم أنشأناه خلقا آخر يعني ننقله من حال إلى حال إلى أن أخرجه طفلا ثم نشأ صغيرا، ثم احتلم ثم صار شابا، ثم كهلا ثم شيخا ثم هرما.
إن هذه الحقائق التي ذكرها القرآن الكريم في معرض حديثه عن أصل الخلق الإنساني لم يقصد بها أن تكون مجرد مفردات معرفية، بل قصد بها أن تكون مفردات تشكل وعيا متكاملا تظهر آثاره في الحركة الحضارية للإنسان و ذلك لما لهذه الحركة من ارتباط وثيق بفهم طبيعة الخلق الإنساني و مكوناته المادية و الروحية.
3- بيان الغاية من وجود الإنسان
من منهج الإسلام في تشكيله وعيا ذاتيا لدى الإنسان بيانه للغاية من خلقه، تلك الغاية التي تعصمه من تشتت المقصد و عبث التوجه، و لقد جاءت الغاية مشتملة على محاور ثلاث و هي:
- العبادة: و التي يشير إليها قوله تعالى: { وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56].
- إن هذه العبادة مفهوم شامل لكل من الاعتقاد و العمل، لكل من العلاقة مع الله و الخلق. إنها الغاية المنتظمة لحقوق الخالق و حقوق المخلوق.
- الاستخلاف: بينه القرآن في قوله تعالى: { وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [البقرة:39]. و الخلافة هي القيام بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالوحي.
- عمارة الأرض: بينها القرآن في قوله تعالى: { هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } [هود:61].
يشير المفسرون، و تصرح بعض النصوص الواردة في هذا المجال أن المعنى "طلب منكم عمارة الأرض"، أي أن "تعمروها". فالله سبحانه خلق هذا الكون و أودع فيه الثروات و الخيرات و الإمكانات، ثم فوض إلى الإنسان أن يستغل هذه الثروات و الإمكانات من أجل إعمار الأرض.
إن العبودية و الاستخلاف و العمارة تشكل قمة الوعي بغاية وجود الإنسان على الأرض، و أن هذه الغاية غير منقطعة بأصل خلقه، و هذه حقيقة فارقة في قضية الوعي الذاتي الذي أنشأه الإسلام و مدى ارتباطه بالحركة الحضارية، حيث إن هذا الدين لم يجعل من تلك الحركة الحضارية مجرد ضرورة لبقاء النوع الإنساني، بل جاوز ذلك حين جعل الحركة الحضارية من مؤهلات رفعته، و هذا يعني أن الإسلام حين يحث على السعي في الأرض و عمارتها فإنه في الحقيقة يحث الإنسان على استكمال معنى إنسانيته، و هذا المعنى لم يُتَلَقَّ سوى من أنوار الوحي الإلهي.
4- بيان مفهوم الكمال الإنساني
في إطار تشكيل الإسلام للوعي الذاتي وجدنا القرآن الكريم يؤسس لركني الكمال الإنساني و هما صحة التصورات التي يقوم عليها بناؤه العقلي، و صحة السلوك العملي الذي يتفاعل به مع محيطه الكوني. لقد أكثر القرآن من تأسيس هذين الركنين ليمثلا صورة للكمال الإنساني، كمال الإنسان في شيئين:
- أن يعرف الحق لذاته بالعلم و الإدراك المطابق.
- أن يعرف الخير لأجل العمل به بفعل العدل و الصواب.
و من أمثلة التأسيس القرآني لهذين الركنين، حكى القرآن الكريم عن إبراهيم صلى الله عليه و سلم قوله تعالى: { رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا } و هو الحكمة النظرية، ثم قال تعالى:{ وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } و هو الحكمة العملية.
و في حق محمد صلى الله عليه و سلم قال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ } و هو الحكمة النظرية، ثم قال تعالى: { وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } و هو الحكمة العملية (تفسير الرازي).
إن بيان القرآن الكريم لمكوني الكمال الإنساني يضع أمام الإنسان الدوائر التي تتوجه إليه حركته البشرية، و توظف فيها ملكاته و مواهبه، فيكون نتاجه الحضاري دائرا في فلك الكمال.
5- الوعي بحدود الطاقة البشرية
لقد بين الإسلام أن لهذا الإنسان طاقة محدودة و وسعا معينا يصبح من الشطط تخطيه، و لم يذكر الإسلام هذه الخاصية عند الحديث عن خلق الإنسان فحسب، بل ربطه كذلك بقضية أداء، التكاليف، فقال تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ عَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَ لَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَ لَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنَا وَ ارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [البقرة:286].
و هو منهج عام يؤسس لزاوية من زوايا النشاط الإنساني المنطلق في مسارب الحياة، إن تعبير القرآن يدل على أن لكل إنسان طاقة و وسعا قد يختلف عن غيره، و لقد نبه القرآن الكريم منذ 1400 سنة إلى ما يطلق عليه علم النفس الحديث الفروق الفردية Idividual Differences، فالأفراد تتفاوت قدراتهم العقلية و استعداداتهم و ميولهم و ذكاؤهم، كذلك فقد نبه القرآن على ضرورة أخذ خصائص كل مرحلة من مراحل النمو في الاعتبار عند إعطاء الجرعات التعليمية و التربوية للأفراد (نبيل السمالوطي - كتاب بناء المجتمع الإسلامي).
إن المطالع لمنهج النبوة الحضاري يدرك هذا البعد في صورته الواضحة الجلية حيث رأينا النبي صلى الله عليه و سلم في بعض مواقفه التربوية يسمي تلك الحركة التي لا تأخذ في حسبانها هذا البعد من أبعاد الوعي الذاتي عذابا حتى و لو كان ظاهر تلك الحركة عبادة من العبادات، فعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى شيخا يهادى بين ابنيه، قال: ( ما بال هذا ؟)، قالوا: نذر أن يمشي، قال: (إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني ) [أخرجه البخاري].
الوعي الزماني في الإسلام
إن الإنسان أكثر الكائنات وعيا بالزمان و تفاعلا بمساره، حتى تم وصف الإنسان في حقيقته بالكائن الزماني، و أن الزمان جزء من وجوده و أفعاله.
لقد شكل الإسلام لنا مظاهر الوعي الزماني، و لم يتحدث القرآن الكريم حديثا عابرا عن الزمن، و إنما ألمح إليه أنه ذو أنواع مختلفة:
- النوع الأول: زمن يعاينه كل منا شعوريا و يختلف تقديره من شخص إلى آخر حسب حسه الباطني و حالته النفسية، ذلك هو الزمن النفسي أو الشعوري.
- النوع الثاني: زمن افتراضي، أي لا وجود له إلا في الذهن، فليس له حقيقة خارجة كالزمن السرمد الذي أشار إليه القرآن إلى إمكانية حدوثه بالبشر.
- النوع الثالث: زمن غيبي لا نعرف عن مقاديره شيئا إلا بقدر ما عرفنا الله و رسوله عنه، و هي في الغالب معرفة إجمالية لِتُعَمِّقَ في نفوسنا معاني العظمة الإلهية كزمن عروج الأمر إلى الله تعالى، و زمن الخلود في الآخرة، و كذا مدة خلق السماوات و الأرض، و زمن خلق العرش و غير ذلك (دكتور حلمي صابر- كتاب الوقت في الإسلام).
إن الإسلام لم يأت ليعرفنا بوحدات الزمن من السنة و الشهر و اليوم و الساعة و غيرها فحسب، بل إنه أراد أن يَخْلُقَ فينا وعيا بهذه الأجزاء، و الوعي مرحلة أعلى من مجرد المعرفة؛ لذلك سلك الإسلام في خلقه للوعي الزمني مسالك عدة، من أبرزها ما يلي:
أولا: الربط بين كل من طبيعة الزمن و طبيعة الحركة البشرية.
و يؤصل لهذا المسلك قوله تعالى: { وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَ النَّوْمَ سُبَاتًا وَ جَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا } [الفرقان:47]، و قوله تعالى: { وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَ جَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } [النبأ:10-11].
قال الطاهر ابن عاشور: و هما نعمتان للبشر مختلفتان في الأسباب و الآثار، فنعمة الليل راجعة إلى الراحة و الهدوء، و نعمة النهار راجعة إلى العمل و السعي، لأن النهار يعقب الليل، فيكون الإنسان قد استجد راحته و استعاد نشاطه، و يتمكن من مختلف الأعمال بسبب إبصار الشخوص و الطرق ( ابن عاشور- تفسير التحرير و التنوير).
إن هذا ليس مجرد تعريف بطبيعة الليل و ال��هار و اختلافهما، بل يريد الإسلام خلق وعي بهذا الاختلاف، إنه الوعي الذي تسبك فيه حركة الإنسان فلا تخرج عن مقتضيات الطبيعتين الزمنية و البشرية.
ثانيا: الربط بين التكاليف الشرعية و الوحدات الزمنية
إن التكاليف في الإسلام ليست عبارة عن طقوس تؤدى بعقل مغيب و قلب لاه، بل هي بوتقة فيها كافة المقومات العقلية و الروحية و الجسدية للشخصية المسلمة، و يأتي الوعي الزماني ليكون مقوما من هذه المقومات.
إن الشرائع في الإسلام تربط المسلم بالزمن في كثير من تفصيلاتها، فكل من تشريع الصلاة و الصوم و الزكاة و الحج مرتبط بالزمن ارتبطا واضحا، و كثير من الشرائع كالعدة و الإيلاء و الوكالة و الكفالة و الكفارات لا يعدم فيها هذا الارتباط، مما يخلق إنسانا واعيا بالزمن يعرف مبدأه و منتهاه، فتلك ساعة تجب فيها الصلاة، و ذاك شهر يفرض فيه الصوم، و ذاك يوم يؤذن بتمام حول الزكاة و هكذا. إن معنى هذا أن ارتباط العقلية الإسلامية بالتكاليف يشكل في الوقت ذاته عقلية واعية بالزمن، و ليست مصطدمة به.
ثالثا: بيان الأثر الإيجابي و السلبي على التعامل مع الزمن
جاء حديث الإسلام في خلقه وعيا بالزمن يخاطب الإنسان بعاقبة كل من تعامله الإيجابي و السلبي معه.
ففي عاقبة التعامل السلبي جاء قوله تعالى: { وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَ جَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } [فاطر:37]. و في عاقبة التعامل الإيجابي جاء قوله تعالى: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَ لَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَ لَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } [النحل:30].
و لقد جاءت الإشارة إلى العاقبتين معا في سورة العصر: { وَ الْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر:1-3]، إبتدأت بذكر الزمن الذي هو وعاء لحركة الإنسان المترتب عليها خسرانه أو نجاته من هذا الخسران.
إن الإسلام لم يكتف في توجيهه لخلق وعي زمني بمجرد الحديث عن أنواع الزمن و مظاهر استغلاله، بل إنه بين آفات التعامل معه و من أخطر هذه الآفات:
1- آفة التعجل و التي تأتي من الخلل في فهم العلاقة بين الزمن و الحركة، قال تعالى: {وَ كَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا } [الإسراء:11]، قال الراغب: العجلة طلب الشيء و تحريه قبل أوانه، و هو من مقتضى الشهوة، فلذلك صارت مذمومة في عامة القرٱن ( الراغب الإصفهاني- كتاب المفردات في غريب القرآن).
2- ٱفة الظن بأن الزمن هو المدبر الحقيقي للكون، و هو توجه مغلوط كان شائعا في المجالين الديني و الفلسفي قبل الإسلام، و صحح الإسلام هذا المفهوم في قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( قال الله: يسب بنو ٱدم الدهر، و أنا الدهر، بيدي الليل و النهار) [أخرجه البخاري].
هذا و لم يكتف الإسلام ببيان فساد التصورات المتعلقة بالزمن و تصحيحها، بل جعل الزمن مجالا من مجالات القوة التدبرية التي توصل إلى معرفة الله تعالى؛ حيث سلك طائفة من الحكماء طريق الاستدلال بالزمان على الخالق، و هو استدلال صحيح قد نبه عليه القرٱن في مواضع كثيرة كقوله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ } [ٱل عمران:190].
و هناك علاقة وطيدة بين الوعي الزمني و الحركة الحضارية، تماما مثل علاقة ثمار الأشجار بالزمن، إذ لا يمكن أن تزرع و تحصد ثمرة ما في نفس الوقت، فإن ثمار الحضارة لا تظهر إلا بإضافة الزمن إلى جهد الإنسان.
و لقد كان ٱثر الوعي الزماني في مسيرة الحركة الحضارية للأمة ظاهرا في كل من التنظير القولي و التطبيق العملي، إنه كان ظاهرا على نطاق الفهم و على نطاق الفعل كما نجده في تقرير أحد رواد الحضارة و هو ابن الجوزي الذي قال: " و لقد شاهدت خلقا كثيرا لا يعرفون معنى الحياة: فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار، ينظر إلى الناس، و كم تمر به آفة و منكر! و منهم من يخلو بلعب الشطرنج، و منهم من يقطع الزمان بكثرة الحديث عن السلاطين، و الغلاء و الرخص، إلى غير ذلك، فعلمت أن الله تعالى لم يُطْلِعْ على شرف العمر و معرفة قدر أوقات العافية إلا من وفقه الله و ألهمه اغتنام ذلك { وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } " (ابن الجوزي- كتاب صيد الخاطر).
الوعي المكاني في الإسلام
إذا نظرنا إلى تأصيلات الوعي المكاني في الوحي الإلهي فإننا نجد أنه كان بارزا في أول وجود لهذا الإنسان، حيث شِكَّلَ المكان مفردة بارزة في حديث القرٱن عن أبي البشر ٱدم عليه السلام { فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَ لَا تَعْرَىٰ، وَ أَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَ لَا تَضْحَىٰ } [طه:117-119].
إن القرٱن يعطينا إشارة هنا إلى أن هناك اختلافا جوهريا بين طبيعة كل من المكانين: المكان الذي كان فيه ٱدم، و الذي أهبط إليه.
و لقد كان النبي صلى الله عليه و سلم ينشئ الجيل الأول و من بعده على هذا الوعي المكاني، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا لا أربح الله تجارتك، و إذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا لا رد الله عليك ) [أخرجه الترمذي].
و من موارد النصوص النبوية الموصلة للوعي المكاني ما جاء عن عتبان بن مالك رضي الله عنه أنه كان يؤم قومه و هو أعمى، و جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، و قال له: يا رسول الله، إنها تكون الظلمة و السيل، و أنا رجل ضرير البصر، فَصَلِّ يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذه مصلى، فجاءه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: ( أين تحب أن أصلي؟ ) فأشار إلى مكان في البيت، فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم ( أخرجه البخاري).
إن هذا الحديث يعطينا العديد من الدلالات، و منها:
- أن هناك ارتباطا بين المكان و الوجدان الإنساني (أين تحب أن أصلي).
- أن الاسلام لم يستثن ذوي الحاجات الخاصة من تشكيل الوعي خاصة، و من مفردات الوعي عامة.
- أن الوعي المكاني يبدأ حقيقة من الوعي بالمحيط المكاني الملاصق للإنسان، ثم تمتد دوائره حتى تشمل ما يمكن أن يدركه.
و من دلائل الوعي المكاني كذلك ما جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم إذا خرج من بيته قال: ( بسم ، رب أعوذ بك من أن أزل أو أضل، أو أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ، أو أَجْهَلَ أو يُجْهَلَ علي ) [أخرجه البخاري].
لماذا يقال هذا الحديث؟ لتغير الخصوصية المكانية، فالإنسان حين يخرج من بيته تبدأ رحلته الحياتية التي لا يأمن فيها أن تصك أذنه كلمة سفيه، أو تمتد إليه يد معتد، أو تعرض له شهوة، أو تثار لديه شبهة، أما البيت فالغالب فيه الخلاص من ذلك، فحين تتغير الخاصية المكانية يتغير الذكر.
الوعي المعرفي في الإسلام
يعتبر الوعي المعرفي أحد أبرز مفردات بنية الوعي التي أصلها الوحي الإلهي، و يمكن استجلاء هذا التأصيل مما يلي:
1- اعتبار المعرفة حقا إنسانيا عاما: من أولى مسالك المنهج الإسلامي في تشكيل الوعي المعرفي أنه جعل المعرفة حقا من الحقوق الإنسانية العامة التي لا تنحصر في إطار عرقي أو غيره مع الاعتراف بتفاوت القدرات المعرفية لأفراد النوع الإنساني.
2- التأكيد على شمولية المعرفة في الإسلام: لم تكن دعوة الإسلام إلى المعرفة قاصرة على فن من فنونها أو مجال من مجالاتها، بل إنه فتح آفاقها؛ لذا فإن " كل من يتأمل مواقع الآيات المتعلقة بالعلم و الحكمة و غيرها مما يحث على السير في الأرض و النظر و التفكر يعلم أن المراد بالعلم هو العلم على إطلاقه متناولا كل شيء " (شكيب أرسلان- كتاب لماذا تأخر المسلمون و لماذا تقدم غيرهم).
3- ربط الحركة المعرفية برباط غائي: و من الخصائص في تشكيل الإسلام للوعي المعرفي هو ربطه للحركة المعرفية برباط غائي، أي أنه حدد وجهتها، و أبان مقصدها، و قد أشار القرآن إلى هذا المعنى في كثير من ٱياته، ففي قصة موسى و الخضر تلك القصة التي تعطينا ملامح كثيرة عن نظرة الإسلام للعلم، تأتي كلمة الرُّشْدِ لترسم لنا معلما مهما من معالم هذا المنحى الغائي للحركة العلمية { قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا } [الكهف:66].
قال الرازي: " قوله رشدا طلب منه للإرشاد و الهداية، و الإرشاد: هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية و الضلال " (تفسير الرازي)، إن معنى هذا أن القران الكريم يجعل من الحركة العلمية سبيلا من سبل تحقيق الهداية الإنسانية العامة.
4- التنبيه على بعض الانحرافات المعرفية: لم يكتف الإسلام بالإيضاح العام للمنحى الغائي للمعرفة، بل إنه نص على بعض الصور المنحرفة التي تخرج به عن مقصد المعرفة؛ لذا جاء في الحديث: ( من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار ) [ أخرجه الترمذي و قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، و قال الامام ابن باز رحمه الله: هذا حديث ضعيف الإسناد و لكن معناه صحيح].
إن هذا التوجيه النبوي يترك لنا دلالات و هي:
- ليس هناك تلازم بين التوجه الإنساني للمعرفة و سلامة هذا التوجه، بل قد ينحرف الإنسان في طلبه للمعرفة إلى غايات تنتج نتائج عكسية لما يريد.
- يجنب الإسلام الحركة المعرفية الاستجابة للغرائز الجانحة عن مسارها الطبيعي؛ حيث يصير العلم وقتها رهنا لها فيكون المظهر هو المقصد و الغاية و لو على حساب الجوهر.
5- بيان مصادر المعرفة: لقد كان للإسلام منهجه الخاص في بيان مصادر الوعي المعرفي التي خالف فيها ما سبقه و ما لحقه من النظريات، حيث حدد لكل مجال معرفي مجاله الخاص به، فمنهج المعرفة فيما يتعلق بعالم الشهادة الانطلاق من الإدراكات الحسية للوصول عن طريق العقل إلى المعرفة التعميمية التنبئية التي ينتفع بها الإنسان في تطبيقاته العملية في مجال المادة و الحياة، و منهجها فيما يتعلق بعالم الغيب الانطلاق أيضا من الإدراكات الحسية ليتجاوز عن طريق المبادئ الفطرية في العقل الإطار المادي المحدود إلى العالم الغيبي حيث يتمكن من المعرفة العلمية بالقضايا الكبرى في هذا الميدان كوجود الذات الإلهية، و الربوبية، و بعض الصفات، و النبوة، ثم يأخذ منهج المعرفة في هذا الميدان طريقا ٱخر هو طريق الإيمان بهذا العالم و موجوداته بعد تَلَقِّيهِ من الوحي عن طريق النبوة التي عرفها معرفة علمية عن الطريق السابق (د. محمد عبد الرحمن الزنيدي- كتاب مصادر المعرفة في الفكر الديني و الفلسفي).
إن هذا يعني أن هناك فرقا في المجال المعرفي الإسلامي ما بين عالم الشهادة الذي يستكشف عن طريق الحواس و النظر العقلي، و عالم الغيب الذي لا بد في التعرف عليه من الوحي الإلهي.
الوعي اللغوي في الإسلام
هناك أربعة من المحاور تحدد تاريخ أي من الأمم كما ذهب إلى ذلك الرافعي قائلا: " و قد رأينا لتاريخ الحضارة في كل أمة راقية أربعة أبواب متفرقة على أركانه: و هي الأدب و السياسة و الدين و العلم، فتلج الأمة في باب الأدب إلى نوع الكمال في عواطفها، و من باب السياسة إلى مبلغ القوة في كيانها، و من باب الدين إلى درجة السعادة في أنفسها، و من باب العلم إلى ما تعز به في مجتمعها من هذه الثلاث، بيد أن تلك الأركان لا تستوي في جميعها ضعفا و قوة، و لا في اعتماد أصل التاريخ على بعضها دون بعض " (مصطفى صادق الرافعي- كتاب تاريخ ٱداب العرب).
و إذا كانت هناك حقيقة مفادها أن لغة العرب قبل الإسلام كانت هي الْمُعَبِّر عن وجودهم الحضاري فإن هناك حقيقة أخرى مقررة بالأدلة و الشواهد و هي أن الإسلام أحدث وعيا لغويا كانت له امتداداته الحضارية،و كان من مظاهره ما يلي:
1- التوسيع من المضامين الحضارية: وَسَّعَ القرٱن الكريم بين تلك المضامين الحضارية للألفاظ العربية، و ذلك بما حمله من المعاني المضمنة في مبانيها، فقد كان للغة العربية حياة أدبية في عصر الجاهلية ثم ظهر الإسلام، فجدد لها حياة أخرى أعلى مما كانت فيه، إذ جدد لها دينا و شرعا و سياسة و مدنية قامت بعلوم لغوية و عقلية و صناعية، فوسعت اللغة ذلك كله مع حفظ مقوماتها و مشخصاتها في المفردات و الأساليب (محمد الخضري- مقال: حياة اللغة العربية، مجلة المنار بتاريخ يناير 1908).
إن من الآيات القرآنية التي تؤصل لهذا النوع من الوعي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَ أُنثَىٰ وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ } [الحجرات:13].
2- الوعي بالإطار الاستعمالي للكلمة: و من مظاهر الوعي اللغوي الذي أحدثه الإسلام بيانه أن الكلمة حين تخرج إلى مجال الحياة الإنسانية قد لا تنحصر في نطاقها اللغوي الضيق، بل إنها قد تكسى من المعاني التي تمليها ملابسات الحياة ما ينبغي مراعاته عند استعمالها، و من صور ذلك ما جاء من قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَ قُولُوا انظُرْنَا وَ اسْمَعُوا ۗ وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة:104].
و بالرغم من قول البعض في تفسير كلمة (راعنا) إلا أن جمهور المفسرين على أنه تعالى منع من قولهم (راعنا) لاشتماالها على نوع مفسدة، ثم ذكروا فيه وجوها:
منها أن المسلمين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه و سلم إذا تلا عليهم شيئا من العلم: راعنا يا رسول الله، و اليهود كانت عندهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة و هي (راعينا) و معناها: إسمع لا سمعت.
و منها أن هذه الكلمة و إن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز ما كانوا يقولونها إلا عند الهزء و السخرية، فلا جرم نهى الله عنها.
و منها أن اليهود كانوا يقولون: راعينا أي أنت راعي غنمنا، فنهاهم الله عنها، و غير ذلك من الوجوه (تفسير الرازي).
إن هذه الوجوه التي ذكرها العلماء في بيان حكمة النهي عن قول (راعنا) في مخاطبة النبي صلى الله عليه و سلم تعطينا إشارات إلى أن القرٱن شمل وعيا لغويا مفاده النظر في المجال التداولي لكل مفردة لغوية على حدة و ما تحمله من مضامين.
3- الوعي بالمدلول الفكري للصيغ اللغوية: لقد كان هذا الوعي اللغوي ظاهرا في مسيرة التغيير الذي أحدثه هذا الدين، فحين جاء الإسلام كان المجتمع الإسلامي ذا عقلية وثنية ابتعدت عن التوحيد، و ألفت الشرك فكان لا بد و أن يكون هناك حالة من التدقيق في التراكيب اللغوية و استعمالاتها، و على ضوء هذا نفهم نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن أي من الألفاظ التي قد تكون ذريعة إلى إرجاع الذاكرة الوثنية إلى تلك العقلية العربية كما جاء عن ابن عباس رضي الله قال: ( جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه و سلم فراجعه في بعضِ الكلام، فقال: ما شاء اللهُ و شئتَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه و سلم: أجعلتني لله نداً؟ ما شاء الله وحده) [رواه أحمد و صححه الألباني].
4- الوعي بالأثر الن��سي للغة: و من مظاهر تشكيل الإسلام للوعي اللغوي إشارته إلى ما يمكن أن تتركه بعض الألفاظ من حالة نفسية لدى المتلفظ بها، و في هذا الإطار نفهم ما جاء في السنة النبوية من النهي عن بعض الألفاظ و استبدالها بأخرى كما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما روته عائشة رضي الله عنها: ( لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، و لكن ليقل لَقِسَت نفسي ) [أخرجه البخاري]، قال الحافظ: قال الخطابي: تبعا لأبي عبيد: لقست، و خبثت بمعنى واحد، و إنما كره صلى الله عليه و سلم من ذلك اسم الخبث، فاختار اللفظة السالمة من ذلك.
و من صور ذلك أيضا أن رجلا كان إسمه في الجاهلية زحم بن معبد، فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( أنت بشير ) [أخرجه أبو داوود].
إن هذه الإشارة النبوية تكشف لنا الخلفية النفسية التي قد يتركها الاسم فيمن يتسمى به، و تكشف في دلالتها الأعم عن ضرورة الوعي بالأثر النفسي للغة (د.محمود بطل محمد أحمد- كتاب بنية الوعي في الإسلام و صور من تأثيراتها الحضارية).
وعي التغيير الحضاري
الحضارة كأفق للوعي
المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله أحد رُوّاد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين يُمكن اعتباره امتدَادًا لابن خلدون، و يعد من عمالقة المفكرين المعاصرين الذين نبّهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة. و يدعو مالك بن نبي في جل كتاباته إلى ضرورة إبداع بدائل فكرية و مناهج علمية مستقلة تتناسب مع البيئة الإسلامية بدل استيرادها كما هي من الغرب الأوربي، و يلح على ضرورة الاستقلال الفكري في دراسة مشكلاتنا الحضارية و الاجتماعية.
يمكن اعتبار الإطار العام لفكر مالك بن نبي: مسألة الحضارة. فقد عنون جميع مؤلفاته تحت شعار كبير هو "مشكلات الحضارة". و تكاد محاوره الفكرية تكون واضحة من خلال العناوين الفرعية التي اختارها لكتبه التي تزيد عن العشرين كتابا. و لذلك فيمكن توزيع أعماله على عدة مجالات علمية أهمها فلسفة التاريخ و السياسة الثقافية و الاقتصاد و علم النفس الاجتماعي و الفكر الإسلامي.
ينطلق مالك بن نبي في تحديد مفهومه للحضارة من خلال تأملاته في حركة النهضة في العالم الإسلامي التي تأثرت بالحضارة الغربية في سعيها لمحاولة تجاوز الوضعية المأسوية التي يخبرها هذا العالم، حيث أنه إذا كان الهدف هو تحصيل حضارة، فإن الجهود التي تبذل لن تصل إلى نتيجة، لأنها لم تتعمق القضية جيدا.
يعني هذا أن أن المشكلة بالنسبة لمالك بن نبي ليست مشكلة بسيطة تقتضي حلا ٱنيا و مستعجلا يخرج المجتمعات الإسلامية من واقعها المتخلف في جميع مجالاته، إنما هي مشكلة تتعلق بوجود خلل على مستوى الروح التي تسري داخل وعي الأفراد و المجتمعات، إنها قضية أفكار و مفاهيم و تصورات بالدرجة الأولى، أي أن الأمر يقتضي إعادة النظر في الطرق و المناهج و المفاهيم التي نفكر بواسطتها، إننا هنا بصدد دعوة إلى العودة إلى الذات من خلال نقدها لرؤية الأشياء و العالم، و لذلك يقول مالك بن نبي « و لكي نزيل اللبس نقول إن مجتمع ما بعد التحضر ليس مجتمعا يقف مكانه، بل يتققهر إلى الوراء بعد أن هجر درب حضارته و قطع صلته بها ».
تبدو الفكرة هنا واضحة، فهي تعبر عن موقف مالك بن نبي من الماضي الحضاري للمجتمعات الإسلامية، فبالنسبة إليه، لا يمكن أن نجد حلولا لواقع مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة بالانقطاع عن مصادر الوعي الذاتي التي و إن حصل بها خلل إلا أنها لا زالت حية في الشعور تحتاج فقط إلى تفعيل و تكييف و استبطان من جديد، و هذه خطوة ضرورية لا يمكن تجاوزها بالنسبة لكل دعوات النهضة و الإصلاح.
و عليه فالتغيير المطلوب ليس تغييرا جزئيا، بل هو تغيير شامل و عميق و لذلك يعطي مالك بن نبي للإنسان دورا مركزيا في معادلته الحضارية ، فكل تغيير ثقافي و حضاري كبير يتطلب « تغييرا في الشخصية الإنسانية، بالمعنى الواسع، الذي يتضمن الروح الإنساني، من السلوك إلى العلاقات الاجتما��ية إلى أسلوب الحياة، في هذا الإطار يؤكد لنا مالك بن نبي أنه من الضروري تجديد الإنسان بحيث ينسجم مع التقاليد الإسلامية الحقيقية و المناهج العلمية الجديدة ».
فتجديد الوعي هو المدخل الرئيسي لكل تغيير حقيقي، أي تغيير حضاري شامل تتجدد على إثره روح الإنسان المسلم، بحيث تتحرر من أساليب التفكير الخاطئة و تنسجم مع رؤية تساعدها على الانسجام مع ذاتها و مع مستجدات العالم المعاصر في الوقت ذاته.
معادلة الحضارة و التغيير
حضارة = إنسان + تراب + زمن
فالحضارة في فكر مالك بن نبي هي عبارة عن معادلة رياضية من ثلاثة متغيرات هي: الإنسان و التراب و الزمن. فكل حضارة على وجه الأرض -الماضي منها و المستقبل- ما هي إلا صياغة متميزة لهذه المعادلة. و يضيف عنصرًا رابعًا في معادلة الحضارة و هو: الفكرة المحفزة أو الدين، فالدين يمثل الفكرة المحفزة التي تدمج العناصر الثلاثة و تبعث فيها الحياة.
يقول مالك بن نبي في كتابه: شروط النهضة: « كل أمة تريد بناء حضارة فرأس مالها يتمثل في العوامل الثلاث ، و بطبيعة الحال لا بد من الْمُرَكَّب الذي يبعث هذه العوامل قوة فعالة في التاريخ ، و الحضارة لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية، فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعة و منهاجا.
و معلوم أن جزيرة العرب لم يكن بها قبل نزول الوحي إلا شعب (الإنسان) يعيش في صحراء مجدبة (التراب) و يذهب وقته هباء (الزمن)، فالعوامل الثلاثة إذن خامدة راكدة مكدسة لا تؤدي دورا في التاريخ لكن بنزول الوحي امتزجت هذه العناصر المكدسة لتنشأ من بينها حضارة جديدة قادت العالم إلى الرقي و التقدم و التمدن و لم يكن ذلك بفعل السياسيين و لا العلماء الفطاحل، بل أناس بسطاء بدو تحولوا عندما مستهم شرارة الروح إلى دعاة إسلاميين تتمثل فيهم قيم خلاصة الحضارة الجديدة حتى إذا ما بلغت درجة معينة انحدرت القيم الفكرية.
و هكذا لا يتاح لحضارة في بدئها رأسمال إلا ذلك الرجل البسيط الذي تحرك، و التراب الذي يمده بقوته الزهيد حتى يصل إلى هدفه، و الوقت الضروري لوصوله و كل ما عدا ذلك من قصور شامخات، و من جامعات و طائرات ليس إلا من المكتسبات لا من العناصر الأولية. فكلما تحرك رجل الفطرة تحركت معه حضارة في التاريخ ».
فتغيير الوعي ضروري لتغيير الواقع الاجتماعي بالنسبة لمالك بن نبي، و عليه فمهما يكن، مصدره التاريخي « فإن التخلف ، لا يشكل سوى مظهر من مظاهر مشكلة الإنسان الذي لم يتعلم طريقة استعمال وسائله الأولية، التي هي التراب و الزمن بصورة فعالة ، أو قد نسي ما تعلمه من هذا الاستعمال، مع ملاحظة أن فعالية الإنسان بالذات هي التي تُقَوِّم بقية العوامل الأخرى ».
يعطي بن نبي الأولوية للإنسان كذات مقابل التراب و الوقت، فالأمر كله يتعلق ، بالوضعية التي يكون عليها موقف الإنسان الروحي و الفكري، و من ثم استعداداته الفكرية و النفسية للإنسان، مالك بن نبي يؤكد بأن كل محاولة إصلاح للروح و الشخصية المسلمة يستلزم مشروعا ثقافيا، و هو ما يعني أن كل تفكير حول مشكل الإنسان هو تفكير في مشكل الحضارة.
و هذا يبين أن التغيير الحضاري كما يتصوره مالك بن نبي هو تغيير في وعي الإنسان بالدرجة الأولى قبل أن يكون تغييرا في عالم الأشياء و الوسائل المادية، و هذا ما يسميه التغيير الحضاري أو التغيير الحقيقي.
الحضارة و الوعي الذاتي المشترك
يقول مالك بن نبي في كتابه مشكلة الثقافة: « إنه ينبغي ان نتناول مشكلة الثقافة من منظور نفسي لا اجتماعي. اي بدلاَ من ان نتساءل: كيف ينقل المجتمع تراث الثقافة الى الفرد؟ ينبغي ان نتساءل:كيف ينتقي الفرد المقاييس الذاتية التي تحدد انتماءه الى نمط ثقافة معينة، و من ثم تحدد سلوكه بصرف النظر عن مكانته الاجتماعية. يذهب مالك بن نبي للقول إن المحيط الذي ينام الانسان في أثنائه و يصحو، و الصورة التي تجري عليها حياتنا اليومية تكون في الحقيقة إطارنا الثقافي الذي يخاطب كل تفصيل فيه روحنا بلغة ملغزة ».
إن الثقافة انتماء إلى قيم مشتركة تشكل وعينا الذاتي و هي أساس التحول من الفكر إلى العمل، و هي العامل الذي يربط بين القول و الفعل، بل هي ركيزة وحدة الشعور داخل الجماعة الإنسانية، و بالتالي هي أساس الدخول في مشروع حضاري و الدخول في حراك تاريخي فعال و مثمر هادف، إنها العامل الذي يمتلك من خلاله الوعي و الإرادة لمواجهة التحديات التي تواجهنا، لهذا يعطي مالك بن نبي للعوامل النفسية دورا مهما في تشخيصه و تحليله لحركة التاريخ، إذ يعبر عن ذلك صراحة بقوله « إن ٱلية الحركة التاريخية إنما ترجع في حقيقتها إلى مجموع من العوامل النفسية الذي يعد ناتجا عن بعض القوى الروحية، و هذه القوى الروحية هي التي تجعل من النفس المحرك الجوهري للتاريخ الإنساني ».
يعيد مالك بن نبي حركة التاريخ إلى العوامل النفسية، ثم يرتفع بها إلى القوى الروحية التي يطلق عليها عادة اسم "الفكرة الدينية" فينتهي الوعي الذاتي عنده إلى الفكرة الدينية باعتبارها المحرك الأول للتاريخ و المؤسس الأول لكل مجتمع و حضارة، « إذن فالعلاقة الروحية بين الله و الإنسان ، هي التي تلد في صورة القيمة الأخلاقية، فعلى هذا يمكننا أن ننظر إلى العلاقة الاجتماعية و العلاقة الدينية معا من الوجهة التاريخية معا على أنهما حدث ».
بهذا الربط بين الفكرة الدينية و ميلاد المجتمع، يكون مالك بن نبي قد أرسى شبكة علاقات متكاملة داخل الوعي و الضمير الفردي و الاجتماعي، أي بين العوامل النفسية و الاجتماعية و الدينية باعتبارها عوامل لتشكيل الوعي الذاتي للفرد و الجماعة التي ينتمي إليها عضويا و شعوريا، و التي يعمل معها بشكل مشترك من أجل بلوغ غاية مشتركة تعكس الوعي الذاتي المشترك و هي الغاية التي يطلق عليها مالك بن نبي اسم "الحضارة".
إن التغيير الحضاري بمعناه الصحيح في تصور مالك بن نبي مرتبط بتحقيق وعي شامل و عميق في نفوس الأفراد ، فدون تغيير الوعي بمكوناته الأخلاقية و الجمالية و الاجتماعية يظل التغيير سطحيا ظاهريا خارجيا، لا يستجيب للتحديات الحضارية، إن التغيير مرتبط بالمعنى و الغاية و مدى وضوحها و رسوخهما في الوعي، أما غير ذلك فيجعل من الوعي مغتربا عن الواقع، و هو ما يشكل عائقا أمام حل المشكلات المطروحة التي هي في عمقها و جوهرها ثقافية حضارية و أخلاقية إنسانية، فدون تغيير عميق في وعي الإنسان و إصلاح ذاتيته و استعداداته النفسية، تبقى مشكلات التخلف و الانحطاط و ما يتولد عنها من ضعف قائمة.
87 notes · View notes
tadkiraimania · 3 years
Text
Tumblr media Tumblr media
أصل الإيمان
الإيمان مبني على أصلين:
أحدهما: تصديق الخبر عن الله و رسوله (أي: أن مقتضى شهادةُ أنْ لا إله إلَّا الله و أنَّ محمَّداً رسولُ الله، هو تصديقُ الرسولِ و تصديقُ الكتابِ بكلِّ ما فيهما من الأخبارِ)، و بذل الجهد في رد الشبهات التي توحيها شياطين الإنس و الجن في معارضته.
ثانيهما: طاعة أمر الله و رسوله (أي: طاعة أمر الله في امتثال أوامره و اجتناب نواهيه، و طاعة رسوله فيما أمر به و نهى عنه)، و مجاهدة النفس في دفع الشهوات التي تحول بين العبد و بين كمال الطاعة.
فالشبهات و الشهوات أصل فساد العبد و شقائه في معاشه و معاده؛ كما أن تصديق الخبر، و طاعة الأمر، أصل فلاح العبد و سعادته في معاشه و معاده.
و كل عبد له قوتان:
الأولى: القوة العلمية، و هي قدرة الإدراك و النظر و ما يتبعها من العلم و المعرفة و الكلام.
الثانية: القوة العملية، و هي قوة الإرادة و الحب و ما يتبعهما من النية و العزم و العمل.
فالشبهات تؤثر فسادا في القوة العلمية ما لم يداوها بدفعها، و الشهوات تؤثر فسادا في القوة العملية ما لم يداوها بإخراجها.
و من تمام حكمة الله تعالى أنه يبتلي هذه النفوس بالشقاء و التعب في تحصيل مراداتها و شهواتها، فلا تتفرغ للخوض في الباطل إلا قليلا، و لو تفرغت هذه النفوس لكانت أئمة تدعو إلى النار.
و هذا حال من تفرغ منها كما هو مشاهد بالعيان، فإن داء الأولين و الآخرين كان في أمرين: إتباع الشهوات المانعة من متابعة الأمر، و الخوض بالشبهات المانعة من الانقياد للأمر.
و هذا شأن النفوس الباطلة التي لم تخلق لنعيم الآخرة، و لا تزال ساعية في نيل شهواتها، فإذا نالتها فإنما هي في خوض بالباطل الذي لا يجني عليها إلا الضرر العاجل و الآجل، فعلى العبد أن يحذر هؤلاء و مجالستهم: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَ إِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [الأنعام:68].
و من رزقه الله قلبا سليما، رأى الحق حقا و اتبعه، و رأى الباطل باطلا و اجتنبه. فإذا رأى الناس متوكلين على تجارتهم، و صحة أبدانهم، توكل على الله: { وَ مَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ } [الطلاق:3].
و إذا ر آهم يذلون أنفسهم في طلب الرزق، إشتغل بما لربه عليه لعلمه أن رزقه سيأتيه: { وَ مَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَ مُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [هود:6].
و إذا رآهم يتحاسدون في دنياهم ترك ذلك لهم، لعلمه أن نصيبه من الرزق سيصل إليه، و لن يأخذه غيره: { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [الزخرف:32].
و إذا رأى الناس يطلبون العزة و المكانة عند المخلوق بالمال و الجاه و المناصب، طلب المكانة عند ربه بالتقوى كما قال سبحانه: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات:13].
و إذا رأى الناس يركضون و راء شهواتهم، أجهد نفسه في دفع الهوى حتى تستقر على طاعة الله عز و جل: { وَ أَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ } [النازعات: 40-41].
و إذا رأى الخلق كل له محبوب فإذا وصل إلى القبر فارق محبوبه، جعل محبوبه حسناته التي لا تفارقه: { الْمَالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَ خَيْرٌ أَمَلًا } [الكهف:46].
قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [الأنفال:2-3]، و قال تعالى: { وَ لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَ لَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء:87-89].
القلب السليم الذي ينجو من عذاب الله يوم القيامة، هو القلب الذي قد سَلِمَ من مرض الشهوات، و سلم من مرض الشبهات، الذي قد سَلَّمَ لربه، و سلم لأمره، و لم تبق فيه منازعة لأمره و لا معارضة لخبره. و متى كان قلب العبد كذلك فهو سليم من الشرك، و سليم من البدع، و سليم من المعاصي، و سليم من الغي و سليم من الباطل.
فالقلب السليم هو الذي سلم لعبودية ربه حبا و خوفا، و رجاء و طمعا، و سلم لأمره و سلم لرسوله تصديقا و طاعة، و استسلم لقضاء الله و قدره، فلم يتهمه و لم ينازعه و لم يتسخط لأقداره. فأسلم لربه و مولاه انقيادا و خصوعا، و ذلا و عبودية. و سلم جميع أحواله و أقواله، و أعماله الظاهرة و الباطنة، لما جاء عن رسول الله (محمد بن إبراهيم التويجري - موسوعة فقه القلوب).
عداوة الشيطان
قال الله تعالى: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [فاطر:6]، و قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [البقرة:208].
لقد لعن الله الشيطان و طرده من الجنة بسبب أنه عصى أمر ربه حين أمره بالسجود لآدم عليه السلام،. فأبى و استكبر و كان من الكافرين، فحقت عليه لعنة الله إلى يوم الدين كما قال سبحانه: { قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ } [ث:77-78].
و وعد الله الشيطان و ذريته و أتباعه بنار جهنم يوم القيامة كما قال سبحانه و تعالى: { قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } [الأعراف:18].
و ربط الشيطان لعنة الله بآدم و لم يربطها بمعصيته، و لكنه رأى أن ما حصل له من الطرد و اللعن و الإغواء و العذاب في جهنم، كله بسبب ٱدم، فأعلنها حربا صريحة على ٱدم و ذريته من جميع الجهات و في جميع الأوقات، و جميع الأماكن، و بشتى الوسائل، مصرا على ملاحقة الإنسان ذكرا كان أو أنثى في كل لحظة: { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَ عَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَ لَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [الأعراف:16-17].
و عزم عدو البشرية أن يقعد على صراط الله المستقيم ليصرفهم عن سلوكه، و يأتيهم من ناحية نقط الضعف البشري فيهم، و مداخل الشهوة الجاذبة كما قال لآدم من قبل: { قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ، فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَ طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَ عَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [طه:120-121].
فتاب آدم من خطيئته و تقبل الله توبته: { فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة:37]. و نزل آدم عليه السلام و عدوه إبليس اللعين إلى الأرض، و بدأت المعركة الكبرى: معركة الشيطان و ذريته ضد آدم و ذريته.
فالحرب قائمة مستمرة، إنها معركة الإيمان مع عداوة الشيطان، معركة الهدى مع الهوى، معركة الشر و الفساد في الأرض مع شريعة الله المصلحة للأرض و من فيها، إنها المعركة في النفس و الحياة الواقعية.
إنها حرب طويلة الأمد يخوضها الإنسان مع الشيطان،. و قد استعد لها الشيطان بخليه و رجله و جنوده و أتباعه و أولياءه: { وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ وَ عِدْهُمْ ۚ وَ مَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا } [الإسراء:64].
و الله سبحانه و تعالى حافظ عباده و أولياءه: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَ كَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا } [الإسراء:165].
فالمؤمنون لا سبيل للشيطان عليهم، و لا يملك أن يزين لهم لأنه عنهم محصور، و لأنهم في حمى الله عز و جل، و مداخل الشيطان إلى نفوسهم مغلقة. و إنما سلطان الشيطان على من اتبعه من الغاوين الضالين، فالشيطان لا يتلقف إلا الشاردين كما يتلقف الذئب الشاردة من الغنم: { قَالَ هَٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } [الحجر:41-42].
قال ابن القيم: " و لما علم عدو الله أن الله تعالى لا يسلطه على أهل التوحيد و الإخلاص قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ص: 83]،
فعلم عدو الله أن من اعتصم بالله عز و جل و أخلص له و توكل عليه لا يقدر على إغوائه و إضلاله و إنما يكون له السلطان على من تولاه و أشرك مع الله فهؤلاء رعيته فهو وليهم و سلطانهم و متبوعهم " (كتاب: إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان).
وسائل الشيطان في غواية الإنسان
إن الإنسان حين يستحضر المعركة الخالدة مع الشيطان، فإنه يتحفز بكل قواه، و بكل يقظته، دفاعا عن النفس و حماية الذات: يتحفز لدفع الغواية و الإضلال و الإغراء، و يستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه، و يتوجسس من كل هاجسة، و يسرع ليعرضها على ميزان الله و شرعه.
إن القرآن ينشئ في القلب حالة التعبئة الشعورية ضد الشر و دواعيه، و ضد هواتفه المستترة في النفس، و أساليبه الظاهرة للعيان، حالة الاستعداد الدائم للمعركة التي لا تهدأ لحظة، و لا تضع أوزارها في هذه الأرض إلى يوم القيامة.
و لذلك فإن إبليس لا يبذل جهده لمن باع نفسه للمعصية، و انطلق يخالف كل ما أمر به الله تعالى، و يتمرغ في الكفر و الظلم و المحرمات. و إبليس لا يذهب إلى الحانات، و أماكن اللهو و الفجور، و مستنقعات الزنا و الرذيلة و الفساد. فكل من يذهب إلى هذه الأماكن فهو ذاهب إلى معصية، و ليس في حاجة إلى إغواء، لأنه اختار هذا الطريق العفن.
و لكن إبليس يذهب إلى بيوت الإيمان، و بيئات الطاعة، و أماكن العبادة، و ساحات الفضيلة، و من سار على الصراط المستقيم عابدا و داعيا، و معلما و متعلما، و مربيا و ناصحا و مرشدا، و محسنا و متصدقا.
هؤلاء الذين يبذل معهم إبليس كل جهده، و كل حيله، و كل مكره، و كل كيده، و كل إغوائه، ليصرفهم عن عبادة الله سبحانه و تعالى، و عدو الله له في تحقيق غايته تلك عدة وسائل:
التضليل
من الوسائل المباشرة التي ينتهجها الشيطان لإغواء الإنسان «التضليل»، و هذه الوسيلة تندرج تحتها وسائل عدَّة، و تتنوَّع كلُّها بحسب نوع الإنسان من حيث عِلمه و ثباته و استجابته للشبهات أو الشهوات، و من حيث قوَّة إيمانه و يقينه و نفاد بصيرته، قال الله تعالى: ﴿ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا، لَعَنَهُ اللهُ وَ قَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴾ [النساء:117-119].
و في هذه الآيات دلالة على تصريح الشيطان لعنه الله بتضليل بني آدم، و اتخاذ طائفة منهم لتصير من حزبه و نصيبه.
و الإضلال الذي ينتهجه الشيطان على خمس مراتب:
الأولى- هي الدعوة إلى الشرك و الكفر:
و هذا النوع هو أحطِّ أنواع الإضلال و أخبثها و أخطرها، فإذا ظفر به الشيطان من الإنسان فقد ظفر بكلِّ مراده، و حظي بغاية إضلاله و إغوائه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:48].
الثانية- و هي الدعوة إلى البدعة:
و إلقاء الشبهة على مرضى القلوب، و لا يلجأ الشيطان إلى هذه المرتبة إلاَّ بعد يأسه من الأولى، و البدع هي بريد الكفر و طريقه، و إذا كان الكفر سببًا لحبوط الأعمال فإنَّ البدعة سبب في ردِّها و عدم قبولها، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم -: « من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ » (رواه البخاري)، أي مردود على صاحبه، و لذا فإنَّ الشيطان إذا وجد في المسلم حبَّ الاجتهاد في العبادة و يئس في توهين قوته دعاه إلى الزيادة في الدين و سلوك سبيل المبتدعين.
الثالثة- التحريض على الكبائر و الفواحش:
فارتكاب الفاحشة أهون من الابتداع في الدين، لذلك فالشيطان لا يحرص على هذا الأسلوب إلاَّ إذا فشل في امتحان المسلم في البدع و الضلالات.
الرابعة- التحريض على الصغائر و المباحات:
فإذا يئس من أن يوقع المسلم في كبائر الذنوب، قعد له في طريق الصغائر و اللمم، و سهَّل له سبيلها، و ألبسها لباس تزيينه و تحسينه حتى يُبديها له في منظر المباحات، فإذا وجد منه طاعة و انصياعًا تربَّص به حتى يُوقعه في كبيرة من كبائر الإثم، و من ثم يستفزه و يغويه و يقنطه من التوبة و الرحمة؛ فإذا به صريع.
الخامسة- إشغال المسلم بالعبادة المفضولة عن الفاضلة:
و ذلك لأنَّ الشيطان إذا يئس من صرف العبد عن الأوامر أو إيقاعه في النواهي، و وجد منه قوَّةً و ثباتًا على الحقِّ؛ دخله من باب العبادة نفسها، و قلب له حقائقها، و زيَّن له مفهومها ليشغله عن فاضلها، و ليضيِّع عليه الثواب الحاصل منها، كأن يُزيِّن له قراءة القرآن وقت الصلاة المفروضة حتى تضيع عليه الجماعة .. و كلُّ ذلك من مداخل الشيطان و خطواته التي حذَّر الله جلَّ و علا منها فقال: ﴿ وَ لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأنعام: 142].
التغرير بالأماني
قال الله تعالى: ﴿ وَ قَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [إبراهيم:22].
فهذه الآية تدلُّ على أنَّ من أساليب الشيطان في إغواء الإنسان نفث الوعود و التغرير بالأماني الكاذبة، و من مكائده في هذا الباب التغرير بطول الأمل و زهرة الحياة الدنيا و تزيينها و تحسين الحرص عليها؛ فهو يُدرك حب الإنسان للمال و ميله للشهوات و حرصه على لذَّة الحياة كما قال تعالى: ﴿ وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات:8]، و قال سبحانه: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعَامِ وَ الْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَ اللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [آل عمران:14].
و لذلك فإنَّ إبليس يجعل من تزيين الحياة و التغرير بحيوانها و طول وقتها مدخلاً لتغرير الإنسان و قذف الأماني في قلبه و إغراقه في خواطر الغفلة عن الموت و قلَّة الانتباه للحساب و نسيان الآخرة و ما فيها من نعيم و عذاب!.. قال تعالى مُبيِّنًا كيده و تغريره: ﴿ يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [النساء:120].
و من مكائده و مصائده أيضًا أنه إذا وجد في المسلم خوفًا من الله و رهبة و رغبة قوَّى جانب الرَّغبة في قلبه، و ملأه بالرجاء و التعويل على رحمة الله و عظيم عفوه و منته و كريم رأفته و مغفرته .. و يظل يُنسيه جانب الخوف و يُذكِّره بجانب المغفرة حتى يُوقِعَه في عظائم الذنوب و بلايا العيوب.
و يصنع عدوُّ الله سلاح الأماني و التغرير بالمسلم؛ فيغرِّر بشرب الخمر لأجل نسيان الهموم، و يُغرِّر بالتدخين و المخدرات لتخفيف الانزعاج و القلق، و يُغرِّر بالربا لأجل الربح السريع، و يُغرِّر بالتبرُّج لأجل الزواج، و يُغرِّر بالغشِّ لأجل كسب المال .. و ما من معصيةٍ إلاَّ و تجده يوجد لها من الشُبه ما يناسب شهوات أصحابها، كلٌّ بحسبه.
و إبليس إذا أحسَّ من المسلم إصرارًا على طاعة الله جلَّ و علا و لم ينفع فيه التغرير و التضليل نهج عدو الله مدخل «التسويف»، فتجده يُسوِّف للتائب توبته، و للقائم قومته، و يظلُّ يصوِّر له الأعذار و يُزيِّنها له حتى إذا استقرَّ في قلب الطائع تسويفها أنساه الشيطان إيَّاها و فوَّت عليه الظفر بثوابها.
يقول ابن الجوزي: " و كم من عازمٍ على الجِدِّ سوَّفه الشيطان و جعله يقول «سوف»، و كم من ساعٍ إلى فضيلة ثبَّطه، فلربما عزم الفقيه على إعادة درسه، فقال «استرح ساعة».. و ما زال الشيطان يُحبِّب الكسل و يُسوِّف العمل(كتاب تلبيس إبليس).
التزيـين
و التزيين الذي يعمد إليه الشيطان لإغواء الإنسان نوعان:
أولهما تزيين القبيح، و ثانيهما تقبيح الحسن.
فأما تزيين القبيح فمن قوله تعالى: ﴿ وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَ قَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال:48].
و قوله تعالى: ﴿ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل:24].
فإذا رأى الإنسان قد وقع في معصية زيَّنها و حسَّنها و أوجد لها من أدوات التحسين ما يُشجِّع العاصي على الإصرار على معاودتها، و ذلك بإظهار منافعها و إخفاء مغباتها و حسراتها، فتجده يُحسِّن جمع المال و الحرص عليه و يُظهِر لصاحبه أنه الحكيم في تصرفه، الناظر لعواقب الأمور، و لا يزال به حتى يوقعه في الشحِّ و الغشِّ و الخداع، و كل ذلك بتصوير هذه المعاصي على أنها من الذكاء و الفطنة و الحنكة و العقل!
يقول ابن القيم الجوزية: " و من أنواع مكائده و مكره: أن يدعو العبد بحُسن خلقه و طلاقته إلى أنواع الآثام و الفجور، فيلقاه من لا يُخلِّصه من شرِّه إلاَّ تجهُّمه و التعبيس في وجهه و الإعراض عنه، فيُحسِّن له العدوُّ أن يلقاه ببِشره و طلاقة وجهه و حُسن كلامه، فيتعلَّق به، فيروم التخلص منه فيعجز، فلا يزال العدو يسعى بينهما حتى يصيب حاجته.
و من مكائده: أنه يأمرك أن تلقى المساكين و ذوي الحاجات بوجهٍ عبوسٍ و لا تُريهم بِشرًا و لا طلاقة فيطمعوا فيك و يتجرَّءوا عليك، و تسقط هيبتك من قلوبهم، فيحرمك صالح أدعيتهم و ميل قلوبهم إليك و محبتهم لك، فيأمرك بسوء الخُلق، مع البشر و الطلاقة مع هؤلاء، و يُحسِّن الخُلق و البِشر مع أولئك؛ ليفتح لك باب الشر و يُغلق عنك باب الخير " (كتاب إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان).
و من صور تزيينه للقبيح:
تحسين الأفكار الباطلة و الأهواء المخلة و إيجاد المسوِّغات لها و قذفها في القلوب المريضة، و من ذلك تزيين الاستغاثة بالأموات و دعائهم و الذبح لهم و النذر لهم و تعظيمهم، و كذلك تزيين التعبُّد بما لم يأذن به الله، سواء في الصلاة أو الصوم أو الحج؛ فتجده يحسن الصلاة في القبور، و يُزين الوصال في الصيام، و يُرغِّب في تأخير فريضة الحج، و في كلِّ ذلك تجده يقذف في قلب الإنسان من الأفكار و الخطرات ما يظهر الحقَّ في صورة الباطل تغريرًا كما قال تعالى: ﴿ وَ كَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَ مَا يَفْتَرُونَ } [الأنعام:112].
و معلوم أنَّ وحي الشيطان للإنسان إنما يكون بقذف الخطرات في قلبه و نفثها في نفسه.
و أمَّا تقبيح الحسن فيعمد به الشيطان إلى صرف الإنسان عن الفرائض و الواجبات؛ فإن لم يظفر بذلك عمد إلى صرفه عن المستحبَّات و فضائل الأعمال، و أشدُّ ما يحرص الشيطان على فعله في هذا الباب تفويت الصلاة على العبد، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم: « يعقد الشيطان على رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام، بكلِّ عقدة يضرب عليك ليلاً طويلا، فإن استيقظ فذكر الله عز و جل انحلَّت عقدة، و إذا توضَّأ انحلت عقدتان، فإن صلَّى انحلت العقد، فأصبح نشيطًا طيِّب النفس، و إلا أصبح خبيث النفس كسلان » (رواه مسلم).
فهكذا يصرف الشيطان النائم عن الصلاة، أمَّا المستيقظ فيزيِّن له البيع و التجارة و يخوِّفه الكساد و الخسارة إن هو آثر الصلاة على العمل، كما يصرفه عنها بأنواع المغريات و الملهيات و الشهوات كالغناء و الأفلام و نحوها.
و ما قعد قاعدٌ عن الجهاد و لا أمسك غنيٌّ عن الإنفاق، و لا حُبس قادر عن الإحسان إلاَّ بتزيين الشيطان و تقبيحه لهذه الخصال الطيبة فتراه يخوف المجاهد بالموت و تشريد الأهل و العشيرة، و يخوف المنفق بالفقر و سقوط الهيبة و المكانة، و يخوف المحسن باستعلاء الناس و لؤمهم و نكرانهم للجميل .. و هكذا يجعل لكلِّ خصلة تقرِّب من الله حاجزًا يُخوِّف به المسلم و يجعله علَّةَ تقبيحه و تزيينه لنقيضه.
قال تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَ اللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَ فَضْلًا ۗ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:268].
مداخل الشيطان
إن مَثْلَ القلب كمثل الحصن، و الشيطان عدوٌّ يريد أن يدخل هذا الحصن، فيملكه و يستولي عليه، و لا يمكن حفظ الحصن من العدوِّ إلا بحراسة أبوابه و مداخله، فالجوارح كلها مداخل لهذا الحصن، و عدم حفظ الجوارح ثغرة واسعة لمداخل الشيطان على القلب:
مدخل العين
النظر المسموم من أخطر سهام الشيطان و أفتك أسلحته بإيمان العبد المسلم، و لذلك فحرصه عليه أشدُّ من حِرصه على غيره، لأنَّ خطر فتنة النظر من خطر فتنة المنظور إليه، و لَمَّا كان المنظور إليه النساء، و هنَّ فتنةٌ على العبد؛ كان النظر إليهنَّ أخطر عليه، و كان بذلك الشيطان أحرص على إغواء المسلم به، و هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم يُحذِّر أمَّته من فتنة النساء و يقول: « إنَّ الدنيا حلوة خضرة، و إنَّ الله مستخلفكم فيها فناظرٌ ماذا تفعلون، فاتقوا الدنيا و اتقوا النساء؛ فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء » (رواه مسلم)، و يقول صلى الله عليه و سلم: « ما تركت بعدي في الناس فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء » (رواه مسلم).
و لذلك قرن الله جلَّ و علا بين حفظ الفرج و غضِّ البصر فقال: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30].
و للشيطان في استحواذه على ثغر العين مسلكان:
الأول- صرف العين عن النظر إلى مواطن الاعتبار.
الثاني- توجيهها إلى النظر المحرم.
فأما المسلك الأول:
فيعمد فيه الشيطان إلى صرف العين عن كلِّ ما يقوِّي إيمان المسلم و يشدُّ عزمه و يدلُّه على الهدى و الرشاد، فيحرص أشدَّ الحرص عن صرف العين عن آيات الله الشرعية و الكونية.
فكلَّ ما تأهَّب المسلم لتلاوة القرآن شغله و وسوس له بالشواغل و المغريات؛ فإذا لم يظفر منه بالمراد صرف عينه عن تدبُّر القرآن و فهم معانيه، و جعله ينثره نثر الدقل دونما إعمال لِما يقتضيه من التوحيد و العبادات، و دونما تأثر بما يدُلُّ عليه من الوعد و الوعيد..
و كلَّما عمد المسلم إلى تعلُّم دينه و التفقُّه في شرعه؛ شغله و ألهاه و أغفله عن النظر إلى ذلك بالتزيين لِما سواه و تقبيحه و تشنيعه. و كلَّما رأى من العبد وقفة تأمُّل في خلق الله و في كونه و ما فيه من الآيات الباهرة و الدلائل القاهرة؛ صرف نظره عن ذلك بالوساوس، و هوَّن من شأن الآيات و ما تقتضيه من الإيمان و الإذعان للخالق الديان.
و هذا يظلُّ يقطع عليه كلَّ نظرة جالبة للخير، و يحوِّلها من حالها إلى نظرة التفرُّج والاستحسان حتى يبطل أثرها الطيب في القلب.
و أما المسلك الثاني:
فيعمله الشيطان للإيقاع بالمسلم في براثن الزنا و الفساد، و ما من شيء أسرع في قذف بذور الشهوة في القلب من النظرة؛ لذلك فالشيطان يجعلها أهم مداخله لنفث بذر الشهوة في القلب، ثم يسقيها بماء الأمنية، و لا يزال بالتغرير و الأماني و الوعود حتى يقوِّي عزيمة الناظر و يُوقِد شهوته و إرادته، ثم يُرديه صريعًا في مهاوي المعصية، لذلك ورد في النهي عن النظر المحرَّم نصوصٌ كثيرةٌ تُبيِّن خطورته و ضرره، فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: « النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره عن محاسن امرأة لله أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم يلقاه » (رواه الحاكم)، و قال صلى الله عليه و سلم: « لا تتبع النظر النظرة، فإنما لك الأولى، و ليست لك الأخرى » (رواه أبو داوود و الحاكم).
يقول ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى: " و النظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان؛ فإنَّ النظرة تولِّد خطرة، ثم تولِّد الخطرة فكرة، ثم تولِّد الفكرة شهوة، ثم تولِّد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل و لا بدَّ ما لم يمنع منه مانع .. و لهذا قيل: الصبر على غضِّ البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده".(كتاب: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي).
و سهم النظر من أخطر السهام التي يفتك بها الشيطان إيمان المسلم، و يفوِّت عليه بذلك فتح الفوائد العظيمة التي يُثاب عليها المؤمن إن هو غضَّ بصره و قهر صبوته.
قال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر:19]، قال الشنقيطي رحمه الله: فيه الوعيد لمن يخون بعَينه بالنظر إلى ما لا يحل له.
و بهذا السهم الخطير انتشرت الفواحش و الكبائر و الأمراض و الأدواء في سائر أرجاء المعمور.
مدخل القلب
القلب هو مادة الصلاح و الفلاح، و هو مناط النجاة و النجاح، فبصلاحه يصلح حال العبد في الدنيا و الآخرة، كما أنَّ بفساده يخسر الدنيا و الآخرة، و لذلك قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَ لَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾[الشعراء:87-89].
فلما كانت سلامة القلب هي مناط النفع في الدنيا و الآخرة جعله الشيطان أعظم الثغور استهدافًا، فراح يتفنَّن في أساليب إعلاله و قتله، و القلوب بحسب تَمَكُّنِ الشيطان منها و استحواذه عليها إثنان:
الأول- قلب ميت:
و هو الذي قد تمكَّن الشيطان منه تمكُّنًا خالصًا، و استحوذ عليه استحواذًا مطلقًا، قد مُلئ شِركًا و كُفرًا، لا يعرف صاحبه ربَّه و لا يعبده بأمره، بل هو واقف مع شهوته و لذَّته و لو كان فيه سخط ربه و غضبه، إن أحبَّ أحبَّ لهواه، و إن أبغض أبغض لهواه، و إن أعطى أعطى لهواه، فالهوى إمامه، و الشهوة قائدة، و الجهل سائقه، و الغفلة مركبه!
الثاني- قلب مريض:
و هو الذي قد تمكَّن الشيطان من بعضه و لم يظفر به كلِّه، فاستحواذه عليه بحسب غفلته و غلبة هواه؛ فهو قلبٌ حيٌّ بالإيمان و عليل بوساوس الشيطان فهو بين داعِيَين: داعي الإيمان و داعي الشيطان.
مدخل النفس الأمارة بالسوء
قال الله تعالى: ﴿ وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف:53].
يقول العلماء إن هناك فرق بين معصية يوحي بها الشيطان، و معصية تصر عليها النفس الأمارة بالسوء. فإذا حدثتك نفسك بمعصية و أصرر ت عليها، فاعلم أن النفس هي التي قادتك إلى تلك المعصية، لأنها تريد منك أن تحقق لها رغباتها و شهواتها.
أما إبليس فليس على هذا المنوال، فإبليس يريد من المؤمن أن يكون عاصيا بأي شكل من أشكال المعصية، و لا يهمه نوع معين من العصيان في ذاته.
قال ابن القيم: " النفس الأمارة جعل الشيطان قرينها و صاحبها الذي يليها فهو يعدها و يمنيها و يقذف فيها الباطل و يأمرها بالسوء و يزينه لها و يطيل في الأمل و يريها الباطل في صورة تقبلها و تستحسنها و يمدها بأنواع الإمداد الباطل من الأماني الكاذبة و الشهوات المهلكة و يستعين عليها بهواها و إرادتها فمنه يدخل عليها كل مكروه فما استعان على النفوس بشيء هو أبلغ من هواها و إرادتها إليه " (كناب: الروح).
فالنفس الأمَّارة بالسوء أكبر عون للشيطان في إغواء الإنسان، فكلَّما وجد منها أمرًا بالفساد والانحراف أعانها عليه و استعان بها عليه، و أمدَّها به، بل إنه ليستمدّ منها خطرات السوء، و ليجد فيها ما لو كان وحده لم يقدر عليه!
و إذا تأمَّلنا قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ ﴾ وجدنا كلمة «أمَّارة» تدلُّ مبالغتها على كثرة أوامرها، و أن ذلك هو عادتها و ديدنها و دأبها، و لذلك قال «أمَّارة» و لم يقل «آمِرَة»، و من هذا فإنَّ الشيطان يجد فيها العون الأكبر على نفث خطراته الشريرة؛ فهي أنسب حرثٍ لِمَا يزرع، وأحدُّ سيفٍ يقطع!
سبل الوقاية من الشيطان
قال تعالى: ﴿ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء:76]، فكيده ضعيف، كما أنَّ سلطانه ضعيف كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل:100].
فلا يتجاوز كيده أن يكون تشكيكًا أو وسوسةً أو تخويفًا أو تَحسينًا لقبيحٍ أو تقبيحًا لِحَسنٍ أو دعوة إلى الغلوِّ أو التقصير أو تغريرًا بأماني كاذبة. و قد نور الله جلَّ و علا المسلم بسُبل الوقاية من وساوسه و إضلاله، و دلَّه على طُرق دحره و قمعه، و أمدَّه من الآيات و العبر ما يُبدِّد به تغريره و تخويفه .. قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَ خَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران:175].
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: « إذا أوَيْتَ إلى فِراشِكَ فاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ، لَنْ يَزالَ معكَ مِنَ اللَّهِ حافِظٌ، و لا يَقْرَبُكَ شيطانٌ حتَّى تُصْبِحَ » (رواه البخاري عن أبي هريرة).
و لقد تولَّى الله جلَّ و علا حِفظ الإنسان من مسِّه و تأثيره الحسِّي، قال تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ﴾ [الرعد:12]؛ فالله جلَّ و علا قد أوكل ملائكةً حفظةً يكلئون الإنسان في ليله و نهاره، و يحفظونه من بطش الشيطان و كيده الحسِّي، و لو تُرك الإنسان مسلمًا كان أم كافرًا من غير كلاءة لبطش به الشيطان بطشًا كما هو الحال في بعض الحالات التي يَمسُّ فيه الإنسان بالصرع.
فمن رامَ حفظ نفسه من شرور الشيطان حاسب نفسه على كلِّ خطرة، و أدام في أوامره الفكرة .. قال تعالى: ﴿ وَ أَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات:40].
قال أحد السلف: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم، فمن ظفر بنفسه أفلح و أنجح، و من ظفرت به نفسه خسر و هلك.
و ما أجمل ما سطّره ابن تيمية، حيث قال: " الشيطان وسواس خنّاس، إذا ذكر العبدُ ربه خنس، فإذا غفل عن ذكره وسوس، فلهذا كان ترك ذكر الله سبباً و مبدأً لنزول الاعتقاد الباطل و الإرادة الفاسدة في القلب " (الفتاوي 4/34).
فإن كثرة الذكر و الصلاة من أسباب صلاح النفس، و ترقيها في مراقي الإيمان.
فالصلاة تعين على منع النفس من الفواحش كما قال الله تعالى: { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَ أَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت:45].
و أما الذكر فهو العاصم لها من تسلط الشيطان عليها كما في الحديث: « و آمركم بذكر الله عز و جل كثيراً، و إن مَثَلَ ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره، فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه، و إن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز و جل » (رواه أحمد و الترمذي و الحاكم، و صححه الألباني).
و إنما يقع في أحضان الشيطان أحد اثنين:
الأول عالم لا يعمل بعلمه، و الثاني جاهل بالدين يعبد ربه على غير علم أو بينة.
فأما العالم الذي لا يعمل بعلمه فمدخله الشهوة و الغفلة و متعلقاتهما من الغضب و نحوه.
و أما الجاهل بالدين فيدخله الشيطان إمَّا بتزيين عبادته الباطلة فيُوقعه في ألوان البدع و الضلالات، و إما بتثبيطه عن تعلُّم الدين و اتباع هدي سيد المرسلين، فالأول مدخله «البدعة» و الثاني «الإعراض عن دين الله» لا يتعلَّمه و لا يعمل به.
و لذلك فإنَّ سلاح العلم أفتك بالشيطان من مجرَّد العمل بغير علم، و لذلك ورد في فضل العلم نُصوص كثيرة في كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر:9]، و قال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ } [فاطر:28].
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: « من يرد الله به خيرًا يُفقِّهه في الدِّين » (رواه البخاري عن معاوية بن أبي سفيان)، و قال صلى الله عليه و سلم: « فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم » (رواه الترمذي و حسنه الألباني).
و السِّـرُّ في كون العلم من مقامع الشيطان هو اشتماله على وسائل النجاة من حِيَل إبليس و مكائده و اشتماله على التعريف بمداخله و أساليبه، و اشتماله على مقويات الإيمان و دلائل التوحيد و آيات الثبات على الدين.
يقول ابن القيم: " لا نجاة من مصايده و مكايده إلا بدوام الاستعانة بالله، و التعرّض لأسباب مرضاته، و التجاء القلب إليه في حركاته و سكناته، و التحقق بذلّ العبودية الذي هو أولى ما تلبّس به الإنسان، ليحصل الدخول في ضمان {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء:65] (كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان).
حاسب نفسك لتطمئن
لو وصلت نفس الإنسان إلى مرحلة النفس المطمئنة، و وجد نفسه تنقــاد له في فعل بعض الطاعـــات، فليعلم أن ذلك ليس برغبتها، و إنما خوفه من الله و من الآخرة كان باعثًا على قهر النفس و الرغبة في الابتعاد عن الانحراف الذي تأمر به، فَسَجَنَ نفسـه حتى صارت بين يديـــه كالأسير المقهور على فعل جميــع ما تأمره بـــه،
حتى إذا فتح لها البــاب ظنًا منه أنها قد ثبتت على الطــاعــات، تحررت من قيودهــا و عــادت إلى ما كـانت عليه من الأمر بالسوء.
فإذا قهرت نفسك تستطيع أن تقودهــا أما إذا أطلقت سراحها أمرتك بالســوء!
و الرضــا عن النفس مركب المهالك، لأن النفس ستظل دومًا هي النفس التي لا تأمر بخيرٍ قط؛ لذا من أقبح ما يكون أن ترضى عن نفسك، كما ذكر النبي صلى الله عليه و سلم أن العُجب من المُهلكات، قال:« ثلاث مهلكات شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه » (حسنه الألباني، السلسلة الصحيحة).
و قال الله تعالى { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم: 32].
و في الحديث الذي أخرجه مسلم: « اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَ زَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا. أَنْتَ وَلِيُّهَا وَ مَوْلَاهَا »، (أنت خير من زكاها): أي لا مُزكّي لها إلا أنت، فإنك تطهر النفوس فتصبح طاهرة طيبة بمقتضى حكمتك و مشيئتك، و سعة علمك لمن استحق ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله: " لا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها. و من أحسن الظن بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه " (كتاب: مدارج السالكين).
فستظل دائمًا أبدًا في جهــادٍ مع نفسك حتى الموت.
و يقول أبن القيم: " و النفس قد تكون تارة أمارة و تارة لوامة و تارة مطمئنة بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل منها هذا و هذا و الحكم للغالب عليها من أحوالها فكونها مطمئنة وصف مدح لها و كونها أمارة بالسوء وصف ذم لها وكونها لوامة ينقسم إلى المدح و الذم بحسب ما تلوم عليه.
و المقصود : ذكر علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه و له علاجان :
محاسبتها و مخالفتها و هلاك القلب من إهمال محاسبتها و من موافقتها و اتباع هواها و في الحديث الذي رواه أحمد و غيره من حديث شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت و العاجز من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله ) دان نفسه : أي حاسبها.
و ذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا و زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم و تزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.
و ذكر أيضا عن الحسن قال : لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه : و ماذا أردت تعملين و ماذا أردت تأكلين و ماذا أردت تشربين، و الفاجر يمضي قدما قدما لا يحاسب نفسه.
و ليس على النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله، و ما جاء به داعي الهوى، و ليس عليها شيء أضر منه، و الملك مع هذه عن يمنة القلب، و الشيطان مع تلك عن يسرة القلب، و الحروب مستمرة لا تضع أوزارها إلا أن يستوفى أجلها من الدنيا.
و الباطل كله يتحيز مع الشيطان و الأمارة، و الحق كله يتحيز مع الملك و المطمئنة، و الحرب دول و سجال، و النصر مع الصبر، و من صبر و صابر و رابط و اتقى الله فله العاقبة في الدنيا و الآخرة، و قد حكم الله تعالى حكما لا يبدل أبدا: أن العاقبة للتقوى، و العاقبة للمتقين" (كتاب إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان).
صفات أصحاب النفس المطمئنة
النفس المطمئنة هي: النفس المؤمنة المطمئنة إلى الحق، الواصلة إلى ثلج اليقين و برودته بحيث لا يخالطها شك ما، و لا يمازجها سخونة اضطراب القلب في الحق أصلاً.
رُوي أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه و سلَّم قال لرجُل: « قلْ : اللهم إني أسألُكَ نَفْسًا مطمئنةً، تُؤْمِنُ بلِقائِكَ، و تَرْضَى بقضائِكَ، و تَقْنَعُ بعَطائِكَ » (رواه السيوطي عن أبي أمامة الباهلي).
و الإنسان إذا وصل إلى مرحلة النفس المطمئنة لن يكون بمعزلٍ عن الخطايــا؛ لأن كل بني آدم يعتريهم النقص و الخطأ. إنما إذا سعيت للتحلي بصفــات أصحاب النفس المطمئنة، ستنــال الاطمئنان النفسي في الدنيـــا و الراحــــة الأبديـــــة في الآخرة، قال تعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۚ } [النجم:32].
و لذلك فأصحاب النفس المطمئنة لهم صفات هي:
الصفة الأولى: الإخــلاص
و للإخلاص علامات ابحث عنها في نفسك لتعلم أأنت مخلصٌ أم لا، و هي:
1) أن يكون في عناية الله تعالى و معيته، أي إنه ليس كثيــر التعثُر و أحواله ليست مضطربة أو متباينة، كما قال ابن الجوزي ". إنما يتعثر من لم يخلص" ( كتاب: صيد الخاطر).
2) بـذل المجهود في الطــاعة.
3) أن يكون حريصًا على إسرار الأعمال، إلا على ما ينبغي إظهاره، مثل: الصلاة و الدعوة و الجهاد.
4) الحرص الشديــد على إصلاح العمل و إتقانه و إحسانه. لأنه يعيش لله لا لنفسه، فكل ما يفعله يبذله لوجه الله.
5) وجل القلب و خوفه من عدم القبــول.
و اعلم أنه لن يُنجيــك إلا الصدق و الإخلاص.
الصفة الثانية: المتابعة لهدي النبي
فصاحب النفس المطمئنة يتبع النبي حذو القُذة بالقُذة، حتى تطغى محبته للنبي على حب المال و الولد و حتى النفس، عن أنس قال: قال رسول الله ثلى الله عليه و سلم: « لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَ وَالِدِهِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ » (متفق عليه).
و علامة الإتبــــــــاع شدة الحرص على معرفة سُنَّتِهِ و أحواله و سيـرته، و الإقتــداء به.
الصفة الثالثة: الرضــا عن الله تعالى
فعندما يذوق طعم الإيمان يمر عليه البلاء و هو مطمئنٌ ساكنٌ هادىء، عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: « ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَ بِالْإِسْلَامِ دِينًا وَ بِمُحَمَّدٍ رَسُولًا » (رواه مسلم).
الصفة الرابعة: شدة محبة الله تعالى و تعظيمه
فقد صُبِغَت حياته بصبغة جميلة من حسن الظن بالله تعالى، إذا ابتلاه يصبر و يرضى، و إذا أنعَمَ عليه يشكر ربِّه و يحمده على نِعَمهِ. فهو سبحــانه ربٌّ ودودٌ يتودد إلى عبــاده الصالحين، قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } [مريم: 96].
و علامات محبتك لله تعالى هي:
1) الأنس بالله تعالى في الخلوة.
2) التلذذ بتلاوة كلام الله.
3) كثرة اللهج بذكر الله.
4) موافقة العبد ربَّه فيما يُحب و يكره.
الصفة الخامسة: الصدق
و لن ينفعك في التعامل مع الله سوى الصدق، و الصدق هو ما يجعلك تعيش مطمئنًا، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة و إن الكذب ريبة » (رواه أحمد و صححه الألباني، مشكاة المصابيح).
و للصدق أنـــواع، هي:
1) الصدق مع الله تعالى، و يكون صدقًا في الأقوال؛ فلا ينطق لسانك إلا صدقًا، و صدقًا في الأحوال؛ فلا تراوغ و لا تتلوَّن، و صدقًا في الأعمال؛ بأن تكون مُخلصًا لله تعالى مُتبعًا لهدي النبي في أعمالك.
2) الصدق مع النفس، بأن يكون بينه و بين نفسه مصالحة فيما يعتقده و ما يفعله، و أن ينصح نفسه؛ حتى لا تميـل مع الشهوات و تركن إليها، فيُحاسب نفسه قائلاً: يـــا نفسُ، أخلصي تتخلصي، و اصدقي تصلي إلى شواطئ الطمأنينة و تبتعدي عن الريب و الشكوك.
3) الصدق مع النــاس، فلا يظهر أمام الناس بوجه مُختلف عن الوجه الذي بينه و بين الله تعالى.
الصفة السادسة: التقوى
قال تعالى: { وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [الطلاق:2-3].
الصفة السابعة: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر
قال الله تعالى: { وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَويُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ يُطِيعُونَ الله وَ رَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيم} [التوبة:71].
الصفة الثامنة: الإحسان إلى عبـــاد الله
قال تعال : ﴿ وَ أَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة:195]،
الصفة التاسعة: الولاء و البــراء
قال تعالى: { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ } [آل عمران:28].
الصفة العاشرة: حُسن الخُلُق
قال الرسول صلى الله عليه و سلم: « أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقًّا، و ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحًا، و ببيت في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خلقه » (رواه البيهقي و حسنه الألباني).
76 notes · View notes
tadkiraimania · 3 years
Text
Tumblr media
و لستُ أرى السعادةَ جمْعَ مال
و لكنَّ التقي هُوَ السعيدُ
و تَقوَى اللهِ خيرُ الزادِ ذُخْرًا
و عندَ اللهِ للأتقى مَزِيدُ
النابغة الشيباني
السعادة غاية روحية
السعادة كلمة جميلة محبوبة معشوقة، تلوكها الألسن و لا تكاد تدركها العقول و تبصرها الأعين، و تتعب النفوس و الأجسام في تحقيقها فلا تكل و لا تمل، و نجري وراء السعادة في اللحظات المؤلمة التي تأتي دون استئذان، و نبضات الفرح مثل نبضات الحزن، و لكن الاختلا�� في العزائم.
السعادة هي شقيقة الحياة و صنوها، فالحياة التي تخلو منها تكون رحلة شاقة ينقصها الكثير لتستقيم و يسير الإنسان في رحلته باطمئنان و رضا.
إن زحمة الحياة المعاصرة تخنقنا، و تلهينا متاهة مشاغلها الكثيرة، و دوامة همومها الصغيرة و الكبيرة، فيتسلل الحزن خلسة ضيفا ثقيلا على قلوبنا المنهكة، و يحاصر القلق حياتنا، فيقل إحساسنا بالجمال الكامن، الذي أبدعه الله جلت قدرته و أودعه في المخلوقات التي تحيط بنا و نشاهدها صباحا مساء، على اعتبار أن الجمال هو مظهر أسرار الكمال في هذ العالم المادي:
قال بعض الحكماء: (خلق الله القلوب مساكن للذكر فصارت مساكن للشهوات و لا يمحو الشهوات من القلوب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق ) [ابن الجوزي- كتاب ذم الهوى].
حاجة الناس إلى إرواء الظمأ الروحي ملحة و ضرورية في عصر الأزمات، بما يعنيه من افتقار الإنسان إلى ما يثري وجوده و يرسخ كينونته و يمنحه وقودا لحياته.
الظمأ الروحي يجتاح حياة كل كائن بشري، لكون هذا الكائن يظل متعطشا للامتلاء بالوجود، كي يتخلص من الهشاشة الروحية، و يجعل حياته ممكنة في هذا العالم الغارق بالآلام و الأوجاع، و تكون القدرة على العيش بأقل ما يمكن من المرارات و الأحزان، و يخرج من حالة القلق إلى حالة السكينة، و من اللامعنى إلى المعنى، و من العدمية إلى الحقيقة.
فالسعادة في الحياة هي أمل كل إنسان، لا يهم كم سيبذل من جهد من أجل أن يكون سعيدا، و يظفر بهذا الشعور الثمين. فنحن عندما نريد الوصول إلى هدف معين أو تحقيق نجاح في حياتنا فإننا في الحقيقة نبحث بذلك عن السعادة. حيث هذا لا يعني رسم خطط مستقبلية طويلة المدى بكل تفاصيلها، و إنما يعني أن تعرف بشكل عام الغاية التي تمضي إليها و ما تفعله. المهم أن تبقى يقظا بدل أن تبقى نائما، و هو ما سماه إبن القيم "اليقظة من الغفلة" في كتاب مدارج السالكين.
مفهوم السعادة يتميز بالتغير، فهو يتشكل وفق متطلبات الواقع و خصوصية و أحوال الأفراد و المجتمعات، يقول إبن مسكويه: ( إن الناس مختلفون في هذه السعادة الإنسانية، و أنها قد أشكلت عليهم إشكالا شديدا إحتاح أن يتعب في الإبانة عنها و إطالة الكلام فيها، و ذلك أن الفقير يرى السعادة العظمى في الثروة و اليسار، و المريض يرى أنها في الصحة و السلامة، و الخليع يرى أنها في التمكن من الشهوات كلها على اختلافها، و العاشق يرى أنها في الظفر بالمعشوق، و الفاضل يرى أنها في إفاضة المعروف على المستحقين، و الفيلسوف يرى أن هذه كلها إذا كانت مرتبة بحسب تقسيط العدل، أعني عند الحاجة و في الوقت الذي يجب و كما يجب و عند من يجب. فهي سعادات كلها و ما كان منها يراد لشيء آخر فذلك الشيء أحق باسم السعادة ) [تهذبب الأخلاق و تطهير الأعراق].
فالجميع يستخدم كلمة السعادة في مختلف المناسبات الاجتماعية السعيدة، كتقديم التهاني للزوجين، مع أجمل المتمنيات بحياة سعيدة ملؤها الفرح و السرور.. و جميعنا لدينا أحلام مشتركة كحلم البيت السعيد، المؤسسة السعيدة، المدينة السعيدة... و نسعى لتحقيق حلم السعادة، الذي ارتبط كثيرا بعدد من المحددات و المصادر كالمال و الثروة و الجاه و الصحة... فنعتبر المظاهر هي أساس الحكم في كثير من الأحيان على حياة الناس بأنها سعيدة أو غير سعيدة، رغم أن المظاهر في أغلب الأحيان خداعة.
و يتعقد فهم السعادة أكثر في ظل القيم المادية المعاصرة التي حولت الإنسان إلى وسيلة في ٱلة الاستهلاك الكبرى للعالم الرأسمالي المتوحش، العالم الذي نعيش فيه اليوم، هو عالم للسلع و ليس عالم الحرية، فهو عالم للاستهلاك و ليس عالما للفلسفلة و السعادة. لأن عالما من البضائع لا يمكنه أن يمنحنا غير سعادة الإشباع: إشباع رغباتنا اللا متناهية (الرغبات الحيوانية).
و هنا نطرح السؤال: هل عالمنا الذي نعيش فيه جميعا تحت سقفه اليوم قادرعلى منح الحياة رونقا و جمالا و سعادة؟ حيث تتسع الهوة بين الجسد و الروح، و تتزعزع الهويات و الخصوصيات، و تتسلع الأفكار و الثقافات و العلاقات، و تندحر القيم و تتبدل المثل، تنتصر المادة على الفكر، و تبدو قتامة المستقبل و بؤس العيش جاثمة على صدور كثير من البشر و عقولهم، و تتعرض البيئة للدمار الممنهج، والكل أصبح يتساءل إلى أين يسير العالم؟ إلى أين تسير البشرية؟ لقد جفت البركة، و بانت ضفادعها!!ا (لدكتور عبد الخالق أحمدون - السعادة الجوهرة المفقودة).
وهم السعادة في الحضارة الغربية
الحضارة الغربية المعاصرة خالفت المسيرة الإنسانية، و اعتمدت على ما يُنعَتُ بـ"الفصام النكد" بين الدين و العلم، أو ما يصطلح عليه باسم " العلمانية أو اللادينية "، مما صبغ مجتمعاتها باللاأخلاقية، و ظهور "التشكك الأخلاقي" الذي هو ناتج من فلسفة العلمانية، فباتوا يفسرون كل تقدم علمي و مجتمعي بأنه ثمرة إقصاء الدين، مما مهَّد السبيل لسيطرة الاعتبارات الدنيوية على الدينية، و وضعوا كل دنيوي في وضع مضاد لما هو مقدس و ديني، و هذه الضدية أسهمت في اضمحلال الأخلاق و سيطرة الفلسفات المادية على الحضارة برُمتها.
قال رئيس بلدية كليفلاند الأمريكية في كلمة ناقدة متهكما: " إذا لم نكن واعين، فيسذكرنا التاريخ على أساس أننا الجيل الذي رفع إنسانا إلى القمر، بينما غائص إلى ركبتيه في الأوحال و القاذورات ". ه‍ذه الكلمة تعبر بوضوح عن أزمة الحضارة الغربية المعاصرة في تضخم التراكمات المادية و العلمية و التكنولوجية من جانب، و تدهور القيم و الضوابط الإنسانية من جانب آخر.
فبعد أن كان الجنس و الجسد يخضعان للثقافة السائدة و التي يساهم في تشكيلها الدين و العرف الاجتماعي (كان القرن التاسع عشر قرن الحب الرومانسي ، و كان شعاره "الحب يجعل العالم يدور" ، و رؤيته الجوهرية أنه لا يوجد ما هو أهم من عاشقين يعيشان في سعادة ، و كانت الأعمال الأدبية حافلة بذلك)، أصبح الجسد و الجنس في حضارة الغرب المعاصرة هما الثقافة السائدة بالتحالف مع العقل المادي الساعي لتعظيم اللذة و الربح و تقديمهما على كل هدف آخر ، و يمكن الحديث اليوم عن عشرة ملايين أمريكي مصابين بإدمان الجنس، بمعنى عدم القدرة على السيطرة على السلوك الجنسي !
إن الجنس و ذروته المتمثلة في "الشبق" هو قمة التحقق لمبدأ اللذة "هنا، و الآن"، و يمكن الحديث عن "الشبقية" أو قمة النجاح و اللذة و التحقق كهاجس مهم من هواجس إنسان العالم المعاصر ؛ فإن الجنس هنا يحقق التغطية على مشاعر و تساؤلات وجودية مقلقة و غير مرغوبة عن جدوى الحياة و معناها، و يمثل إمكانية كبرى للهروب من مشاكلها، علاوة على البهجة التي يشيعها مثل: " المخدر اللذيذ القاتل " ، و ليس من قبيل المصادفة أن تعرض المجلات التي تتناول فنون الجنس و الجسد تحت عنوان life style أي "أسلوب حياة" ، و هنا نجد أن الجنس تعدى كونه نشاطاً إنسانياً منضبطاً إلى "نمط حياة"و هذا هو وهم السعادة في الحضارة الغربية! (موقع إسلام ويب).
و نتيجة لذلك شهدت المجتمعات الغربية جنونًا جنسيًّا خطيرًا، سواء في عالم الأزْياء و التجْميل، أو في عالم الكتُب و الأفلام، أو في عالم الواقِع على كلِّ صعيد، حتَّى غدا الجِنْس الشُّغل الشَّاغل لمعظم أفراد المجموعة البشريَّة؛ بل أضْحت مُمارسته و الإغْراق فيه قمَّة الأمنيات لدى كثيرٍ من النَّاس.
قال الدكتور البار محمد علي البار المستشار الصحّي لرابطة العالَم الإسلامي: "إنَّ الأمر وصل إلى تعْليم الأطْفال مُمارسة الجِنْس في سنٍّ مبكِّرة و من خلال المدارس، تحت دعاوى الثَّقافة الجنسيَّة..." (مجلة السبيل الأردنية).
و رغم هذه الحرية الإباحية التي يكفلها ميثاق حقوق الإنسان و يسهر على حمايتها قانون الدولة، فقد عرفت هذه المجتمعات كثرة جرائم الاغتصاب. فقد تصدرت الولايات المتحدة قائمة الدول التي ترتكب فيها جرائم الاغتصاب في العالم، تليها جنوب أفريقيا ثم السويد، وفق مقال نشره مركز "كاتيخون" للدراسات. و احتلت الولايات المتحدة المرتبة الأولى، و يذكر مكتب إحصاءات العدل في الولايات المتحدة أن 99% من المغتصبين ذكور. و 91% من ضحايا الاغتصاب إناث و 9% ذكور. و وفقاً للدراسة الاستقصائية الوطنية لمكافحة العنف ضد المرأة، فإن واحدة من بين كل ست نساء تتعرض للاغتصاب، و تحدث معظم حالات الاغتصاب في الولايات المتحدة في المنازل ( موقع عربي sputnik).
و قد أدَّى التدَهور في العلاقات الجنسيَّة أن هاجَمت الحركة النسويَّة نظام الأسرة، و اعتبرتْه مؤسَّسة قهْر المرأة جنسيًّا، و طرحت الشّذوذ الجِنْسي كبديلٍ للزَّواج، و مُخلّص للمرأة من سيْطرة الرَّجُل، و في بداية الخمسينيَّات طالبت الحركة النسويَّة بشرعيَّة مُمارسة الشُّذوذ الجِنسي قانونيًّا، و هكذا حدث الانتِقال من المساواةِ إلى الاستعلاء ثمَّ الاستِغْناء.
إن إبعاد الدين عن مجالات الحياة في المجتمعات الغربية كان - و لا يزال - من أهم الأسباب التي أدت إلى الإفلاس و الحيرة و الضياع.
و مما نتج، بسبب ذلك، من القاذورات الغربية ما يلي:
1- الولوغ و الانغماس في الخمور و الكحول و الإدمان على المخدرات.
2- الأمراض العصبية و النفسية.
3- الجرائم البشعة بمختلف أنواعها كالسرقات، و الاغتصاب، و الإجهاض، و القتل و غيرها.
4- تفكك الأسرة لكثرة الطلاق بسبب انعدام الإخلاص الزوجي و تفشي ظاهرة العشيق و العشيقة.
5- اتتشار ظاهرة الأمهات العازبات (تحقيق الأمومة خارج الزواج).
6- تأجيج الغرائز الجنسية بين الجنسين (المواقع الإباحية و المجلات و الأفلام و الجنس بالتعري أمام كاميرا الهاتف أو مواقع الأنترنت و الألعاب الجنسية).
7- زنا المحارم.
8- الشذوذ الجنسي أو الجنس المثلي.
9- الجنس مع الحيوانات.
10- التبادل الجنسي للأزواج .
11- نوادي و فنادق الدعارة المخصصة للسياحة الجنسية.
12- انتشار الأمراض المخيفة كالزهري، و السيلان، و أخيراً يبتلي الله جلت قدرته تلك المجتمعات بالطاعون الجديد و هو مرض "الإيدز".
13- الانتحار.
لقد قدمت الحضارة الغربية للإنسان كل وسائل الراحة و كل أسباب التقدم المادي، إلا أنها فشلت في أن تقدم له شيئاً واحداً و هو السعادة و الطمأنينة و السكينة، بل العكس قدمت للإنسان هناك مزيداً من التعاسة و القلق و البؤس و التمزق و الاكتئاب، و ذلك لأن السعادة و السكينة أمور تتعلق بالروح، و الروح لا يشبعها إلا الإيمان بخالقها، و الالتزام بأوامره و اجتناب نواهيه؛ قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ } [الفتح:4] أي جعل الطمأنينة و الوقار في قلوب المؤمنين الذين استجابوا لله و لرسوله، و انقادوا لحكم الله و رسوله، فلما أطمأنت قلوبهم بذلك و استقرت، زادهم إيماناً مع إيمانهم (موسوعة المذاهب الفكرية المعاصرة).
علم النفس الإيجابي و السعادة
بدأ علم النفس الإيجابيPositive Psychology على يد مارتن سليجمان Martin Seligman ، رئيس جمعية علماء النفس الأمريكيين عام 1998. يهتم هذا العلم بالدراسة العلمية لما يحقق السعادة للناس.
يعرف علم النفس الإيجابي بأنه: الدراسة العلمية للسعادة الإنسانية، فهو علم السعادة و الانفعالات الإيجابية، و هو لا يحدثك عن القلق و حمايتك منه، و لكنه يهتم ببناء الأمن النفسي لديك، و لا ينبهك و يحذرك من مخاطر الاكتئاب، إنما يجعل لحياتك معنى و يحدثك عن السعادة و الانفعالات السارة، و لا يكشف لك عن نقاط ضعفك، إنما يكشف لك نقاط قوتك التي ستحميك من نقاط ضعفك.
رغم أن كثيرا من الباحثين و المختصين في علم النفس في بلاد المسلمين قد هللوا و احتفوا بعلم النفس الإيجابي، و رأوا فيه تقدما و طفرة جديدة في علم النفس، فقد تعرض علم النفس الإيجابي لانتقادات قوية أهمها:
- يؤكد عدد كبير من الباحثين اليوم أن 50% من التغيرات المزاجية تحدِّدها الوراثة سلفًا، حتى إن الظروف المسؤولة عن فرحنا أو حزننا، باستثناء الصدمات القوية، لا تبدِّل مزاجنا إلا مؤقتًا، لنعود بعد نحو ثلاثة أشهر من حصولها، إلى حالتنا العاطفية الطبيعية.
- ليس لدى علم النفس الإيجابي إطار نظري شامل لإرشاد نفسه.
- علم النفس الإيجابي يؤكد القيم الفردية و التوافق مع نظام القيم الغربي القائم على أساس الطبقة الوسطى الغربية التي حملت الإرث الديني لعهود طويلة، ما منعها من الشعور بالسعادة و حرَّم عليها التعامل مع المشاعر الإيجابية، و هنا يكمن التعميم الذي وقع فيه علم النفس الإيجابي من خلال تعميم نظرية السعادة، و إنكار التعاسة على باقي الثقافات و الأفراد حتى لو كانت جزءاً من مكوناتهم الاجتماعية و الشخصية.
- بعض الباحثين انتقد علم النفس الإيجابي بأنه لا يقدم جديدًا مختلفًا عن الحكمة القديمة؛ مع أنه مَنَحَ انطلاقة جديدة لمبدأ قديم كان يسمي السعادة “الحياة الجيدة”، التي عدَّها أرسطو ثمرة فضيلة و هي: أن نعرف كيف نحيا” ( صفوان قسام - مركز دراسات و أبحاث مينا).
نظرية القبعة
هل استمعت يومًا لمحاضرة تنمية بشرية؛ فأخبرك المحاضرُ أن تقف أمام المرآة؛ لتُخبرَ نفسك أنك جميلٌ، و قوي، و أن أصدقاءك يحبونك، و أن لديك أسرةً سعيدة، و أنك أكفأ شخصٍ في عملك، و أن كل مشاكلك واهيةٌ، و هى من صُنع خيالك، و أن هذه الطريقة ستساعدك على حلها؟ حسنًا، هل هو على حق؟ هل نظرته صحيحة للبشر؟ هل هذا ما تَصلُح به الحياةُ حقًا؟.
يُخبرنا عالم النفس جيمس بافلسكي James Pawelski عن طبيعة علم النفس الإيجابي؛ فيشبِّه الأمرَ بقبعتين خارقتين: قبعة حمراء، إذا ارتداها الإنسان؛ يكون عنده القوة لمحاربة الفقر، و الظلم، و الجوع، و العنف، (أي إزالةِ السوءِ)، بينما هناك قبعة خضراء، تكمُن قوتها في القدرة على إنماء التناغم، و العدل، و التفاهم، (أي إضفاءِ الخيرِ).
و على الرغم من أن الأغلبية إذا خُيِّرت؛ ستختار القبعة الخضراء، إلَّا أنه يخبرنا أن: “الإيجابية لن تتحقق إلا بالتوازن بين القبعتين”؛ فمواجهة المشاكل، و المخاطر، و الوعي بها،و حلها؛ هو الطريق غير المباشر لتحقيق الازدهار".
و في مقالته (تعريف الإيجابية في علم النفس الإيجابي) المنشورة على (Journal of positive psychology)؛ يُخبرنا عن بعض أسس النظرة الصحيحة للأمور، التي تساعدنا على تقييمِها بما يحقق الإيجابية النفسية الواقعية؛ حيث تحدث لك كثيرٌ من الأمور دون أن تعيَّ ذلك؛ لنقص علمٍ، أو حكمة، و منها:
1- عدم إصابتك بأشياء لا تريدها (كالمرض)، هو على نفس الدرجة من الإيجابية، كحصولك على الأشياء التي تمنيتها، كالتعليم! مثلًا: يقضي مرض السل على 1.7 مليون إنسان سنويًا، و في عام 2014 أصاب 9 ملايين إنسان، لم تكن أنت منهم، مات منهم 1.5 مليون، بعد أن قاسوا مرارة المرض. و يلقى 1.25 مليون شخص سنويًا حتفَهم؛ نتيجة لحوادث المرور، ليس منهم أحدٌ من أحبابك، و عشرات الملايين من المصابين بالسرطان، سنويًا، يبدأ صراعهم مع المرض. فعدم إصابتك بذلك، هى ناحية إيجابية تتطرق إليك كل يوم، و لو لم يتحسن وضعك العادي، فتلك منحة العافية من الله تصيبك.
2- لا تعني المشاعر الإيجابية الأمر الحسن بالضرورة، و لا تعني المشاعر السلبية السوء بالضرورة:
- فقد ترى أن قضاء وقتٍ طويل في التنزه مع أصدقائك، أو مشاهدة مجموعةٍ من الأفلام؛ هو مما يجلب لك السعادة، و الراحة النفسية، لكن الانشغال بدراستك -إن كنت تدرس-، أو عملك، أو الاعتناء بأطفالك؛ هو قطعًا، الأنسب لك، و الأكثر إيجابية عمليًا.
- لعل الخير يكمُن في الشر، لكن لنقصِ حكمةٍ منك؛ قد لا تعي جانب الخير. فمثلًا، رأيت شخصًا ينتزع أحشاء إنسانٍ آخر، يأخذ سكينًا، و يشق بطنه؛ و ينزل الدم، و يبدأ بالاستئصال! فترى هذا شرًا مطلقًا، لا يمكنك أن ترى فيه وجهَ خيرٍ، لكن عند معرفتك لمهنة الطبيب الجراح، و أن ذلك الطبيبٌ، يستأصل الزائدة الدودية الملتهبة من المريض؛ فستعلم أن الأمر برمته خيرٌ.
الإيجابية في الإسلام
و بنفس تلك النظَّرة، يصبح تقبُّلك لأهمية وجود توازن في مشاعرك سهلًا؛ فلا تنفر من ��ل ما يبث فيك مشاعرًا سلبية (الدراسة، أو الصبر على ترك معصية)، و لا تستحسن كل ما يبث فيك المشاعر الإيجابية (أمور قد تضرك بإضاعة كثيرٍ من الوقت؛ أو لأسبابٍ أخرى)، و لكن كما لكل مقامٍ مقال، فلكل موقف حياتي ميزانه العاطفي؟.
فلنفترض أن العالَم أصبح تسوده المشاعر الإيجابية فقط؛
فما هو نوع العالم الذي يُرى فيه الظُلم، فلا يُغضب له؟!
و يَفعل المرء فيه الجرائم، ولا يشعر بالذنب؟! و يموت الناس، فيذهب ذويهم للاحتفال؟!
أي إنجازٍ سيُحرَز، في حالة عدم الخوف من الخسارة، و الفشل؟ هل ستبقى إنسانًا! و أي اختبارٍ أنت فيه من الله إذًا؟!
يريدُ الجميع أن تغمره (دائمًا) مشاعر الأمن، و السلام، و الرضا، و الفرح، لكن! ليس هكذا تستقيمُ الحياة.
و مَن أعلمُ بك من خالقك؟ { ألَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } ]الملك:[14].
علم أنك قد تيأس مما يصيبك؛ فبشرك: { وَ لَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَ الْأَنفُسِ وَ الثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [البقرة:155]، و بشرك باليسر في العسر: { فإن مع العسر يسرًا . إن مع العسر يسرًا } [الشرح:5-6]، و قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ، إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ، و ليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ، إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ؛ شَكَرَ؛ فكانتْ خَيرًا لهُ، و إنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ؛ صَبرَ؛ فكانتْ خَيرًا لهُ ) [رواهُ مُسْلِمٌ].
علم أنك قد تُخطئ تقديرَ الأشياء، و الحكم على خيريَّتِها، و شرها؛ بسبب جهلك ببواطنها، و عواقبها الغيبية في الدنيا و الآخرة؛ فطمئنك بقوله تعالى:{ وَ عَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَ عَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَ هُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [البقرة:216]؛ حتى لا تحزن على شيءٍ فاتك، أو تكره ما قُسم لك، تمامًا مثل الجراحة، التي هي خير، رغم ظاهرها!.
و هذا أحد الأسباب العديدة، بأن سورة الكهف نورٌ للمؤمن بين الجمعتين (الأحداث التي جرت مع سيدنا موسى عليه السلام و الخضر).
عَلِمَ أنك تحتاج للترغيب، و الترهيب؛ ليَصْلُحَ حالك، و تبتعد عما تراه يبث فيك شعورًا جيدًا، لكنه في النهاية أمر سيء، فدون الترغيب و الترهيب؛ قد لا تقاوم ذلك الشعور، فقال تعالى: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } [الحجر:49-50].
فعلاقتنا برب العالمين بين الخوف و الرجاء، خوفٌ عند الإقبال على المعصية، و رجاءٌ عند التوبة، و يقول تعالى أيضًا:{ وَ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن:46]، فالخوف هنا إيجابي، ينجِّى من المهلكات، و يُبعِّد عن الموبقات، و يُقرِّب من الطاعات؛ فيكون سببًا في النجاة، و الفوز العظيم بالجنات.
فمن يَسخر من القانون الإلهي في الثواب و العقاب، بدعوى أنه يُنقِص من القيمة الأخلاقية؛ هو جاهلٌ بالنفس البشرية، و ما طُبعت عليه، و غافلٌ عن طبيعة تلك الحياة الدنيا، و مغترٌ بالمادية، التي لا يمكنها أن تُعَّرِف -فضلًا عن أن تمنع- الخير و الشر.
في النهاية، أنت تحتاج للتوازن في حياتك؛ فلا تبتئس بما تَلقى أو تشعر، بل تصالح معه، و خذ بأسباب الازدهار، و حوِّل السلبي منه لإيجابي. فلولا الشرُ؛ ما عُرف الخير، و لولا الشدةُ، ما عُرف الرخاء، و كما قال المتنبي: “و بضدها تتبين الأشياءُ”.
ثم بعد التوازن و الرضا، نأتي لحل المشكلات. و التى يكون بعضها شخصيًا، و بعضها يحتاج حلًا مجتمعيًا؛ قال تعالى: { و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة و اعلموا أن الله شديد العقاب } [الأنفال:25] (إسراء لطفي - الباحثون المسلمون).
الانهزام الفكري للشباب المسلم
يتعرض الشباب المسلم، كما حال باقي فئات الأمة، لحملة شعواء منظمة بهدف إحباط معنوياتهم، و محاولة نشر ثقافة الهزيمة و اليأس فيهم ليسهل اختراقهم و بالتالي تطويعهم و إخضاعهم لقيم الحضارة الغربية، و هنا يتحقق للغرب ما كان يصبو إليه منذ زمن بعيد لقتل روح الشباب المسلم، و حينها أي أمل لنهضة أمة اغٌتيلت روح الشباب فيها و أحبطت معنوياتهم؟
أرادوا شباباً لا يعرفون شيئاً عن تاريخ الإسلام و المسلمين، شباباً يعرفون عن ميسي و رونالدو أكثر ما يعرفونه عن خالد بن الوليد و عمر بن عبد العزيز. و أصبح راسخا في وعي هذه الفئة من الشباب أن لا سبيل للتقدم إلا بالأخذ من نبراس الحضارة الغربية و أن حضارتنا و قيمنا قد عفا عليها الزمن.
لقد عمل الغرب و أمريكا على تدمير الجانب الأخلاقي عند الشباب المسلم خصوصا، و الترويج من خلال ٱلتة الإعلامية بأن الحضارة الغربية هي وطن الرفاهية و السعادة.
كان من أهم الأعمال التي حرص عليها أعداء الإسلام هو إدخال أفلام الجنس إلى غرف نوم المسلمين، و في ذات الوقت ترويج المخدرات، و تيسير سبل وصولها للشباب خاصة، و قد كان ـ و ما زال ـ يوزع في هذه البلاد مجلات و أشرطة لأفلام تجارية و إباحية بأسعار زهيدة في الوقت الذي تتكلف أضعاف أضعاف السعر الذي تباع به، مما يصدق قول الله تعالى فيهم: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }[الأنفال: 36].
و قد تزامن هذا مع محاولة إحداث ثورة في حياة المرأة و طبيعة حياتها في المجتمع الإسلامي و إخراجها للشارع بأي وسيلة و تحت أي مسمى؛ إذ هو أول و أيسر طرق الفساد، ثم بعد ذلك المناداة بالحرية على الطريقة الغربية و الأمريكية التي لا تتناسب بأي حال مع المجتمع المسلم.
و قد أدت تلك السياسة بالفعل إلى انزلاق الشباب في تلك المسالك الخبيثة و التردي في تلك الأوحال من الرذيلة، حتى يمكن أن نسميها ظاهرة في أكثر بلاد المسلمين، و صار أكثر الشباب في حالة من الانهيار الأخلاقي و الخمول و اللامبالاة لواقع الامة و لا حتى لمراد الله من خلقه.
على الشباب المسلم أن يفهم حقيقة المعركة، و أن يعلم أن ما تمر به الأمة إنما هو نتاج و ثمار تعرضهم لعقود من التجهيل و التغريب، و الهجوم على ثقافتنا و مبادئنا و طرائق تفكيرنا، و الهجوم كذلك على كل ما هو إسلامي و كل ما هو أخلاقي، إنها حرب ضروس لم تضع أوزارها و لا للحظة، و كان لابد أن تأتي ببعض ثمارها: سنة من سنن الله في الكون.
غير أن من هذه السنن أيضا أن هذا الدين يمرض و لا يموت، و أنه باق ببقاء الدنيا، و كم طاله و ناله من أعدائه ما لو كان مع دين آخر لقضي عليه منذ قرون طويلة، و لكن الله عز و جل كتب لهذا الدين الغلبة، و لأهله النصر إذا تمسكوا به و عملوا بما فيه (موقع إسلام ويب).
السعادة في الرؤية الإسلامية
ماهي السعادة؟
إنها صفاء نفس، و طمأنينة قلب، و انشراح صدر، و راحة ضمير، من الداخل تأتي و ليست تأتي من الخارج.. لفظ حلو يبعث على الروح و الهمة و النشاط، كلمة سحرية لها رنين رقيق.. ضمير نقي.. نفس هادئة.. قلب شريف.. ميراث رضواني قد يجدها الفقير و يحرم منها الغني.. حقيقة من الحقائق لا يتوصل إليها عن طريق الخيال.
لكن يا ترى ماذا تعني السعادة في نظر الناس؟!
في استفتاء أجري على حوالي 16 ألف إنسان، سئلوا فيه: ما هي السعادة؟ فكانت إجاباتهم كالتالي:
أولاً: السعادة هي الحب (35%) تقريباً.
ثانياً: السعادة هي الرضا(28%).
ثالثاً: السعادة هي الصحة(17%).
رابعاً: السعادة هي الزواج(7%).
خامساً: السعادة هي المال(5.5%).
سادساً: السعادة هي الأطفال، حوالي (4%).
و لقد ذكر الأستاذ العقَّاد قصة لزميل له رسام حاول أن يتخيل السعادة أي شيء تكون، فتصورها في صورة فتاة مراهقة تركض ذات اليمين و ذات الشمال، في قوة و دعة و اندفاع، و شعرها يتطاير يمنة و يسرة.
يقول: فاستدركت عليه و قلت له: إنني أتخيل السعادة و هي تجاوزت هذا العمر، فهي ليست في فترة الغرارة و الجهالة و الصبا و الاندفاع، و إنما هي في فترة التجربة و القوة و الخبرة، و أيضاً ليست السعادة شيئاً كهذا، إن هذا يمكن أن يعبر عنه بالفرح أو بالقوة أو بالاندفاع أو بالمراهقة، أما السعادة فإنها شيء فيه معنى الرضا و الاكتفاء، فلا بد أن تكون ملامحها راضية هادئة حزينة مؤمنة، و لا بد من ألم تلطفه الذكرى، و لذة يطهرها الحنو، و نشاط يلوح عليه التعب و الإعياء.
السعادة ذوق و وجد و إحساس، ليست معنىً علمياً نظرياً، و لا شيئاً يرسم بالحدود و التعريفات كما ترسم المسائل العلمية. قد تطرق السعادة باب الإنسان فيعرض عنها و هو أحوج ما يكون إليها، و من ذلك مثلاً: سعادة الطفولة و الصبا، فإن الكثيرين يستمتعون بالسعادة و لا يعرفون إسمها.
إن كانت السعادة بالمال مثلاً فالجبال و المناجم أقوى و أكثر منا سعادة.
و إن كانت بالجمال و الزينة و النُضرة فالورود و الشقائق أجمل و أتم زينة.
و إن كانت بالبطش و القوة و الطغيان و جهارة الصوت، أو قوة الشباب و الجنس، أو كثرة الأكل أو فورة الغضب فالوحوش أقوى و أتم سعادة منا.
أما إن كانت السعادة في الأخلاق العالية، و الروح المهذبة، و القول الرشيد، و الصنعة الرفيعة، فإن الإنسان هو الأجدر بها ( الشيخ سليمان العودة- صناعة السعادة).
السعادة هي الرضا
الرضا هو تجسيد للسعادة الدنيوية التي ينعم بها الإنسان المؤمن في حياته الدنيا، فإذا أدرك المؤمن و وعى قيمة نعمة واحدة من نعم الله تعالى، فإن هذا الإدراك سيغمر قلبه بالرضا.
فنعمة العافية و السلامة في أبداننا و نفوسنا، و هي في الحقيقة ليست نعمة واحدة بل هي مجموعة عظيمة من النعم إجتمعت في نعمة العافية، و التقرب إلى الله تعالى بنعمة العافية هو شكرها قولا و عملا، ظاهرا و باطنا.
روى الإمام أبوداود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي و حين يصبح: ( اللهم إني أسألك العافية في الدنيا و الآخرة، اللهم إني أسألك العفو و العافية في ديني و دنياي و أهلي و مالي. ).
السعادة هي الأمن
إلى جانب النعمة الكبرى المتمثلة في العافية، هناك نعمة الأمن، و الأمن من أعظم نعم الله على عباده بعد نعمة الإيمان و الإسلام، و لا يشعر بهذه النعمة إلا من فقدها، كالذين يعيشون في البلاد التي يختل فيها النظام و الأمن، أو الذين عاصروا الحروب الطاحنة التي تهلك الحرث و النسل، فهم ينامون على أزيز الطائرات و أصوات المدافع، و يضع الواحد منهم يده على قلبه ينتظر الموت في أي لحظة، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، أفلا ينبغي أن نتقرب إلى ربنا عز و جل من خلال شكر هذه النعمة!
و في الحديث الذي يرويه سلمة بن عبيد الله بن محصن، عن أبيه - و كانت له صحبة - قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا ) [رواه البخاري].
قال نفطويه:
إذا ما كساك الدهر ثوب مصحة
و لم يخل من قوت يحلى و يعذب
فلا تغبطن المترفين فإنه
على حسب ما يعطيهم الدهر يسلب
في الحديث الذي رواه البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ( انْظُرُوْا إِلَى مَن أَسْفَلَ مِنْكُم، وَ لاَ تَنْظُرُوْا إِلَى مَن هُوَ فَوْقَكُم، فَهُوَ أَجْدَرُ أَلاَّ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ ).
فالباعث على الرضا و القناعة هو النظر إلى الأدنى حالا و على جميع الأصعدة، أما النظر إلى من هو أفضل و أرقى حالا سيؤدي إلى الأخلاق السلبية و الأطماع التي تتنافى مع الإيمان و تميت القلب، فيصبح الإنسان أنانيا في طمعه، لا يشبع و لا يشكر هذا إذا لم يؤد سلوكه المنحرف إلى ارتكاب المعصية و المحرمات.
السعادة هي الحياة الطيب��
أن السعادة مطلب كل إنسان، و رغبة كل عاقل، و قد وعد الله المؤمنين الطائعين بالحياة السعيدة، فقال سبحانه:
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
[النحل:97]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( الحياة الطيبة هي السعادة، و تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت ) [تفسير ابن كثير].
السعادة سعادة القلب
و أهم هذه الوجوه و أولها و أكرمها و أعظمها؛ سعادة القلب و نعيمه، و بهجته و سروره بالإيمان بالله و محبته، و الإنابة إليه و طاعته، فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحب القلب الطائع.
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4].
و تلك السكينة هي إحدى ثمرات إيمان القلب و معرفته بالله؛ و هي التي قال أحد الصالحين أنه لو علم بها الملوك لبارزونا عليها بالسيوف، هي سعادة النفس.
و من أراد سعادة الدنيا فليعمر قلبه بأعمال القلوب اخلاصاً و محبة ورجاءً لله و توكلاً عليه فأنوار هذه العبادات القلبية تبدد كل هم أو حزن أو ضيق، فهم في جنة في الدنيا قبل جنة الأخرة كما قال ابن تيمية (إنّ في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، قالوا: و ما هي؟ قال: إنها جنة الإيمان).
و يستغرب المؤمنون من يعيش في هم و غم وحزن و هو يستطيع أن يعيش في جنة الدنيا؛ قال مالك بن دينار رحمه الله: "مساكين أهل الدنيا خرجوا منها و ما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل له و ما أطيب ما فيها، قال، معرفة الله عز وجل و محبته"..
قال ابن القيم : "هناك محبتان. محبة هي جنة الدنيا، و سرور النفس، و لذة القلب، و نعيم الروح، وغذاؤها و دواؤها، بل حياتها و قرة عينها، وهي محبة الله وحده بكل القلب. و محبة هي عذاب الروح، و غم النفس، و سجن القلب، و ضيق الصدر، و هي سبب الألم و النكد و العناء، و هي محبة ما سواه سبحانه" [ابن القيم- زاد المعاد].
و إذا سعد القلب طابت حياة الجوارح، فمن أكثر من الصالحات و استزاد من الحسنات، نال السعادة في الدنيا و الفوز في الآخرة؛ قال الله تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ } [الرعد:9]، قال ابن عباس: ( نالوا فرحا و قرة عين ) أي مصدر سعادة. و أما حسن المآب فهو في جنة عرضها السموات و الأرض، فيسعدون في دنياهم و آخرتهم.
السعادة هي الإيمان بالقدر
من أهم مقومات سعادة الفرد و راحته، و سكينة فؤاده و طمأنينته، الإيمان بالقدر، فهو أحد أصول الإيمان، و حقيقته أن يحسن المؤمن الظن بربه في السراء و الضراء، و الشدة و الرخاء، فيطمع فيما عند الله و يرجو رحمته، فمن ابتلي بشيء فلا يضجر و لا يجزع، بل يأخذ بأسباب النجاح، فيجتهد و يدعو، و يعمل و يسعى، فإذا حصل غير الذي أراد فلا يحزن و لا يتسخط على القدر؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( المؤمنُ القويُّ خيرٌ و أحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ ، و في كلٍ خيرٌ احرصْ على ما ينفعُك و استعنْ باللهِ و لا تعجِزنَّ ، و إن أصابَك شيءٌ فلا تقلْ : لو أني فعلتُ لكانَ كذا و كذا ، و لكن قلْ قدَّرَ اللهُ و ما شاءَ فعلَ فإن لو تفتحُ عملَ الشيطانِ ) [أخرجه البخاري].
و يفعل الخير و يحرص على عدم فواته، فإن فاته أمر من أمور الدنيا، فليعبد الله و ليصبر و يوقن أن الله هيأ له الأفضل؛ عن صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، و ليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، و إنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له ) [صحيح مسلم].
و على المؤمن أن يستبشر بقول الرسول صلى الله عليه و سلم: ( و اعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً و أن النصر مع الصبر و أن الفرج مع الكرب و أن مع العسر يسراً ) [رواه عبد الله عباس- أخرجه عبد الحق الإشبيلي].
السعادة هي القناعة
فمن امتلأ قلبه رضا بالقدر، فاض قناعة و طمأنينة و غنى و أمنا، فإن القناعة من أسباب السعادة، و حقيقتها الرضا و التعفف، و ترك السؤال و التشوف، فذلك هو الغنى الحقيقي؛ قال الرسول صلى الله عليه و سلم: ( يا أبا هريرةَ ! كُنْ وَرِعًا تَكُنْ من أَعْبَدِ الناسِ ، و ارْضَ بما قسم اللهُ لكَ تَكُن من أَغْنَى الناسِ ) [رواه أبو هريرة - صححه الألباني].
فإن من قنع بما قسم الله له و لم يطمع فيما في أيدي الناس، أصبح غنيا عنهم؛ قال صلى الله عليه و سلم: ( ليس الغنى عن كثرة العَرَض، و لكن الغنى غنى النفس ) [رواه أبو هريرة - صححه الألباني].
و قال ابن تيمية رحمه الله: فغني النفس الذي لا يستشرف إلى المخلوق؛ فإن الحرَّ عبدٌ ما طمع، و العبد حر ما قنع.
قال تعالى: { وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَ لَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } ]الشورى:27[، لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحملهم ذلك على البغي و الطغيان ، من بعضهم على بعض، أشرا وبطرا.
و قال قتادة: كان يقال: خير العيش ما لا يلهيك و لا يطغيك (تفسير ابن كثير).
الكثيرون يرون القناعة خيراً من التوسع في المال، فالمال يسعد أمثال أبي بكر و عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص و طلحة بن عبيد الله؛ الذين ركبوا المال كما يركبون الدواب، أو قعدوا عليه كما يقعدون على الفرش، فجعلوه ذريعة إلى رضوان الله عز و جل، و الإحسان إلى خلقه، و المسابقة إلى جنةٍ عرضها السماوات و الأرض.
السعادة هي الزواج
قال الله تعالى:{ وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَ رَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [تلوم:21]؛ "و جعل بينكم مودة و رحمة" قال ابن عباس و مجاهد : المودة الجماع و الرحمة الولد (تفسير القرطبي).
القلب هو مصدر السعادة و ليس البنك أو المعدة، فكوخ تضحك فيه المرأة خير من قصر تبكي فيه:
لبيت تضحك الأرياح فيه
أحب إليَّ من قصر منيف
و لبس عباءة و تقرَّ عيني
أحب إليَّ من لبس الشفوف
إن المرأة السعيدة هي من تجد رجلاً تحبه و يحبها، و خير ما يقتني الرجل بعد تقوى الله عز و جل المرأة الصالحة، الوفية، المصونة، العاشقة!
قال الله تعالى: ﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ ﴾ [النساء:34].
و روى ابن جريرٍ و البيهقيُّ من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ( خَيْرُ النِّسَاءِ الَّتِي إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَ إِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَ إِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِكَ وَ نَفْسِهَا، و قرأ صلى الله عليه و سلم الآيةَ ).
و تستطيع المرأة أن تنقل لزوجها و أبنائها السعادة التي تقل في الرجل الخشن من خلال صفة الرحمة التي تملك المرأة منها ما لا يملكه الرجال.
السعادة الزوجية مرتبطة بالمحبة حين تكون المحبة مظللة بالقاعدة الشرعية، قائمة على الكتاب و السنة. فالعلاقة الزوجية في الإسلام هى علاقة خاصة، علاقة دافئة، علاقة حميمة بين زوجين.. هى علاقة تبدأ باسم الله و بكلمة الله، يباركها أهل السماء و الأرض و يفرح بها الكون. علاقة مقدسة، علاقة مليئة بأجمل مشاعر و أعلى درجات من اللذة التى خلقها الله، فهي علاقة بناء مشاعر الحب فى الحياة، و هي علاقة ينتج عنها بعد ذلك قدوم طفل أو طفلة الى الحياة، أي علاقة بناء إنسان جديد تعمر به الحياة، فيمتلئ بيت الزوجية بالسعادة و الفرح.
و شرع الله تعالى الزواج لغاية سكون الكيان الإنساني من الاضطراب و الهوس الاكتئابي الناشئ عن الحرمان أو النقص، و لا يكون ذلك إلا بالأداء الحميمي بين زوج و زوجة يحب كل منهما الآخر، الذي يروي الروح و الجسد!
العلاقة الحميمية حالة مؤقتة تنتهى بمجرد إفراغ الشهوة، أما الحب فهو حالة دائمة تبدأ قبل إفراغ الشهوة و تستمر بعدها، فالشهوة تعيش عدة دقائق و الحب يعيش للأبد.
الحب غاية و الشهوة وسيلة، الحب شعور مقدس و الشهوة ( فى حالة انفصالها عن الحب) مدنسة، الحب في الزواج يمر عبر لذة حلوة طيبة تتلاشى في ساعة و يبقى الحب كالطير محلقا في سماء السعادة، و الشهوة الخبيثة النارية خارج الزواج لذتها ساعة و عذابها و ألمها و شقاؤها دهر.
فال الله تعالى: { وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } [المؤمنون]، عن ابن عباس، قال: نهاهم الل�� نهيا شديدا، فقال: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ فسمى الزاني من العادين.
فالحب مع الشهوة في الزواج مقدس، و الشهوة خارج الزواج مدنسة، لأنها فعل حرام، و لا يعقل أن تكون الشهوة المحرمة مقرونة بالحب؛ قال الرسول صلى الله عليه و سلم: ( لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي و هو مُؤْمِنٌ ) [رواه أبو هريرة- صحيح البخاري] فمن يزني لا يزني و هو متصف بالإيمان، أو ينزع منه نور الإيمان، فإذا زنى المسلم ذهب منه نور الإيمان و بقي في ظلمة ( الموسوعة الحديثية).
و لذلك فالحب مع الشهوة في الزواج عبادة و طاعة، و الشهوة خارج الزواج معصية و خطيئة؛ قال الرسول صلى الله عليه و سلم: ( أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُم مَّا تَصَدَّقُونَ بِهِ ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً ، وَ بِكُلِّ تكبيرةٍ صدقةً ، و بِكلِّ تحميدةٍ صدقةً ، و بِكلِّ تهليلةٍ صدقةً ، وَ أَمرٌ بِالمَعرُوفِ صَدَقَةٌ، و نَهي عنِ المنكرِ صدقةٌ ، و في بُضْعِ أَحَدِكُم صدقةٌ. قالوا: يا رسولَ اللهِ أَيَأْتِي أحَدُنا شَهْوَتَهُ وَ يكونُ له فيها أجْرٌ ؟ قال: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الحرامِ ألَيْسَ كان يكونُ عليْهِ وِزْرٌ ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَها فِي الْحَلَالِ يكونُ لَهُ أجرٌ ) [رواه أبو ذر الغفاري- صححه الألباني]،
قوله صلى الله عليه و سلم: ( و في بضع أحدكم صدقة ) هو بضم الباء، و يطلق على الجماع، و يطلق على الفرج نفسه، و كلاهما تصح إرادته هنا، و في هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة و معاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة و منعهما جميعا من النظر إلى حرام، أو الفكر فيه، أو الهم به، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة (شرح النووي).
الحب في الحياة الزوجية يباركه الله تعالى و يتقبله في الأعمال الصالحة، و الإيمان يدعو الزوج أن يحب زوجته بصدق، فلا ملل و لا رتابة في هذا الحب، الحب الزوجي يتنامى و يربو، و في كل سن المرأة لها جمال، و هي عروس لها جمال، و هي أم، و هي جدة، و هي أكبر امرأة في الأسرة يسمونها عميدة الأسرة، لها جمال من نوع آخر..
قال الحسن البصري حين سأله رجل فقال : " يخطب ابنتي الكثيرون فمن أزوجها؟ قال زوجها ممن يتقي الله فيها فإنه إن أحبها أكرمها و إن أبغضها لم يظلمها " (الترمذي-كتاب المناقب).
إن الزوج بحبه لزوجته يبذر في قلبها بذور الأمان، و ثقة الزوجة في حب زوجها لها، و إدراكها لتقوى زوجها لربه و خوفه من خالقه و حذره من الظلم و عواقبه و ظلماته.. و كذا قدرته على تحمل مسؤولية بيته و أولاده، و هذا الإدراك لا يحدث بكلمة و لا في موقف و إنما من خلال المعايشة و العشرة و تكرار المواقف.
فإن الزوجة التي تستنتج من خلال معايشتها لزوجها أن الدين يمثل له منهجا في حياته العملية.. و أن الشرع هو قانونه الذي يقدسه و يرهب تجاوزه.. و أن الخوف من الله رادع له يحجزه عن ظلمه و يضع حدودا لغضبه.. و أن زوجها رجل بمعنى الكلمة.. هذه الزوجة تعيش في أمان و سعادة حقيقية مهما كانت ظروفها المادية صعبة و قاسية.
هذه هي عظمة الإسلام الدين الحنيف، الذي زين الله سبحانه به قلوبنا و ملأها بالإيمان و السعادة الحقيقية. أما حضارة الغرب فقد هوت بإنسانية إنسانها إلى حضيض الوحل، فوقع أسيرا للشهوة المحرمة أو وهم السعادة؛ قال الله تعالى: { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } [ الفرقان:44].
130 notes · View notes
tadkiraimania · 3 years
Text
Tumblr media
سألوني أتعشقها.. قلت بجنون.. قالوا أجميلة هي.. قلت أكثر مما تتصوّرون.. قالوا أين هي.. قلت في القلب و بين الجفون.. قالوا ما اسمها.. قلت: أمي فلسطين.. و من سواها تستحق أن تكون.
إطلالة على أرض فلسطين
تتبادر إلى الذهن أسئلة كثيرة، منها: متى كانت قضية فلسطين قضية شعب بعينه، أليست فلسطين ملكاً للعرب و المسلمين!؟ و لماذا و على الجانب الآخر و في أقصى الدنيا تخرج أصوات المنددين بالاعتداءات على الفلسطينيين و المؤيدين لقضية الأمة الإسلامية؟!.
كتب المفكر المغربي و عالم المستقبليات المهدي المنجرة رحمه الله مقالة حول محورية القضية الفلسطينية عند المغاربة قائلا: “فباعتباري مغربيا و عربيا و مسلما و إفريقيا، بل باعتباري فقط كائنا إنسانيا، لن أعتبر نفسي أبدا حرا ما دامت فلسطين محتلة، و ما دام هؤلاء الناس لم يسترجعوا كرامتهم” .
نعم إن فلسطين في قلوب المسلمين، تضخ دماء العروبة و الإسلام في عروقهم، و تجدد في أراوحهم حنينا خفيا إلى القدس و المسجد الأقصى الذي بارك الله تعالى حوله!
و بسبب ذلك فهي قضية المسلمين من دكار إلى جاكرتا، في الأمس و اليوم و غذا... إلى أن يرث الله سبحانه الأرض و من عليها.
و في خضم الأيام القليلة الماضية التي عشنا فيها أحداث فلسطين؛ قدم مرابطو القدس و حي الشيخ جراح و من ورائهم مقاومو غزة العزة ومنتفضو الداخل الفلسطيني، دروسا عظيمة و بليغة لكل مسلم غيور تنتفض نفسه لتطل على أرض فلسطين و تقترب أكثر من ملحمة: تحرير الأمة من ربقة الفساد و الاحتلال (ليكون الدين كله لله).
فال الله تعالى: { وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } [النساء:104]، و لقد رأينا المقاومين الفلسطينيين و لسان حالهم يقول: ليس قدرنا أن نتألم لوحدنا، و لكن "قتلانا في الجنة، و قتلاهم في النار"، و مهما شعرنا بآلام المقاومة فإن وراءها نصر من الله أو شهادة في سبيله، قال تعالى: { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران:139].
و في أجواء المقاومة المباركة!
وجدنا الأم التي تحمد الله على شهادة أولادها في غزة.
و وجدنا الشيخ الذي يصرخ في وجه قوات الشرطة على أسوار القدس.
و وجدنا الغني الذي فقد كل ماله في هجوم الصهاينة على برجه السكني في غزة فيحمد الله و يسترجع.
و سمعنا الطفلة التي تقول "لن نخضع لأعدائنا حتى لو قتلونا".
بل وجدنا العائلات التي تقف مع أبنائها في اللد و الرملة و صفد وأم الفحم.
ألا تذكرنا هذه الصور الرائعة من الجهاد بالتاريخ الإسلامي التليد حيث التحم الإيمان الراسخ و الجهاد الصادق في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل و نصرة الدين القيم؟!.
من الوحدة إلى التشرذم
لقد وحد الإسلام الأمة الإسلامية على خمسة روابط، توحدها و تؤلف بينها و هي العقيدة و الشريعة و الحضارة و الأمة و دار الإسلام.
و عندما كانت وحدة الأمة الإسلامية هي الحاضنة التي جمعت شعوبها و قومياتها و أجناسها و أقطارها، كانت وحدتها جسدا واحدا، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى، و كانت صيحة "و إسلاماه!" تجد الاستجابة من أقصى ديار أمة الإسلام.
و في ظل تلك الوحدة الإسلامية فتح المسلمون في ثمانين عاما أكثر مما فتح الرومان في ثمانية قرون، و قهر المسلمون أشرس الغزاة و أخطر التحديات من الصليبيين الذين شنوا حربا عالمية غربية على الإسلام و المسلمين، دامت قرنين من الزمان (489-690 ه) (1096-1291 م)، و التتار الذين كسر المسلمون شوكتهم ثم هداهم الإسلام فأصبحوا قوة ضاربة مدافعة عن ديار المسلمين.
و مع هذه الانتصارات و الفتوحات التي تحققت بوحدة المسلمين، مثل المسلمون في هذه الحضارة العالم الأول على ظهر الأرض لأكثر من عشرة قرون، بينما كان الغرب يغط في سبات الجهالة و الظلام.
فلما جاءت الغزوة الاستعمارية الأروبية الحديثة، التي بدأت بسقوط غرناطة في الأندلس (897ه/1492م،) و الالتفاف حول دار الإسلام، ثم ضرب القلب الإسلامي بحملة بونابرت (1213ه/1798م) و التهام أقاليمه تباعا، إلى ضربة إسقاط الخلافة العثمانية (1342ه/1924م)، فأحل الغزو الغربي التشرذم الوطني و القومي و القطري محل رابطة أمة الإسلام، و اشتغل كل شعب و كل قطر بتحرره الوطني عن قضايا غيره من شعوب أمة الإسلام.
و لتكريس و تأبيد هذا التشرذم القطري، و لإعاقة أية محاولة لنهضة تعيد الحياة و التكامل لجسد أمة الإسلام، قام الاستعمار الغربي بخلق الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، سرطانا غريبا ليقطع كل تفكير في وحدة أرض أمة الإسلام، و يهدد كل مشاريع النهضة و الوحدة للعرب و المسلمين (د. محمد محمد صالح - حقائق و ثوابت في القضية الفلسطينية).
فلسطين من بلفور إلى ترامب
إحتلت بريطانيا فلسطلين ستة 1917، و بعد انتهاء الانتداب البريطاني، في سنة 1948، إحتل الكيان الصهيوني فلسطين تنفيذا لوعد بلفور، ثم أصبحت القضية الفلسطينية عنوانا رئيسيا لدى الفكر القومي العربي في جميع الدول العربية، و كان مادة أساسية في دعاوي الانقلابات جميعها التي جاءت إلى الحكم بدءا من انقلاب جمال عبد الناصر عام 1952، ثم انقلاب عبد الله السلال في اليمن عام 1962، ثم انقلاب البعث في العراق و سوريا عام 1963، ثم انقلاب معمر القذافي في ليبيا عام 1969، ثم انقلاب جعفر النميري في السودان عام 1969 إلخ...
و عندما واجهت القضية الفلسطينية أطماع اليهود الصهاينة في تحويل "نبع الدان" و هو النبع الرئيسي الذي يزود نهر الأردن بأغلب مياهه منه عام 1963، و تبلورت تلك الأطماع بتحويل "نبع الدان" قبل أن يصب في نهر الأردن بأنابيب إلى صحراء النقب من أجل سقايتها، و تحويلها إلى أراض زراعية، اجتمعت القمة العربية في كانون الثاني (يناير) عام 1964 في الإسكندرية بدعوة من جمال عبد الناصر، و أنشأت منظمة التحرير الفلسطينية.
و كان القصد من تلك الخطوة تهرب التيار القومي العربي الذي يقوده جمال عبد الناصر، و معه الدول القومية العربية من مواجهة إسرائيل و التصدي لها في تحويل المياه، بتحويل المسؤولية على الفلسطينيين، و بذلك تحولت القضية الفلسطينية من قضية عربية - صهيونية إلى قضية فلسطينية - صهيونية، يتحمل مسؤوليتها الفلسطينيون وحدهم، و صار الشعار السياسي عند العرب "نرضى يما يرضى به الشعب الفلسطيني"، و ليس من شك بأن هذا الموقف فيه تراجع و انهزام إلى الوراء، و يتحمل مسؤوليته التيار القومي العربي، و القيادات القومية العربية التي كانت تقود معظم الدول العربية آنذاك: مصر و سوريا و العراق و الجزائر و اليمن إلخ...
ثم حدثت نكسة حزيران-يونيو عام 1967، و قد انتصرت إسرائيل على ثلاث دول عربية هي: مصر، سورية، الأردن، فاحتلت إسرائيل سيناء من مصر، و الجولان من سورية، و الضفة الغربية من الأردن، و كانت هزيمة كبرى، و كانت هزيمة صادمة للأمة بشكل فاق التصور، و تتحمل القيادات القومية بشكل خاص على اختلاف تنوعاتها في ذلك الحين، و على رأسها جمال عبد الناصر، و حزب البعث في سورية، و هواري بومدين في الجزائر المسؤولية الكاملة عن هذه الهزيمة.
و دلت على أن الشعارات التي طرحها الفكر القومي العربي من بناء الجيوش القوية القادرة على تحرير فلسطين، و الانتصار على إسرائيل، كانت كلاماً فارغاً لا حقيقة له على الأرض، مع أن الأمة لم تبخل في تقديم الدعم و التأييد و المؤازرة و المعاونة للأنظمة القومية بكل أشكالها، و بخاصة نظام جمال عبد الناصر، فقدمت الأموال و التضحيات و الطاعة له و تنفيذ ما يقوله و ما يأمر به.
لكن وقعت الهزيمة و السبب هو أن الفكر القومي قام على معاداة الدين الإسلامي، و اعتباره عاملا من عوامل التأخر و الانحطاط و السقوط، و اعتبار أن هذه الأمة الموجودة من المحيط إلى الخليج تقوم على عاملين، هما: اللغة و التاريخ.
فمن الواضح أن مقولات الفكر القومي السابقة ليست مقولات موضوعية و ليست علمية لأنها لا تنطلق من الواقع الاجتماعي و الثقافي و الفكري و الاقتصادي و النفسي و العقلي الذي يحيط بنا، بل انطلقت من إسقاط الفكر القومي الألماني على الواقع العربي دون نظر إلى هذا الواقع و تفصيلاته و ألوانه، و انطلقت في محاربة الدين و اقتلاعه من عقول و نفوس و حياة أبناء هذه الأمة، فكانت الكارثة تقع تلو الكارثة، في الاقتصاد، و السياسة، و الزراعة، و الاجتماع، و البناء النفسي و العقلي إلخ...
لكن الجهاد في فلسطين لم يتوقف، فبرزت حركتا الجهاد الإسلامي و حماس، و أشعلتا انتفاضة الحجارة عام 1987، و كانت حدثا عظيما في تاريخ القضية الفلسطينية و كانت حادثا مزلزلاً للمنطقة جميعها، و انتهت هذه الانتفاضة عندما وقع ياسر عرفات "اتفاق أوسلو" في البيت الأبيض عام 1993، و كانت هذه هي السقطة الثانية للتيار القومي الوطني، بعد السقوط الأول الذي قام به السادات عندما زار إسرائيل عام 1977، و وقع معها اتفاق كامب ديفيد عام 1979، و بذلك خرجت مصر أقوى دولة عربية من الصراع مع إسرائيل (موقع عربي).
و رأت الدول العربية في توقيع السادات على كامب ديفيد "سلاما منفردا" و نوعا من الخيانة، و خصوصا حيال الفلسطينيين. و قد قطع العرب علاقاتهم مع مصر التي علقت عضويتها في الجامعة العربية.
في القرن الواحد والعشرين، في زمننا هذا، اشتدّ الصراع و الانقسام بين الأنظمة العربية فتغيرت خارطة التحالفات و المصالح، ليصبح بذلك أعداء الأمس أصدقاء اليوم.
إن الخلاف الذي تعيشه البلدان العربية اليوم هو من بذور الإرث الاستعماري و امتداد لمخططاته، الأمر الذي أدّى إلى تدمير الروابط المشتركة بينها و ضرب إجماعها حول القضايا الكبرى.
و نتيجة لذلك، جاءت سقطة "التطبيع" من بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني، تطبيقا للمقاربة الأمريكية ( صفقة القرن أو بصقة ترامب) التي تطرحها أمريكا للسلام في الشرق الأوسط، و تقدّم فيها إسرائيل حليفاً استراتيجياً وفق مبدأ "السلام مقابل السلام" بعيداً عن المقاربة السابقة "السلام مقابل الأرض".
و وصف أحمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الهدف من التطبيع قائلا: “الغرض من هذا التطبيع هو إخراج “إسرائيل” من الوضعية الخانقة التي تعيشها داخل محيطها، بسبب الرفض التام الذي تلقاه لدى مجمل شعوب المنطقة، مع أن بقاءها في الأمد البعيد متوقف على قبولها و اندماجها في محيطها العربي"، و اعتبر أن “التطبيع الذي تتبرع به بعض الأطراف العربية هو خدمة لإسرائيل و طوق نجاة لها، و هو دعم و استدامة لاحتلالها، و مكافأة لها على جرائمها و تشجيع لها على الاستمرار فيها. ثم هو فتح لأبواب الاختراق و الهيمنة لهم على جميع الأصعدة” (موقع الوكالة المستقلة للأنباء- 2020/08/30).
و قد أصدر أكثر من 200 عالم إسلامي فتوى تحرم الصلح و التطبيع مع إسرائيل، التي تحتل الأقصى و القدس وفلسطين.
و حملت الفتوى التي نشرها "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" و مقره العاصمة القطرية الدوحة، تواقيع العلماء الذين شاركوا في اجتماع لهم.
و قالت الفتوى: "أجمع العلماء على أن ما تم بين بعض الدول العربية وإسرائيل، التي ما زالت تحتل معظم فلسطين وتريد احتلال بقية الأراضي الفلسطينية، لايُسمّى صلحاً و إنما هو تنازل عن أقدس الأراضي.
إن ما سمي باتفاقيات السلام، أو الصلح، أو التطبيع ، في هذه الحالة، محرم شرعا و باطل، و جريمة كبرى، و خيانة لحقوق الله تعالى و رسوله و حقوق فلسطين أرضاً ، و حق أمتنا الإسلامية و شهدائها عبر تاريخها الطويل". ( موقع الجزيرة مباشر) [ تفاصيل الفتوى تجدها في هذا الرابط https://bit.ly/3x55NZf ].
و رغم كل ذلك ظلت الشعوب الإسلامية على ولائها الفطري لرابطة الأمة الإسلامية، و كانت مركزية القضية الفلسطينية التي تجسدت فيها وحدة دوائر الانتماء: الوطنية الفلسطينية، و القومية العربية، و العقدية الإسلامية، كانت بمثابة الرباط الإسلامي الجامع لأمة الإسلام، على امتداد عالم الإسلام. كما كانت هذه القضية المركزية هي الطاقة المفجرة للمشاعر الإسلامية اتجاه التحديات الصهيونية - الاستعمارية المحدقة بالمسجد الأفصى و القدس الشريف و الوطن الفلسطيني، الذي ربط الله سبحانه بينه و بين الحرم المكي الشريف.
فلسطين قضية الأمة الإسلامية
لأرض فلسطين مكانة عظيمة في قلب كل مسلم، فهي أرض مقدسة و مباركة بنص القرآن الكريم: قال تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الإسراء:1] هي أرض الإسراء، فإليها أسري بمحمد صلى الله عليه و سلم، و هي أرض الأنبياء، فقد ولد فيها و عاش عليها و دفن فيها الكثير من الأنبياء عليهم السلام.
و هي تعد في المنظور الإسلامي أرض المحشر و المنشر، و عقر دار الإسلام، و المقيم المحتسب فيها كالمجاهد في سبيل الله، و مركز الطائفة المنصورة الثابتة على الحق إلى يوم القيامة.
نحن نؤمن بكليم الله موسى عليه السلام، عندما حمل على عاتقه نشر مبادئ اليهودية الأولى، فالمشكلة الأساسية ليست بيننا و بين اليهودية بوصفها دينا سماويا، و نحترم كل من يحترم أصولها الشرعية أو يتبناها، و لسنا ضد أية ديانة على وجه الأرض، بل إننا ضد التهويد القائم على التوجه الصهيوني، و طمس الهوية الفلسطينية، و محو الكرامة و الإبادة العرقية.
لقد تعاملت الأمم المتحدة مع قضية فلسطين على أنها قضية لاجئين منذ 1949 و حتى بداية العقد السابع من القرن العشرين. و منذ 1974 أخذت تصدر قرارات كثيرة بأغلبية ساحقة عن الجمعية العامة للامم المتحدة بإعطاء الفلسطينيين حق تقرير المصير، و بشرعية الكفاح الفلسطيني (بما فيه الكفاح المسلح ) لاسترداد الحقوق المغتصبة، و باعتبار الصهيونية شكلا من أشكال التفرقة العنصرية، و بحق اللاجئين غير القابل للتصرف في العودة إلى أرضهم، لكن الولايات المتحدة و حلفاءها كانوا على استعداد دائم لدعم الكيان الصهيوني في رفض هذه القرارات و تجاهلها و إجهاضها، و استخدام حق النقض "الفيتو" لمنع التنفيذ العملي لأي منها. في الوقت نفسه استخدموا هذه "الشرعية" الدولية لإقامة الدولة الصهيونية على أرض فلسطين و ترسيخ وجودها، مما يكشف عن الوجه القبيح الظالم لهذه الشرعية.
و طوال تاريخ القضية الفلسطينية ظلت إحدى الإشكاليات الكبرى تتمثل في انحياز القوى العظمى الصارخ للمشروع الصهيوني، و خصوصا التسليم بما يسمى "حقه" في إنشاء دولته على الأرض التي اغتصبها سنة 1948، أي 70٪ من أرض فلسطين.
و في زمننا هذا، بعد تنفيذ عمليات مخططة في ضم الأراضي الفلسطينية، يركز الكيان الصهيوني (الذي نشأ طبقا لنظريته الشهيرة " شعب بلا أرض على أرض بلا شعب، و زعم ملكيته لحائط البراق و أنه من بقايا هيكل سليمان) على تهويد مدينة القدس، و سيطروا على 86٪ منها، و ملأوها بالمهاجرين اليهود (515 ألف يهودي مقابل حوالي 300 ألف فلسطيني في شرق القدس و غربها مطلع سنة 2012) و في منطقة شرقي القدس أسكنوا نحو 200 ألف يهودي، و أحاطوها بسوار من المستوطنات اليهودية يعزلها عن محيطها العربي الإسلامي، و أعلنوا أن القدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني.
و كانت أول عملية طرد في حي الشيخ الجراح في نوفمبر/تشـرين الثاني 2008، حيث طـردت سـلطات الاحتلال قسـرا أولى الأسر الفلسطينية من الحي و وطنت بها اليهود، و هي أسرة الغاوي التي أجليت بقوة السلاح مـن منازلهـا فـي حـي الشـيخ جـراح التـي سـكنوها منـذ خمسـينيات القـرن الماضـي بعـد أن أصبحـوا لاجئيـن عقب النكبة إذ شردوا بقوة السلاح من ديارهم من منطقة يافا و قرى القدس و منهم من أوصلته دروب التهجير و التشريد من حيفا.
و يتهدد المنطقة التي يوجد بها 28 منزلا خطر الإخلاء و التهجير القسري، و إحلال المستوطنين، في حين صادقت الحكومة الإسرائيلية و بلدية الاحتلال في القدس على إقامة حي استيطاني وسط الشيخ جراح يضم 500 وحدة استيطانية، و توفر الدوائر الحكومية الإسرائيلية للجمعيات الاستيطانية الملفات و المستندات و الوثائق المزيفة التي تدّعي ملكيتها للأرض و العقارات قبل نكبة عام 1948 (محمد محسن وتد - الجزيرة نت).
فأين ذهبت عهود و مواثيق السلام، و الظلم و الغصب و القتل و طمس الهوية الإسلامية للقدس الشريف على قدم و ساق؟! يقول الله تعالى: { الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [البقرة:27].
الإسلام دين السلام، قائم على التسامح و التعايش السلمي، و بالتالي ��إن الإسلام ضد "الإرهاب" و قتل الأبرياء، و الإسلام في الوقت نفسه هو دين الحق و العدل و الحرية، يأبى المسلمون أن يُظْلَمُوا و يرفضون أن يعطوا الدنية في دينهم، و يبذلون الغالي و النفيس دفاعا عن كرامتهم و أرضهم و مقدساتهم.
لا يمكن لأي سلام في فلسطين أن يقوم بناء على ظلم أهلها و اغتصاب حقوقهم و إخراجهم من أرضهم. و إن فرض شروط القاهر الغاصب على شعب مستضعف قد يوصل إلى "تسوية" مؤقتة، و لكنه لن يؤدي إلى السلام. و سيظل الجهاد لتحرير فلسطين واجبا و شرفا و وساما على صدر كل شريف، و لا عبرة بالطغيان الإعلامي الصهيوني و الغربي الذي يتلاعب بمصطلحات "الإرهاب" و "السلام".
إن القضية الفلسطينية قضية ذات أبعاد إنسانية كبرى، إذ تمثل صرخة المظلوم في وجه أدعياء حقوق الإنسان، و تكشف المعايير المزدوجة و سوءات النظام الدولي الجديد، و تزري بالنفاق المقيت لحضارة تزهو بالتقدم و المعرفة و التكنولوجيا و ترعى حقوق الحيوان، بينما تتقبل أن يرمى أكثر من 7 ملايين لاجئ فلسطيني في العراء، و أن تحل جماعات يهودية صهيونية من أشتات الأرض وفق دعاوي بالية لا تتوافق مع منطق التاريخ و لا قيم المدنية الحديثة و لا القوانين الدولية، مكان قوم عمروا الأرض منذ 4500 عام، و أن تسفك الدماء في الأرض المقدسة التي يجب أن تكون أرض المحبة و السلام.
إن الحركة الصهيونية هي النموذح المتبقي للاستعمار التقليدي الأروبي الغربي الذي زال عن أرجاء العالم، و سيزول بإذن الله عز و جل عاجلا أم أجلا عن فلسطين.
إن مهمة تحرير فلسطين هي مهمة إنسانية و حضارية يجب أن تشارك فيها شعوب الأرض و أقطارها.
القدس في القرآن
إن المعركة بين المسلمين و اليهود الصهيونيين هي حرب عقائدية و محور هذه الحرب هو المسجد الأقصى أولى القبلتين و ثالث الحرمين. و هذا البعد العقائدي هو الذي يحمي فلسطين و جوهرتها القدس من الضياع كما حماها من الصليبيين، و لذلك فإن محاربة هذا البعد العقائدي أو محاولة إفراغ الصراع مع الكيان الصهيوني منه، إنما هو مؤامرة على فلسطين و جوهرتها القدس، لأن هذا البعد هو الذي سيزيل ما يسمى بإسرائيل من أرضنا المباركة فلسطين كما أزال دولة الصليبيين بعد مائتي عام.
إن اسم " بيت المقدس " يطلق على المدينة المقدسة " القدس الآن " تارة بشكل عام، في إشارة إلى أن البقعة كلها مقدسة، و هذا تأكيد على الآية الكريمة ﴿ الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء: 1]؛ و قد يشار إلى المسجد الأقصى بعموم لفظ بيت المقدس في بعض الكتابات، و هذا عائد إلى عدم التفريق في الضبط و التشكيل بين المَقدس و المُقَدَّس، فالأولى تطلق على المدينة " بيت المقدس " و الثانية تطلق على المسجد " البيت المُقَدَّس ".
لا يقتصر التشريف لبيت المقدس على حادثة الإسراء و المعراج فقط، و لا لكونها تحتضن في ربوعها المسجد الأقصى و مسجد الصخرة، بل يتخطاه إلى فضائل أخرى، مرت إشارات عديدة لها في القرآن الكريم.
ففي تفسير قوله تعالى: ﴿ وَ نَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71] قال مقاتل بن سليمان: هي بيت المقدس. و قوله تعالى لبني إسرائيل ﴿ وَ وَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ﴾ [طه: 80] يعني بيت المقدس. و في قوله تعالى: ﴿ وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَ مَعِينٍ ﴾ [المؤمنون: 50] [4] هي: بيت المقدس. و منها قوله تعالى إلى بني إسرائيل: ﴿ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 21] فالأرض المقدسة هي بيت المقدس، و أيضا قوله تعالى: ﴿ وَ لَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ﴾ [يونس: 93] قيل بوأهم الشام، و بيت المقدس خاصة.
و رفع الله عيسى بن مريم عليه السلام من بيت المقدس، و فيها مهبطه قبل قيام الساعة. و أول شيء حسر عنه بعد الطوفان هو صخرة بيت المقدس، و فيه ينفخ الصور يوم القيامة، و على صخرته ينادي المنادي يوم القيامة، و منها قوله تعالى: ﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ [المعارج: 43] قيل النصب هي صخرة بيت المقدس، و أيضا قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ [ق:41] قيل إنه ينادي من صخرة بيت المقدس. و قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ﴾ [النازعات: 14]و الساهرة بجوار بيت المقدس.
و أقرب بقعة في الأرض إلى السماء بيت المقدس، و يمنع الدجال من دخولها، و يهلك يأجوج و مأجوج دونها، و أوصى آدم عليه السلام أن يدفن بها، و كذلك إسحاق و إبراهيم، و حُمِل يعقوب من أرض مصر حتى دفن بها، و أوصى يوسف عليه السلام حين مات بأرض مصر أن يحمل إليها، و هاجر إبراهيم عليه السلام من " كوثي " إليها، و إليها المحشر، و منها المنشر. و قد تاب الله على داوود عليه السلام بها، و صدق إبراهيم الرؤيا بها، و كلّم عيسى الناس في المهد بها، و تقاد الجنة يوم القيامة إليها و منها يتفرق الناس إلى الجنة أو إلى النار. و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء، ما فيه موضع شبر إلا وقد صلّى فيه نبي أو أقام فيه ملك" [العلامة السيوطي - كتاب إتحاف الإخصا بفضائل المسجد الأقصى].
لن ننتصر و نفوسنا فاسدة
لقد أولى بعض الباحثين العرب و المسلمين اهتماما مبالغا فيه بما أسموه “نهاية إسرائيل” في 2022 معتمدين على ما أسموه بالإعجاز الرقمي للقرآن، وبعضهم ذهب يستشهد ببعض النصوص من التوراة، حتى إنهم استطاعوا إقناع الدهماء و حتى بعض العلماء بأن الصراع العربي الإسرائيلي قد أوشك على نهايته بعذابٍ إلهي قاصم يُنهي أسطورة الكيان المغتصِب الذي أرهق العرب و أزهق الدم العربي، و هذا حق أريد به باطل.
فاللهُ الذي لا يعجزه شيء في الأرض و لا في السموات قادرٌ على إزالة إسرائيل و غيرها من الوجود { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس:82] و لكنه سبحانه و تعالى أراد أن يختبر إيماننا و صبرنا فابتلانا بسنَّة التدافع، فزوال إسرائيل لا يتحقق و العرب و المسلمون بأسُهم بينهم شديد و بعض حكامهم أشد ضراوة على محكوميهم من إسرائيل.
و هناك حقائق ينبغي أن نقف عندها، و من هذه الحقائق ما ذكره المفكر الإسلامي محمد الغزالي رحمه الله، و هو يقدم مقاربة جيوسياسية تنمّ عن فراسة و دراية بالواقع إذ يقول في هذا الصدد: “إن زوال إسرائيل قد يسبقه زوالُ أنظمة عربية عاشت تضحك على شعوبها، و دمار مجتمعات عربية فرضت على نفسها الوهم و الوهن، قبل أن يستذلها العم أو الخال، و قبل أن ينال من شرفها غريب. إنه لا شيء ينال من مناعة البلاد، و ينتقص من قدرتها على المقاومة الرائعة، كفساد النفوس و الأوضاع، و ضياع مظاهر العدالة، و اختلال موازين الاقتصاد، و انقسام الشعب إلى طوائف، أكثرها مضيَّع منهوك، و أقلها يمرح في نعيم الملوك” (كتاب الإسلام و الأوضاع الاقتصادية).
دلالات فلسطين في سورة الإسراء
خلدت سورة الإسراء علاقة المسلمين بالمسجد الأقصى، و أن المسجد الأقصى للمسلمين حيث أسري بنبيهم إليه، و تقرر السورة بركة الشام، و منها أرض فلسطين، و تبدأ بعد ذلك في الحديث عن الفساد و العلو لليهود و التدمير الذي سيلحق بهم، و أنهم سينازعون المسلمين أرض الإسراء و المسجد الأقصى.
الإسراء تكريم للرسول
يقول الله تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الإسراء:1].
يكرم الله سبحانه و تعالى نبيه على صبره و يرفعه إلى درجة لم يصلها أحد من خلقه و لا حتى الملائكة المقربون، فيسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، و يقدم له أرض الشام، أرض فلسطين، أرض القدس، أرض المسجد الأقصى، هدية إيمان و جائزة رضوان، فيفتح النبي صلى الله عليه و سلم أرض الشام و منها أرض فلسطين فتحا ماديا بجسده الشريف، يعلن للدنيا في ذلك الحين، و للدنيا في كل حين أن المسجد الأقصى أصبح مسجدا للمسلمين، فيصلي فيه النبي الصلاة الإسلامية الأولى إماما للأنبياء المرسلين، حيث أحياهم الله له.
و يصلي الصلاة الثانية بعده عمر و أبو عبيدة و الصحابة رضي الله عنهم، يوم دخل عمر القدس و استلمها من بطريركها صفرونيوس و أعطاه العهدة العمرية التي تنص فيما نصت عليه: « أن لا يسكن إيلياء (القدس) أحد من اللصوص و اليهود » و هذا النص في الوثيقة يدل على مبلغ فهم عمر لخطر اليهود على هذه الأرض المباركة.
قدسية المسجد الأقصى
سورة الإسراء تتحدث عن المسجد الأقصى و إسراء النبي إليه، يقول الله تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الإسراء:1]، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: ( قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قالَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ. قُلتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ المَسْجِدُ الأقْصَى. قُلتُ: كَمْ كانَ بيْنَهُمَا؟ قالَ: أَرْبَعُونَ، ثُمَّ قالَ: حَيْثُما أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ، و الأرْضُ لكَ مَسْجِدٌ ) [صحيح البخاري].
فعاد للمسجد الأقصى بالإسراء قدسيته و طهره، حيث كان المسجد خرابا يبابا لا يصلي فيه أحد إلى أن جاء الرسول صلى الله عليه و سلم، فتقررت مسجديته في القرآن، و استلمه عمر فكان ينظفه هو و أصحابه من النجاسة، و طهروه و أصبح من يومها منارة علم و دار إيمان و محجة زوار و محراب صلاة.
زوال إسرئيل بعلو و إفسادين و تدميرين
نحن نعيش في مرحلة تاريخية، قبل قيام الساعة، أخبرت عنها آيات من القرآن و أحاديث صحيحة لرسول الله صلى الله عليه و سلم، و هذه سلسلة من العذاب الذي سلطه الله تعالى على اليهود منذ أن غضب الله عليهم حينما قتلوا الأنبياء و عصوا الرسل، و قال الله تعالى فيهم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۗ} [الأعراف:167].
يقول الله تعالى: { وَ قَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَ كَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا، إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا } [الإسراء:4-7].
تتحدث آيات سورة الإسراء عن علو واحد و إفسادين و عقوبتين قضى الله تعالى بهما على بني إسرائيل في الكتاب، فالقضاء المقصود به الحكم على إفساد اليهود بالعقوبة و ليس بمعنى أن الله أمرهم بالإفساد مرتين.
1- المفسرون القدامى أخذوا يبحثون عن العلو، و الإفسادين في التاريخ الذي سبق نزول القرآن، و اليهود عذبوا قبل الإسلام، و عذبوا بعد الاسلام، و سيستمر العذاب فيهم إلى قيام الساعة بنص الآية، إذن ليس هناك من داع للبحث عن عذاب اليهود الذي أشارت إليه الآيات في التاريخ ما دام السياق في الآيتين يشير إلى المرتين بعد نزول القرآن و ليس قبله، للأسباب التالية:
- يقول الله تعالى: { يقول الله تعالى: { وَ قَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا } [الإسراء:4-5]، فكلمة "إذا" شرطية لما يستقبل من الزمان و لا علاقة لما بعدها بما قبلها، و "اللام" في "لتفسدن" هي لام الاستقبال.
- يقول الله تعالى: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَ كَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا } [الإسراء:4-5]، و كلمة "عباد" إذا أضيفت إلى لفظ الجلالة فهي في موطن التشريف، و لا يوصف بها إلا المؤمنون، و نبوخذ نصر (أحد أقوى الملوك الذين حكموا بابل وبلاد الرافدين) كان وثنيا فلا يستحق هذا التشريف، و كذلك الرومان كانوا فلا يستحقون هذا التشريف، يقول الله تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [الحجر:42]، و هذا الوصف ينطبق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، الذين قاتلوا في المدينة و في خيبر و في تيماء، و هذه هي المرة الأولى التي تشير إليها الآية، و أما المرة الثانية، فيقول الله تعالى: { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } [الإسرا:6]، و "الكرة" لغة: الدولة و السلطة، فهل جعل الله سبحانه لليهود سلطة على البابليين أو الأشوريين؟ لم يحدث هذا، هل يمكن أن يحدث الآن أو في المستقبل؟ يستحيل ذلك لأن البابليين و الأشوريين قد انقرضوا، الذي حصل أن الله سبحانه جعل الكرة لليهود على أبناء الصحابة الذين جاسوا خلال الديار بعد أربعة عشر قرنا.
- يقول الله تعالى: { وَ أَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ } [الإسراء:6]، لم يحدث أن مد الله تعالى اليهود بأموال و بنين إلا في هذه المرة التي نعيشها، فدولة اليهود تعيش على التبرعات التي تأتيها من الغرب الصليبي و على المهاجرين الذين يأتونها من الغرب الصليبي و من الشرق الشيوعي (السابق).
- يقول الله تعالى: { وَ جَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا } [الإسراء:6]، حيث تمدهم بالعون العسكري أكبر دول الأرض: أمريكا و دول الحلف الأطلسي.
- يهدد الله اليهود بعد أن قامت لهم دولة أنهم إن أحسنوا أحسنوا لإنفسهم و إن أساءوا فعليها، و اليهود لا يمكنوا أن يحسنوا، و إساءتهم متحققة، و لذلك فلا بد أن تزول دولتهم و تدمر.
- فإذا جاء وعد المرة الثانية في تدمير علوهم فسيدخل المسلمون المسجد الأقصى كما دخله المسلمون أول مرة فاتحين، و سيدمر علو اليهود المادي و المعنوي.
- في آخر سورة الإسراء آية تتعلق بقضية علو اليهود و تدمير إفسادهم الثاني، و هي قوله تعالى: { وَ قُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا، وَ بِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَ نَذِيرًا } [الإسراء:104-105]، و الآية تشير إلى مجيء اليهود إلى فلسطين جماعات..جماعات، و ذلك بعد أن تفرقوا في الأرض، و قد بدأ إتيانهم إلى أرض فلسطين من أول القرن العشرين ليقوموا بإفسادهم الثاني المصاحب للعلو في الأرض المباركة تمهيدا لتدميرهم، و الآية تشير إلى بشرى للمؤمنين و إنذار للكافرين ( الشيخ أسعد بيوض التميمي رحمه الله - كتاب زوال دولة اسرائيل حتمية قرآنية).
67 notes · View notes
tadkiraimania · 3 years
Text
Tumblr media Tumblr media
كيف نشأت النسوية؟
في سنة 1949 صدر كتاب "الجنس الآخر" للكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار، الكتاب الذي يُعدُّ الدستورَ المؤسِّسَ للحركة النسوية في العالم؛ و قد ذهبت فيه دي بوفوار إلى أن الرجل يمارس على المرأة سطوة عاطفية، و هو ما جعلها تعاني من اضطهاد عميق؛ لأنها في النهاية قبِلت بتحوّل الرجل من إنسان واقعي إلى رمز شبيه بالآلهة، و دي بوفوار تعتقد أن الشخص لا يولد امرأة، بل يصبح امرأة.
حسب العديد من المفكرين و الكتاب فإن الحركة النسوية قد تطرفت تطرفًا كبيرًا، حيث لم تعد تدافع عن حقوق المرأة بقدر ما صارت تتمركز حول المرأة و تنادي بإقصاء الرجل، بل إنها تتصور دومًا أنها في حالة صراع معه، مما جعل العديد من النسويات الشهيرات التوجه إلى الدعوة إلى عدم تسليم المرأة جسدها للرجل! بدعوى أن هذه أحد أدوات السيطرة، كما أن العديد من النسويات الشهيرات كنَّ سحاقيات، و يبررن لذلك بأنَّ المرأة تستطيع أن تعيش وحدها دون وجود رجل في حياتها، أشهر هؤلاء هي الفيلسوفة و الأديبة الفرنسية سيمون دي بوفوار.
بدأت الحركة النسوية في العالم العربي بانطلاقها من مصر، تأسس الاتحاد النسائي المصري عام 1923 و حضرت رئيسة الاتحاد الدولي للحركة النسوية في العالم إلى مصر لمساعدة المصريات في بناء التنظيم و دعمه، و من أبرز النسويات في العالم العربي هدى شعراوي و صفية زغلول، إضافةً إلى العديد من المناضلات و اللاتي تم اتخاذهنّ كرموز للنضال النسوي كجميلة بوحريد و ليلى خالد، إضافةً إلى الكاتبة المصرية نوال السعداوي التي حرصت على بلورة الحركة النسوية من خلال كتبها الأدبية متأثرة بصفة خاصة بفكر الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار.
تعتبر الحركة النسوية العربية بصفة خاصة، أن المرأة شعب خاضع للاستعمار، و قد تم استعمار أجسادهن من طرف المجتمع البطريركي (الأبوي)، الذي يفرض شكلا و هيئة خاصة للمرأة حيث يحرص المسلمون أو الحاملون لهذا الفكر على عفة زوجاتهم و بناتهم و يحجبونهن و يعزلونهن، مما أفضى مع مرور الزمن إلى ظاهرة النقاب كما أن الشباب المسلم متشددون في التمسك بعذرية المرأة الدالة على وفاء قبلي (حنان برقرق - الفلسفة النسوية- مؤسسة مؤمنون).
عقيدة النسوية
النسوية أو «نظرية المساواة بين الجنسين» هي حركة مقومها الأساسي و دون تعقيد يعتمد على فكرة أن الله أو الطبيعة ـ أو أيا كان الخالق ـ لم يكن مصيبا حين خلق جنسين من الكائنات الحية، و أنه من المفترض أن يكون البشر أو الكائنات الحية عموما مكونة من جنس واحد فقط، و الحركة قائمة على أساس تغيير هذا الخطأ الجسيم الذي ارتكبه الخالق بحسب زعمهم.
و لذلك فإن من المعتقد الأكثر رسوخا لدى معاشر النسويين و النسويات أن الدين ـ أي دين ـ هو العائق أمام المساواة بين الجنسين و المصدر الرئيسي لاضطهاد و تحقير المرأة. سواء قالوا ذلك صراحة أو من وراء حجب، فإن المهمة الأساسية في المعتقد النسوي هي تغيير الدين بما أنه يبدو مستحيلا تغيير الخلق و تصحيح خطأ الخالق.
و لذلك فإن الإلحاد هو دين النسوية، و النسوي أو النسوية الذي ينتمي لدين سماوي ليس محل ثقة لدى «كهان» النسوية، و في إيمانه بها شك و سيظل في نظرهم من «المؤلفة قلوبهم» حتى يلحد فيصبح نسويا قلبه عامر بالإلحاد.
الحركة النسوية -في كلمة واحدة- حركة جامعة شاملة لكل الرذائل، و يمكن وصفها ـ دون تحفظ أيضا ـ بأنها العقل البشري في أحط صوره (عبد الله المزهر- موقع مكة).
السعداوي من الإيمان إلى الإلحاد
نشأت نوال السعداوي في أسرة كبيرة في عدد أفرادها من أب درس في الأزهر الشريف، و لكنها - حسب ما كتبتت في مذكراتها- لمست تفرقة و ظلم لها كأنثى منذ صغرها و بدأت العقد النفسية مع السعداوي منذ طفولتها، عندما كانت ترى والديها يفضلون أشقائها الذكور عليها، لمجرد كونهم ذكورا، على الرغم من تفوقها عليهم في دراستها و فشلهم في حياتهم، عندها كرهت نفسها، و تمنت أن تكون ذكرا، كما كرهت إخوتها الذكور، و غرس بداخلها بذرة التمرد على المجتمع و قيمه. ثم كبرت و صارت ملتزمة بدينها و أصلها ، ثم كانت نقطة تحول و تغير فكرها و حياتها عندما تزوچت من الدكتور شريف حتاتة قائد التنظيم الشيوعي الماركسي في مصر. و قد قالت عنه بعد الطلاق: "كان رجلا حراً جداً، ماركسي تم سجنه. عشت معه 43 عاماً، و أخبرت الجميع: هذا هو الرجل النسوي الوحيد على وجه الأرض، لكنها اضطرت للطلاق منه، لأنه خدعها و كانت له علاقات مع نساء أخريات".
و هذا التحول الفكري عند السعداوي أثبته الدكتور محمود جامع صاحب كتاب"عرفت السادات"، حيث نجده في كتابه الجديد "و عرفت الإخوان" يقول: " كان معنا في نفس الدفعة في كلية الطب الدكتورة نوال السعداوي التي نجحنا في ضمها للإخوان، و تحجبت في ملبسها و غطت رأسها، و كانت ملابسها على الطريقة الشرعية، و نجحت في أن تنشئ قسما للأخوات المسلمات من طالبات الكلية، كما أنشأت مسجدا لهن بالكلية، و كانت تؤمهن في الصلاة، و كنت أنا ضابط الاتصال بينها و بين الإخوان، و أقنعت كثير من زميلاتها بالانضمام للأخوات المسلمات، و كانت تحضهن على الصلاة و التمسك بالزى الإسلامي، في وقت كان الحجاب بين النساء نادرا، وكانت تخطب في المناسبات الإسلامية و فى حفلات الكلية باستمرار، و كان والدها ـ يرحمه الله ـ من علماء كلية دار العلوم هو الشيخ "سيد السعداوي" و لكن للأسف انقلب حالها و تغيرت أمورها إلى ما وصلت إليه الآن و اتُّهِمَتْ بالإلحاد و الإباحية".
السعداوي الكاتبة الطبيبة، انطلقت شهرتها و توسعت بشكل عام من خلال انتقاداتها للإسلام و معاداتها لثوابت الدين.
يقولون إن نوال السعداوي أرادت تحرير المرأة المسلمة من القمع و الظلم. فهل تحرير المرأة المسلمة يكون في احتقار علماء الإسلام و ازدراء المقدسات الإسلامية؟
في مقابلة مع موقع “إيلاف” عام 2003 تقول السعداوي: “أنا أعلم في القرآن أكثر من الشيخ الشعراوي. لماذا يا ست نوال؟ “لأنني درست الأديان و قارنت بين القرآن و التوراة و الإنجيل و هو لم يفعل ذلك، و كان متخصصًا في القرآن، الذي لا يمكن أن يفهم دون أن تقارنه بالكتب الأخرى، لأن العلم يبدأ بالمقارنة و التجربة و التجريب”. يا سلام على هكذا تبرير. الشيخ الشعراوي المعروف بتفسيره الصحيح للقرآن عربيًا و إسلاميًا و عالميًا لا يعجب “الست نوال” لأنه لم يمر على التوراة و الإنجيل.. و هل التعمق في فهم القرآن يتطلب المرور على التوراة و الإنجيل؟!.
طرحت نوال فكرها النسوي في كتاب “الأنثى هي الأصل”، مكررةً أسطورة نشأة الحضارة على مبدأ تقديس الأنثى في مجتمعات أمومية رومنسية لا تعرف الحرب. و في منتصف الثمانينات، طرحت نقدها للذكورية في كتاب “إيزيس” لتنتصر للإلهة الأنثى في وجه الإله «رع»، لأنه أمر بالختان و الإِخصاء ضد المستضعفين فقط، و هم النساء و العبيد.
ثم بدأت الصورة تتضح، فمع إصرارها على أنها تريد إصلاح الإسلام من داخله، لا سيما أنها “أكثر معرفة به من الشعراوي”، لكن العقيدة الخفية بدأت بالظهور مع كتاب “جنّات و إبليس”، فجنَّات هي المرأة التي تعاني من القهر و تطرح أسئلتها البريئة عن الدين و المرأة، وإبليس (شخصيا و دون تورية) هو الشاب الذي يعاني من تهمة الشر الظالمة، و ما زال يتمرد على والده الذي يرمز للإله، و يظل الصراع قائما حتى يموت الشاب البريء فيعلم والده متأخرا أن ولده لم يكن شريرا بل الناس هم الذين ظلموه.
و عندما ننظر إلى عناوين كتبها تجدها كالتالي: المرأة و الجنس 1969، الأنثى هي الأصل 1971، الرجل و الجنس 1973، الوجه العاري للمرأة العربية 1974، المرأة و الصراع النفسى 1975، امرأة عند نقطة الصفر 1973، مما يكشف عن هويتها النفسية المتحررة الثائرة ( الجنس، الصراع، التمرد).
ظلت نوال تخرّب عقول الأجيال الفارغة، و من داخل الإسلام، كما يفعل كل الوكلاء عندنا بترديد مطالب المستشرقين و الملحدين مع الإصرار على النطق بالشهادتين. فالفكر النسوي سلاح فتاك يستعمله الغرب للقضاء على لحمة المجتمعات الإسلامية و إشاعة الفوضى و الانحلال الخلقي تحت شعار حقوق المرأة و نبذ العنف.
و الفكر النسوي حركة تمشي على خطى فكر الزنادقة في كل زمان: يقدحون في وجود الخالق و يطعنون في الشرائع و ينشرون الإباحية قال ابن قدامة المقدسي: (الزنديق هو الذي يظهر الإسلام و يستتر بالكفر و هو المنافق كان يسمى في عصر النبي صلى الله عليه و سلم منافقا و يسمى اليوم زنديقا).
عولمة النسوية
تمثل الحركة النسوية رؤية معرفية و أيديولوجية للعالم و ليست مجرد أفكار حقوقية و سياسية أو اقتصادية عن المرأة، كما تعد الحركة النسوية أقوى الحركات الفكرية التي ترعرعت في ظل العولمة كحركة فكرية تمارس العمل عبر مؤسسات المجتمع المدني و منظمات الأمم المتحدة.
تبرز خطورة الحركات الأنثوية المتطرفة في تبنيها مجموعة من الآراء و الخيارات تعتبر تهديدا مباشرا لكل الأديان و القيم و الحضارات الإنسانية، خاصة أن هذه الأفكار النسوية أصبحت تمثل النسق الفكري للعديد من الوكالات الدولية التابعة للغرب و للأمم المتحدة التي صاغتها في شكل اتفاقيات دولية مفروضة على كافة المجتمعات دون التمييز بين البيئات و الثقافات المختلفة، بل تفرض ضغوطاً أخرى سياسية في حالة عدم تطبيقها في دول العالم، و الأدهى من ذلك أن من يسيطر على تلك المنظمات التابعة للأمم المتحدة فئات ثلاثة (الشاذون جنسيا - السحاقيات الفيمينست feminist - التمركز حول الأنثى).
و بعدما ركبت الأنثوية موجة العولمة عمدت إلى تشويه باقي الثقافات و الحضارات الأخرى فأعلنت حربا شعواء على الإسلام و أحكامه و المرأة المسلمة ، و نهجت في ذلك منهجا يقوم على التشكيك في صحة الدين، و القول بأن الفقه الإسلامي ذكورى، يسوغ سيطرة الرجل على المرأة، و التأكيد و تقديم الاجتهاد من مجتهدين غير عالمين بأحكام الإسلام مقابل تقديم الجوائز المالية و الأدبية لهم، أمثال السعداوي المصرية، و المرنيسي المغربية و غيرهن.
و ركزت الحركة النسوية على نشاطها في مجالات التعليم و المواثيق و الدساتير الدولية، لتسهيل عملية التغيير الاجتماعي مستغلة في ذلك المنظمات الدولية و الإقليمية و المؤتمرات العالمية .
بهدف الضغط على الدول لإحداث تغييرات في قوانينها الداخلية و يسهم في خطورة الأمر اتجاه الأمم المتحدة للتعامل مع المنظمات الأهلية مباشرة، بل جَعْلِهَا رقيبة على دولها، خصوصاً ما يتعلق بشؤون المرأة و الطفل، فمثلاً هيئة المعونة الأمريكية تخصص كل عام ما يزيد على 20 مليون دولار مساعدة للمنظمات الأهلية المصرية بشرط أن يكون المشروع الممول مقبولا في المنظمة المقدمة للمعونة.
بل امتد الأمر إلى أقصى درجات الضغط التي يمارسها النظام العالمي الجديد، حيث أصبح من أهم شروط انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي – مثلا – الاعتراف بالشذوذ الجنسي. (دراسة نيل درجة الماجستير: أراء الحركة الأنثوية الغربية من وجهة نظر إسلامية - الباحث العراقي مثني أمين الكردي - جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان).
الخطاب الشيطاني في فكر السعداوي
لقد عُرِفَتْ نوال السعداوى بشطحاتها الفكرية و خطابها الشيطاني الذي يتعارض مع العقيدة و أصول الإسلام. و كانت قد كشفت في لقاءات تليفزيونية و حوارات صحفية شططها الفكري الذي وجدت فيه حكومات و منظمات غربية معادية للإسلام ضالتها.
1- قانون الأسرة الأبوية
تقول السعداوي: يظل قانون الأسرة الأبوية في بلادنا قانونا عبوديا يطلق سراح الجاني "الرجل"، لأنه الأقوى، و يعاقب الضحايا، "الأطفال و النساء"، لأنهم الأضعف. حاربت الحركات النسائية في بلادنا هذا القانون منذ نشوئه حتى اليوم، لأنه هو العمود الفقري الذى يرتكز عليه النظام الطبقي الذكوري، الذي يقهر النساء و الفقراء على حد سواء.
2- ميراث المرأة
تطالب بأن يكون نصيب المرأة من الميراث مثل نصيب الرجل، و تدعي أن الله سبحانه و تعالى ظلم المرأة في الميراث لقوله تعالى: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ } [النساء:11].
3- رأيها في الزواج
و من هذه الشطحات رأيها في أن "الزواج عبودية" و ادعائها بأن عقود الزواج هي "عقود احتكار" للنساء، و دعوتها النساء للتحرر مما أسمته "القهر الذكوري الأبوي الزوجي". و كانت تصر على تسمية نفسها "نوال زينب" نسبة إلى أمها، و ترفض أسم والدها. ألم تقل هذه الكاتبة من قبل أنه يجب أن ينسب الولد لأمه و أنها عنصرية أن ينسب الولد لوالده، و تجاهلت بذلك قول الله سبحانه و تعالى: { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ }
[الأحزاب:5].
و هي تدعو كذلك إلى العلاقات غير الشرعية بين الرجل و المرأة، و تدعو إلى الاعتراف بالأبناء الغير شرعيين ( أي الذين جاءوا عن طريق علاقات جنسية دون زواج ) ضاربة بعرض الحائط للمنع النبوي ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) [متفق عليه].
و يناقض ادعاءاتها هذه أنها تزوجت و أنجبت ولدا و بنتا من زواج شرعي.
و لا يخفى علينا ما في إثبات هذه النسبة من رفض لكل ما هو شرعي و ديني, في دعوة صريحة للانحلال و الإباحية و للتحرر من كل قيم الدين و الأخلاق. و السير به إلى هاوية البهيمية.
4- رأيها في الختان
و قولها إن "الختان للمرأة عملية همجية بربرية و أيضا للرجل"، و هو القول الذي يناقضه قيامها بختان ابنها، كما قامت بعملية ختان لابنتها. استنكر عدد من علماء الأزهر الدعوة التي أطلقتها الكاتبة نوال السعداوى لوقف عمليات ختان الذكور بدعوى أنها ضارة طبياً و لا علاقة لها بالشرائع السماوية.!! والعلم و الطب يؤكد عكس ما قالت.
5- ر أيها في الميراث
كما تدعي السعداوي ضرورة تعديل نظام المواريث و ترى أن أية { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ } [النساء:11]، ينبغي إيقافها كما تم إيقاف آيات الرق على حد زعمها.
6- رأيها في الحجاب
قالت: "إن الحجاب مفروض للجواري، أنا ضد الحجاب لأنه ضد الأخلاق. لماذا لا يتعرى الجميع؟" و زعمت السعداوي: "الأخلاق لا علاقة لها بالملابس هناك نساء عرايا في أفريقيا و أخلاقهن جميلة، و هناك نساء محجبات نصف مومسات هنا في مصر فلا علاقة للحجاب بالأخلاق و لا العذرية"؟!
وصل بها الاستهتار عندما سخرت من الحجاب و قالت:هل الإيشارب (تعني الحجاب الذي ترتديه المسلمة) يدخلهن الجنة"؟!.
7- رأيها في تعدد الزوجات
قالت:"أنا أريد أن أتزوج أربعة رجال و لا أدرى لماذا لا أتزوج أربعة"؟!. مهاجمة التعدد للرجل؛ قائلة:" كيف ينتقل الرجل من فراش امرأة إلى فراش امرأة أخرى و الله لو ذهب زوجي لامرأة أخرى لطردته من البيت".
و قالت: "هل يرضى أن تنتقل امرأته بين فرش الرجال هو أيضا سيطردها, تونس منعت التعدد و غيرها من الدول الإسلامية هل نكفر هذه الدول"؟!.
8- رأيها في شعيرة الحج
و أضافت السعداوي ساخرة من شعائر الإسلام: "رحم الله رابعة العدوية.. لم تكن تحج أو تصلى و كانت ضد الشعائر.. و كانت تقول الله هو الحب إنما (ليس الله)... أطوف حول الكعبة و أَقَبِّلُ الحجر الأسود.. ما هذا.. أنا عقلي لا يسمح لي أن ألبس الحجاب و أطوف هذه وثنية.. الحج هو بقايا الوثنية"؟!.
9- جرأتها على الله سبحانه و تعالى
و سِجِلُّ نوال السعداوي حافل منذ طفولتها بالخروج و إنكار المعروف و الاجتراء على الذات الإلهية؛ عندما اعترضت على قول الله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } و كتبت " قل هي الله أحد" ـ تعالى الله عما تقول علوا كبيرا.
و سألت السعداوي مدرسها: "هل الله في اللغة مذكر أم مؤنث". ثم هي تحكى عن طفولتها قائلة: فذاكرة الطفولة مليئة بالمحرمات المتعلقة بالدين و الجنس أساساً، في طفولتنا نكون ملحدين، لا نصدق أبدا أن ربنا عادل، الأطفال تملأهم الأسئلة، خصوصاً الذين يولدون فقراء، يلاحظون التفرقة مثلما لاحظت أنا، كنت دائماً أسأل والدتي: أين العدل، أين ربنا؟ غير موجود، والدتي كانت تفزع".
10- جرأتها على الرسول ﷺ
و تقول:"انا أهم من العقاد و طه حسين و نجيب محفوظ و كتبي تجاوزت قاسم امين، ربنا لا دخل له بالسياسة و لا يجب أن نمشي خلف الرسول (صلى الله عليه و سلم) في الخطأ".
11- دفاعها عن المرتدين
كما دافعت من قبل باستماتة عن الكاتب الهندي المرتد "سلمان رشدي" و أمثاله من الكتاب الخارجين من ربقة الإسلام، و تعتبر نفسها من الذين يقصدهم المطاردون من الأنظمة مثل "فرج فودة" و"نصر حامد أبو زيد".
و هكذا يتبين لنا مما سبق ذكره، أن نوال السعداوي تسعى من خلال فكرها النسوي الشيطاني إلى تحطيم أصول و ثوابت الإسلام و مقدساته الدينية، و تمرير الاعتراف بأن للمرأة حقوقا مساوية للرجل، و مساواة الجنسين سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا، و تسعى إلى دعم المرأة و إزالة التمييز الجنسي الذي تعاني منه، و إلغاء الفروق بين الجنسين من خلال مفهوم "الجندر" (أي النوع) و الإنكار التام لوجود جنسين مختلفين، و تعمل بإصرار على إلغاء مفهوم الزواج و بالتالي الأسرة، و تشجيع الإباحية و الزواج من نفس الجنس (الشواذ أو المثليون) و المطالبة بحمايته دوليا حتى لا تشقى المرأة بالحمل و الإنجاب.
تحرير المرأة بين الإسلام و الغرب
لقد تباينت الأطروحات و الدراسات التي تناولت قضية تحرير المرأة في المجتمعات الإسلامية، و رواحت كل المقاربات مسألة تحرير المرأة المسلمة في ثلاثة نماذج:
1- النموذج الغربي للحركات النسوية الذي أفرز أفكارا و ممارسات جعلت شريحة ترى المرأة ندا مماثلا للرجل و منافسة له، لأن تحريرها إنما يمر عبر الصراع ضده، و ضد منظومة القيم الإسلامية لأنها في نظرها منظومة ذكورية.
و لقد تطور هذا النموذج في أواخر القرن العشرين و تمركز حول الأنثى و النزعة النسوية إلى حد أصبح التحرر من كل القيم الدينية و الثقافية و الحضارية، مثل التحرر من الأسرة و العفة و البكارة، و الإخلاص و الاختصاص بين الأزواج، و حقوق النشاط الجنسي المثلي، و تجريم الزواج المبكر و استبداله بالزنا المبكر الذي هو حق للمراهقين و المراهقات، و الاجهاض، و الثورة على اللغة لأنها لغة ذكورية و مصارعتها بلغة م��نثة، بل وصلت الدعوة النسوية إلى حد الثورة على الله سبحانه و تعالى لأنه ذكر انحاز إلى آدم الذكر ضد حواء الأنثى.
2- النموذج الثاني هو ذلك الذي يرى دعاته أن لا مشكلة أصلا في الميدان، فليس في الإمكان أبدع و لا أحسن مما كان، فكل عاداتنا و تقاليدلنا الموروثة خير و بركة على كل النساء، لأن المرأة خلقت لتكون متعة الفراش الحلال و معمل تفريخ النسل لبقاء النوع الإنساني و لا شأن لها بما وارء الحدود و الاختصاصات، فالمشاركة في العمل السياسي و الاجتماعي العام حرام و محظور و سفور و فسق و فجور.
ولقد بلغ دعاة هذا التصور، في سبيل تكريسه، إلى الحد الذي جعلوه دينا سماويا و شريعة إلهية، و ليس مجرد عادات و تقاليد ( و هذه هي البيئة التي نشأت فيها نوال السعداوي في الريف المصري، و بدل أن تحاكم عادات و تقاليد المجتمع تمردت و ثارت ضد قيم و مقدسات الدين الإسلامي).
3- النموذج الثالث و هو النموذج الوسطي الذي يعبر عن روح التحرير الإسلامي، و الذي ينطلق من نصوص و منطق و فقه القرآن الكريم في تحرير المرأة و انصافها و المساواة بين النساء و الرجال، و قد سوى الله سبحانه و تعالى حين خلقهم جميعا من نفس واحدة و ساوى بينهم في الكرامة، عندما كرم كل بني آدم في الأهلية و التكاليف و الحساب و الجزاء، مع الحفاظ على فطرة التمايز بين الذكورة و الأنوثة لتتم نعمة السعادة بشوق كل طرف إلى الآخر المتميز عنه، و لو كان ندا مماثلا له لما كان آخرا مرغوبا تهفو إليه القلوب.
و هذه المساواة الإلهية بين الرجال و النساء تجلت أيضا في حمل أمانة استعمار و عمران الأرض متضامنبن في أداء فرائض العمل الاجتماعي العام أمرا بالمعروف و نهيا عن المنكر، لتكون مساواة الرجل و المرأة هي مساواة الشقين المتمايزين، لا مساواة الندين المتماثلين المتنافرين.
كما ينطلق هذا النموذج الوسطي في تحرير المرأة و انصافها، مع بقائها أنثى تسعد، عندما تكون سوية، و تفخر و تباهي بأنوثتها و تنفر و تهرب و تخجل من الاسترجال، كما يسعد الرجل السوي و يفخر و يباهي برجولته و ينفر من التخنث و الأنوثة. قال تعالى: { وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَ رَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الروم:21].
كما ينطلق هذا النموذح الوسطي أيضا من الاجتهاد الإسلامي الحديث و تيار الإحياء و التجديد، مستندا إلى القرآن الكريم و التطبيقات النبوية في التحرير الإسلامي للمرأة في مواجهة تصورات و نماذج الغلو الإسلامي و الغلو العلماني جميعا.
فالنموذج الوسطي، الذي يمثل و سطية الإسلام في تحرير المرأة، يباهي الدنيا بنماذج الريادات اللاتي حررهن الإسلام مند عصر النبوة حتى العصر الذي نعيش فيه، و يدعو إلى اتخاذ هذه النماذج الريادية أسوة و قدوة و مثالا في جهاد التحرير للمرأة في عصرنا الحديث:
- فخديجة بنت خويلد رضي الله عنها كانت أسبق من كل الرجال إلى الإيمان بالدعوة الإسلامية الجديدة و الوليدة، و كانت الداعمة بالعقل و الحكمة و المال و أيضا بالعواطف المعطاءة لرسول الإسلام و دعوته و أمته، حتى كان عام وفاتها عام الحزن و الحداد لللجماعة المؤمنة كلها.
- و أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، تحمل أمانة سر خطة الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة و تشارك في تنفيذ الحدث الأعظم، و تشد أزر زوجها البطل الزبير بن العوام، فتهيء له بيته و تزرع له حقله و ترعى فرس جهاده و قتاله، و تقاتل معه في بعض الغزوات و تربي ولده عبدالله على البطولة و الفداء و الاستشهاد، و تعارض و تجابه الطغاة من أمثال الحجاج بن يوسف الثقفي.
و مع ذلك تظل أسماء هذه هي الأنثى التي تتزين بالحشمة الإسلامية،. فلا تلبس ما يكشف أو يصف أو يشف، و تحافظ على مشاعر الغيرة المفرطة عند زوجها!.
- و عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، زوجة النبي صلى الله عليه و سلم ثمرة من ثمرات التحرير الإسلامي للنساء، كانت الزوجة منه الرقيقة و الحبيبة، و راوية الأحاديث و حافظة السنة، و الفقيهة التي تراجع القراء و الرواة و الفقهاء و المجتهدين، و المشيرة في الشؤون العامة، و المشاركة في الصراع السياسي الذي بلغ حد القتال إبان الفتنة الكبرى التي اندلعت بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
- و حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما سبقت إلى الإسلام بمكة و هاجرت إلى المدينة المنورة، و كانت شاعرة و خطيبة فصيحة و راوية للحديث، إئتمنتها الأمة على حفظ القرآن عندما جمع المسلمون صحائفه على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فحفظته حتى أسلمته إلى الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فنسخت منه المصاحف التي وزعت على الأمصار.
و من ثمرات التحرير الإسلامي للنساء: الشفاء بنت عبد شمش رضي الله عنها (معلمة حفصة أم المؤمنين و والية الحسبة في عهد عمر رضي الله عنه)، و أم هانئ فاختة بنت أبي طالب رضي الله عنها ( التي أجارت رجلين من قوم زوجها الذي فر بشركه و صارعت أخاها علي رضي الله عنه لأجلهما ومنعته من القصاص منهما)، و نسيبة بنت كعب الأنصارية رضي الله عنها (التي شاركت في بيعة العقبة و بيعة الرضوان و قاتلت في غزوة أحد و دافعت عن الرسول صلى الله عليه و سلم حين هم المشركون بقتله و حمته بصدرها و قاتلت و تلقت ثلاثة عشر طعنة)، و أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية رضي الله عنها ( و هي وافدة النساء في المطالبة بحقوقهن عند رسول الله صلى الله عليه و سلم،و هي التي قاتلت يوم اليرموك في فتوحات الشام و قتلت تسعة من الروم بعمود خيمتها، كانت من ذوات الرأي و العقل و الحكمة و الدين و خطيبة فصيحة تهز أعواد المنابر). و نماذج التحرير الإسلامي لللمرأة كثيرة لا يتسع المقام لسردها.
و إذا كانت رياح الجاهلية قد أعادت بعض الثقاليد و العادات التي سبقت و سادت مجتمعات ما قبل الإسلام ، فإن هذه التقاليد الراكدة لم تستطع غلبة إنجازات التحرير الإسلامي للمرأة، فظلت روح هذا التحرير ملحوظة حتى في عصور التراجع الذي أصاب عالم الإسلام، و ظلت حياتنا الاجتماعية الإسلامية زاخرة بنماذج النساء المحدثات و الفقيهات و الشاعرات و الأديبات، اللائي بلغ شأوهن في العلم إلى الحد الذي تتلمذ عليهن و أخذ الإجازة العلمية منهن عدد كبير من كبار أئمة الفقهاء و المحدثين و المجتهدين.
إن الإسلام هو دين الجماعة و الحامل لرسالة الإسلام هي الأمة، و ليس الفرد، أو الطبقة، أو الذكور دون الإناث، و إذا كان الإنسان ذكرا أو أنثى هو مدني و اجتماعي بالجبلة و الفطرة و الضرورة، فإن المجتمع الْمُشْتَرَك الذي يتشارك فيه النساء مع الرجال في العمل العام، هو القاعدة المتبعة و السنة القائمة منذ فجر الإنسانية و حتى مجتمع الرسالة الخاتمة لرسالات السماء (الدكتور محمد عمارة - كتاب التحرير الإسلامي للمرأة).
بؤس النسوية
تمادت نوال السعداوي في نقدها لله سبحانه و تعالى (للإله على حد قولها) و ذهبت في نقدها للرسول محمد صلى الله عليه و سلم و الإسلام إلى حد بعيد ، و رغم أن العلماء و المفكرين قد ردوا عليها و أثبتوا لها و للچميع عكس ما تقول و تفكر ؛ إلا أنها كابرت و عاندت ، و استمرت في عنادها و تحديها للإيمان بالله و رسوله و بالغيب و الثواب و العقاب و بالچنة و النار بعد الموت ؛ حتى ماتت يوم 21 مارس 2021 رغما عن أنفها عن عمر يناهز التسعين عاما، و ذهبت إلى عالم الغيب الذي أنكرته.
كتب المهندس أيمن وجيه إبن أخ نوال السعداوي يعلق على موت عمته في تغريدة له على صفحته على تويتر:
Tumblr media
ماتت نوال السعداوي و بقيت كتبها، و بقي تلامذتها الذين يتفوقون عليها في الإلحاد، و أنصارها الذين يشحذون سواعدهم بقوة لنشر سموم أفكارها و إثبات بطلان الأديان بزعمهم ( خاصة الإسلام )! و لكن مهما أعدوا و جمعوا و حشدوا فهم يشهدون بأعينهم بؤس النسوية، و تهافت صنم الإباحية: الإله الذي يعبدونه، و يقيمون الدنيا و يقعدونها لأجله؛ قال الله تعالى: {ٱحۡشُرُوا۟ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ وَ أَزۡوَ ٰ⁠جَهُمۡ وَمَا كَانُوا۟ یَعۡبُدُونَ، مِن دُونِ ٱللَّهِ فَٱهۡدُوهُمۡ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طِ ٱلۡجَحِیمِ، وَ قِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسۡـُٔولُونَ ، مَا لَكُمۡ لَا تَنَاصَرُونَ، بَلۡ هُمُ ٱلۡیَوۡمَ مُسۡتَسۡلِمُونَ } [الصافات:22-24].
و قال الله تعالى: { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَ أَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } [الرعد:17].
فكيف للظلام أن ينتصر على النور؟ قال الله تعالى: { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [التوبة:32]، و كيف للباطل أن يهزم الحق؟ قال الله تعالى: { وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [يونس:82]، و قال الله تعالى: { وَ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [الإسراء:81].
102 notes · View notes
tadkiraimania · 3 years
Text
Tumblr media
رمضان مدرسة ربانية إيمانية نقتبس منها الدروس و العبرَ، لنثبُتَ على الطاعة بعد رمضان، و نواجه بعزيمة و ثبات ما يعترض طريقنا من عقبات و معيقات بعد رمضان.
و رمضان مدرسة تربوية، و جامعة أخلاقية تُعلمنا العبودية الحقَّة لله تعالى، فتجردنا من حظوظ نفوسنا، و شهوات ذواتنا، لننتصر على نزعات الحيوان و نزغات الشيطان التي تجري في أوردتنا لتوردنا موارد الهلكات و الحسرات.
ماذا عَلَّمَنَا رمضان؟
1- علمنا رمضان: تحقيق معنى التقوى؛ لأن التقوى هي المقصد الأسمى و هي الغاية العظمى من وراء فرضية الصوم، حيث قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183]. سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبَيَّ بن كعب رضي الله عنه: ما هي التقوى؟ قال أبيّ: يا أمير المؤمنين، أمَا سلكت طريقًا ذات شوك؟ قال: بلى. قال: فماذا صنعت؟ قال: شمرت و اجتهدت. قال: فذلك التقوى.
فإذا كان أمير المؤمنين، الفاروق، المشهود له بالجنة رضي الله عنه، يسأل عن معنى التقوى و يحرص على تحقيقها، فما بالنا تقاعسنا و تناسينا أو انشغلنا بصغار المسائل و لم نحقق بعد كبارها و أهمها و أعظمها!!
إذن فالأمر يتطلب منا أن نتداركه و نقف أمام أنفسنا وقفات؛ لنرى أين نحن من هذا الدرس العظيم.. تقوى الله عز و جل، بفعل ما يحب و يرضى و تجنب سخطه. و قد سُئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن معنى التقوى، فقال: هي الخوف من الجليل، و العمل بالتنزيل، و القناعة بالقليل، و الاستعداد ليوم الرحيل.
و لو وقفنا عند مَعْلَمٍ واحد من المَعَالِم التي فسر بها علي بن أبي طالب معنى التقوى، ألا و هو القناعة بالقليل، و نسأل أنفسنا: هل نحن نقنع بالكثير فضلاً عن القليل؟ و متى نقنع بالقليل و نحقق بعض معالم التقوى الهدف الأسمى من أهداف الصيام؟
و رُوي عن طَلْقِ بن حبيب قوله: "التَّقوى هي: أنْ تَعملَ بما يُرضي الله، على نورٍ مِن الله، تَرْجو ثوابَ الله، و أنْ تبتعدَ عمَّا لا يُرضِي الله، على نورٍ مِن الله، تخاف عقابَ الله".
التَّقْوَى هي جماعُ الخير كلِّه، و هي وصيةُ الله للأوَّلين و للآخِرين، و هي أفضلُ لباسٍ للمؤمنين، و هي التي تَفْتَحُ مغاليقَ القَلْب، و تُنير الطريقَ، و تَهدِي الضالَّ، و تُرشِد الحيرانَ.
فمَن أحبَّ لله، و أبْغَض لله، و أعْطَى لله، و منَع لله، كان تقيًّا، و إن ممَّا يُثمره الإيمانُ الصحيحُ في القلْب: التَّقوى، و هي نِعمةٌ تفوق كلَّ تقدير، تصبغ جميعَ أعمال الإنسان و سعيه بصِبغتها، و تُهيمِنُ على خواطرِه و نواياه، و لِمَ لا تكون كذلك و هي حقيقةٌ مِن أجلِّ الحقائقِ الربَّانية؟!
2- علمنا رمضان: أن الاجتهادَ في طاعة الله و الابتعادَ عن معصيته يحتاج منا إلى صبر و ثبات، و عزيمة قوية و همة عالية؛ فالمعالي لا تدرَك با��أماني، و من عرف ما قصد هان عليه ما وجد.
كذا المعالي إذا ما رمت تدركها
فاعبُرْ إليها على جسْر من التعب
فمن كان ذا همة و صبر و عزيمة في رمضان هو الذي قد فاز في رمضان، و هو الذي سيثبت على الطاعة بعد رمضان. فبعدَ رمضان نحتاج إلى صبر و همة و عزيمة، حتى نستمرّ على الطاعة التي تربينا عليها في رمضان، و حتى لا نقعَ في المعاصي التي تربينا على اجتنابها في رمضان.
3- علمنا رمضان: أن تربية النفس على الطاعة تكون بالممارسة المستمرة و المجاهدة الدائمة؛ فمن جاهد نفسه في طاعة الله أعانه الله، و هداه و وفقه: { وَ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت: 69].
4- علمنا رمضان: أنّ الهَمّ الأكبرَ في حياتنا أن نلتزم بالدين و نهتمّ بالآخرة؛ فرمضان يجعل النفوس تقلع عن شهواتها الزائلة و تتحكم في ملذاتها الفانية، لتتعلق بنعيم الجنة الخالد و سعادتها الدائمة.
و النفوس التي تتعلق بالآخرة لا تتعلق بالدنيا، بل تنظر إليها على أنها مجرد وسيلة لبلوغ الآخرة، و تنظر إليها على أنها مزرعة للآخرة، من زرع الخير فيها وجد ثوابه و أجره و جزاءه في الآخرة، و من زرع الشر فيها وجد وزره وحسرته و عقابه في الآخرة: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } [آل عمران: 30].
من تعلق قلبه بالآخرة لا يخاصم و لا يعادي و لا يقاتل من أجل هذه الدنيا الفانية؛ لأنه مشغول بالعمل الذي يسعده في الدار الباقية، قال تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَ مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَ سَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [الإسراء: 18-19]، و عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( من كانت الآخرة همَّه جعل الله غِناه في قلبه، و جمع له شمله، و أتته الدنيا و هي راغمة، و من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، و فرق عليه شمله، و لم يأته من الدنيا إلا ما قدِّرَ له ) [أخرجه الترمذي و صححه الألباني في صحيح الجامع].
5- علمنا رمضان: أن للعبادة طعْما، و أن للإيمان حلاوة؛ فمن اجتهد في رمضان بصدق و إخلاص وجد حلاوة الإيمان، و أحسّ بلذة الطاعة. و مُحالٌ لمن ذاق حلاوة الإيمان و ذاق لذة الطاعة أن يتخلى عن ذلك بعد رمضان. بمحبتك لله و تعظيمك لله و حسن توكلك على الله تذوق حلاوة الإيمان، و باجتهادك فيما يرضي الله و إحسانك إلى عباد الله تذوق لذة الطاعات؛ ففي صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: ( ذاق طعمَ الإيمان مَن رَضي بالله ربا، و بالإسلام دينا، و بمحمد رسولا )، و في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما، و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، و أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ).
6- علمنا رمضان: أننا في حاجة إلى التعاون على طاعة الله و عبادته، فبالتعاون يكون الإقبال على العبادة بهمة و نشاط، قال تعالى: { وَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوَى وَ لَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ ] [المائدة: 2].
7- علمنا رمضان: أننا في حاجة إلى التضامن و التآزر و التراحم و التعاطف، فقوتنا في وحدتنا، و عزنا و أمننا و استقرارنا في تضامننا و تراحمنا، و من أحسنَ إلى الناس أحسن الله إليه؛ فالجزاء من جنس العمل: ( من فطر صائما كان له مثلُ أجره من غير أن ينتقصَ من أجر الصائم شيء )، و ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة ).
8- علمنا رمضان: أن الدنيا إلى زوال؛ نعيمها لا يدوم، و راحتها لا تدوم، و سعادتها لا تدوم، و سرورها لا يدوم، و الإنسان فيها لا يدوم.
و لنا في انقضاءِ رمضانَ بهذه السرعة الفائقة عِبرة و عظة، فقدْ كُنَّا نعيشُ أيامَهُ فَرِحينَ متنعمينَ بها، ثُمَّ انقضتْ تِلكُمُ الأيامُ و كأَنها طيفُ خيالٍ، مضتْ تلكَ الأيامُ لِنقطَعَ بها مرحلةً مِنْ حياتِنَا لَنْ تعودَ إلينا أبدًا، و إنَّما يبقى لنا ما أودعنَاهُ فيها مِنْ خيرٍ أو شرٍّ، و هكذا الأيامُ التي تمرُّ علينا تنقص منْ أعمارِنا و تُقرِّبنا مِنْ آجالِنا، قال الحسن البصريُّ رحمه الله: "ابنَ آدمَ إنَّما أنت أيَّام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضُك".
تَزَوَّدْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ رَاحِل
وَ سَارِعْ إِلَى الْخَيْرَاتِ فِيمَنْ يُسَارِعُ
فَمَا الْمَالُ وَ الأَهْلُونَ إِلاَّ وَدَائِعٌ
وَ لاَ بُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرَدَّ الوَدَائِعُ
فنحن الذين تعلقتَ قلوبنا بهذه الدنيا: يجب أن نعلم أنها ستمضي كما مضى رمضان، و كما مضت الشهور و الأعوام و الدهور قبل رمضان، و سينسى أهل النعيم نعيمهم، و البؤساء بؤسهم، حين يفترق الناس إلى فريقين: { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } [الشورى:ها7].
9- علمنا رمضان: أننا فقراء إلى الله؛ نحتاج إلى رزقه و عطائه و كرَمه و إحسانه. فيا من أحسست بألم الجوع و العطش في رمضان، ماذا لو أمسك الله عنك رزقه؟ هل ينفعك مالك؟ أم قوتك؟ أم جاهك؟ أم منصبك؟ { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ ] [الملك: 21]، { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } [الملك: 30].
فإن عرفنا حقيقة فقرنا إلى الله تعالى دوامنا على عبادتنا و لم نغترّ بقوتنا أو مالنا أو منصبنا أو جاهِنا؛ فالله سبحانه و تعالى يقول لنا: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَ مَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [فاطر: 15-17].
أحوال الناس مع رمضان
إنَّ شهرَ رمضان كما وصفه رسول الله صلى الله عليه و سلم: شهرٌ أولهُ رحمةٌ، و أوسطُه مغفرةٌ، و آخرُه عتقٌ من النار ، وذلك لأنَّ الناس مع هذا الشهر لهم أحوال مختلفة:
- فمنهم مَنْ وافاه هذا الشهر و هو مستقيمٌ على الطاعة، محافظٌ على صلاة الجمع و الجماعة، مبتعدٌ عن المعاصي، ثم اجتهد في هذا الشهر بفعل الطاعات، فكان زيادة خير له؛ فهذا تناله رحمة الله؛ لأنَّه محسنٌ في عمله، و قد قال تعالى: { إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف: 56].
- و منهم مَنْ وافاه هذا الشهر، فصام نهاره، و قام ما تَيسَّرَ من ليله، و هو قبل ذلك محافظٌ على أداء الفرائض و كثيرٍ من الطاعات، لكن عنده ذنوبٌ دون الكبائر؛ فهذا تناله مغفرة الله، قال تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا } [النساء:31]، و قال النبي صلى الله عليه و سلم: الصلوات الخمسُ، و الجمعة إلى الجمعة، و رمضانُ إلى رمضان كفارة لما بينَهُنَّ إذا ما اجُتنبت الكبائر.
- و منهم مَنْ وافاه شهر رمضان و عنده ذنوبٌ كبائر، لكنها دونَ الشركِ، و قد استوجبَ بها دخول النار، ثم تاب منها، و صام هذا الشهر، و قام ما تيسر منه، فهذا يناله الإعتاق من النار بعد ما استوجب دخولها.
- و منهم مَنْ وافاه الشهر و هو مقيمٌ على المعاصي من فعل المحرمات، و ترك الواجبات، و إضاعة الصلاة، فلم يتغيَّر حاله، و لم يَتُبْ إلى الله من سيئاته. أو تاب منها توبةً مُؤقَّتة في رمضان، و لمَّا انتهى رمضان عاد إليها، فهذا هو الخاسر الذي خسِرَ حياته. و ضيَّع أوقاته، و لم يستفِدْ من هذا الشهر إلا الذنوب و الآثام، و قد قال جبريل للنبي عليهما الصلاة و السلام: و مَنْ أدركه شهرٌ رمضان، فلم يُغْفَر له فأبْعَده الله قُل آمين، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: آمين ، و المحروم مَنْ حرمَهُ الله، و الشقيُّ من أبعدَه الله (موقع الشيخ صالح بن الفوزان).
الغرور مصيدة الشيطان
حذاري من الاغترار بما حصل من الطاعات في رمضان، بعض الناس اجتهدوا فعلاً صاموا، و حفظوا جوارحهم، و ختموا القرآن، و عملوا عمرة في رمضان، و صلوا التراويح، صلوا قيام رمضان كله من أوله إلى آخره لم يخرموا منه يوماً أو ليلة، و فعلوا ما فعلوا من الصدقات، و قدموا ما قدموا، و جلسوا في المساجد من بعد الفجر إلى ارتفاع الشمس، و بعد الصلاة يقرؤون القرآن، و قبل الصلاة ينتظرون الصلاة، حصلت عبادات كثيرة، لكن إذا كانت النفس سيئة، إذا كان الطبع متعفناً فإن كثرة العبادة لا تنفع بل إن الشيطان يوسوس و يقول: لقد فعلت أشياء كثيرة و طاعات عظيمة، خرجت من رمضان بحسنات مثل الجبال، فرصيدك في غاية الارتفاع، صحائف حسناتك مملوءة و كثيرة فلا عليك بعد ذلك ما عملت، و يصاب بالغرور و بالعجب، و تمتلئ نفسه تيهاً و فخراً، و لكن آية من كتاب الله تمحو ذلك كله، و توقفه عند حده، و تبين له حقيقة الأمر، و هي قول الله تعالى: { وَ لَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [المدثر: 6] وَ لَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ أتمن على الله؟ أتظن أنك فعلت له هذه الأشياء تكون أنت قد قدمت له أشياء عظيمة تظنها كخدمة من خدمات البشر؟ وَ لَا تَمْنُن تَسْتَكْثِر لا تمن على الله بعملك، لا تفخر، لا تغتر، لا تصاب بالعجب، وَ لَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ و تتخيل أن أعمالك كثيرة،
فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال في الحديث الحسن الذي رواه البخاري: ( لو أن رجلا يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرما في مرضاة الله تعالى لحقره يوم القيامة )، لجاء يوم القيامة فرآه قليلاً ضعيفاً، لرآه حقيراً، لرأى عمله لا يساوي شيئاً، فإنه لو قارنه بنعمة واحدة من نعم الله عز و جل كنعمة البصر أو غيرها لصار هذا قليلاً لا يساوي شيئاً، لم يكد يعمل شيئاً، و لذلك فإن الناس لا يدخلون الجنة بأعمالهم، و إنما يدخلونها برحمة الله تعالى، ليست الأعمال ثمناً للجنة لكنها سبب لدخول الجنة، لا ندخل الجنة إلا بالأعمال الصالحة، الذي لم يعمل صالحاً لا يدخل الجنة فهي سبب لكنها ليست الثمن، فبدون رحمة الله الأعمال لا تؤهل لدخول الجنة بل و لا تسديد حق نعمة واحدة من النعم (الشيخ محمد صالح المنجد).
لا تكن رمضانيا!
لقد اعتادت النفوس في شهر الخير و البركات وموسم المغفرة والرحمات، على الإقبال على الطاعات، والمسارعة في الخيرات، و التنافس في سائر القربات، و لكن بمجرد إعلان ليلة العيد نجد الكثير من المسلمين قد تنكبوا الطريق، و ضلوا السبيل و انحرفوا عن الصراط المستقيم، و انفلتوا من ال��اعات، و انغمسوا في الملاهي و الملذات، و سارعوا إلى المعاصي و الشهوات، بل وقعوا في كبائر الإثم و عظائم الموبقات.
و لقد ذمّ السّلف هذا الصّنف من النّاس و هذا النّوع من الأجناس.
قيل لبِشْرٍ: "إن قومًا يجتهدون و يتعبدون في رمضان". فقال: "بئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان، إن الصالح يجتهد و يتعبد السنة كلها"
و سئل الشّبلي: "أيهما أفضل رجب أو شعبان" فقال: كن ربانيًّا، و لا تكن شعبانيًّا".
فالواجب أن نلزم طاعة الله عز و جل على الدوام، فرَبُّ شعبان و رمضان هو رب الشهور كلها، فليس لعموم الطاعة زمن محدد، و ليس للتقوى موسم مخصص، فعمل العبد لا ينتهي بموسم، و لا ينقضي عن مناسبة، بل العبد مأمور بالعمل حتى الممات { وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر:99].
عن علقمة، قال: ( سألت أم المؤمنين عائشة، قُلْتُ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ؟ قَالَتْ: «لاَ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطِيعُ» ) [ صحيح البخاري].
فكان الرسول صلى الله عليه و سلم يستمر في العمل الصالح، و يداوم على العبادة و يواظب على الطاعة.
و من علامة توفيق الله عز وجل و قبوله العمل أن يتبع الحسنة بعد الحسنة، و يوفقه على المواظبة على فعل الخير، و لزوم طريق الاستقامة و طريق الهداية قال تعالى: { وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَ آَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد: 17].
مآسي رمضان
عجبا للذين دخلوا رمضان بالمعاصي و خرجوا بالمعاصي، إنهم لم يستفيدوا شيئاً قال الله تعالى: { وَ إِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَ قَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } [المائدة :61]. قال ابن كثير رحمه الله: هذه صفة المنافقين، و قد دخلوا، أي: عندك يا محمد بالكفر يعني: مستصحبين الكفر في قلوبهم، ثم خرجوا من عندك و الكفر كامن فيها، لم ينتفعوا بما سمعوا، لم يفد فيهم العلم، لم تنجع فيهم المواعظ و الزواجر، فالذين دخلوا رمضان ثم خرجوا مثلما كانوا قبل رمضان أو أسوأ تنطبق عليهم هذه الآية، دخلوا بالمعاصي و خرجوا بالمعاصي، بعد رمضان رجعوا إلى ما كانوا فيه من المنكرات، لم يستفيدوا من رمضان، رمضان لم يورث توبة عندهم، و لا استغفاراً، و لا إقلاعاً عن المعاصي، و لا ندماً على ما فات، لقد كانت محطة مؤقتة ثم رجعوا إلى ما كانوا فيه، هذه النفسية السيئة هل عبدت الله حق عبادته؟ هل وفت حق الله؟ هل أطاعت الله أصلاً؟ هذه مصيبة كبيرة أن يعود شُرَّابُ الخمور إلى خمورهم، و متعاطوا المخدرات إلى مخدراتهم، و أصحاب الزنا إلى الزنا، و أصحاب الربا إلى الربا، و أصحاب الفسق و مجالس اللغو إلى اللغو، و أن يعود أصحاب السفريات المحرمة إلى السفريات المحرمة، هذه مصيبة و الله كارثة، دخلوا بالمعاصي و خرجوا بالمعاصي ما استفادوا شيئاً أبداً.
و قريبا من أولئك العصاة، هناك بعض الناس يقلعون عن المعاصي و يعبدون الله في رمضان و يتصورون أن ما حصل في رمضان كافٍ للتكفير عن سيئات الأحد عشر شهراً القادمة، و لذلك فهو يحمل على ما مضى و يعول على ما مضى، و كأن هذا باعتباره و نظره ما حصل منه كافٍ، مستند يستند عليه، و متكأ يتكئ عليه لمعصية الله تعالى، و هو ما درى ربما رد على أعقابه ولم يقبل منه عمل واحد في رمضان.
قوافل التوبة
لا زالت المواكب تمضي قُدُماً، و القوافل يتلو بعضها بعضاً.. امتدادٌ عريق على طول الزمن.. ركب فيها آدم و نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلى الله عليهم و سلم أجمعين، ثم تلاهم الصحابة الأخيار، و التابعون الأطهار، و كل برٍّ تقي مختار.
تلك هي قوافل التائبين، و مواكب العائدين، و مراكب الناجين.. عليهم إشراقة الإيمان و نفحة الرضا، و أُنْس الخلوة، و جلال العبادة، و جمال الطاعة { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } [الفتح: 29].
عرفناهم: في مراوحة الأقدام بالقيام.
عرفناهم: في الصدقة الجزلة والعطاء الكريم والتبرُّع السخي.
عرفناهم: في تلاوة القرآن و ترتيله و تدبُّره و ترديده.
عرفناهم: في كل عمل خير، و طريق برّ.
لهم مع كل هيعة صياح.. و يمنعهم من النوم النياح..
فيا قوافل التائبين! أهلاً و سهلاً. كيف لا نفرح بالتائبين، و قد فرح بهم رب العالمين؟ كمـا فـي حـديث: ( لَله أشـد فرحاً بتـوبة عـبـده...) [أخـرجـه البخاري].
فالقلوب تلين عند سماع خبرهم، و الأفئدة ترقُّ عند ذكر حديثهم، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( جالسوا التوابين؛ فإنهم أرقُّ شيء أفئدة ) [حلية الأولياء: 1/51].
يا معشر التائبين! من أقامكم و أقعدنا؟ من قرَّبكم و أبعدنا؟ { إن نَّحْنُ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } [إبراهيم:11]، قفوا لأجل زَمِن، ارحموا من قد عطب. إن كرهتم لنا الصحبة فاجعلونا و لو في الخدم.. نعوذ بالله من الحرمان و نسأله العفو و الغفران.
أيها العاصي المقصِّر! - و كلنا ذلك - شهر كريم مبارك ولى و بقيت حسرته في القلب نارا تحرق الجسد و الروح: كيف ضاع منا رمضان؟ لو كنا نسمع أو نعقل ما ضيعنا شهر التوبة و المغفرة و الرحمة و العتق من النار؟
أيها العاصي المقصِّر! - و كلنا ذلك - إن رحل رمضان فرب رمضان حي لا يموت يدعونا إليه لنتوب: {‏‏ وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَ يَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} ‏[‏الشورى‏:‏25‏]‏،
أيها العاصي المقصر - و كلنا ذلك - بادرْ بالتوبة و لا تسوِّف، فالعمر قصير، و الأمر عسير، و الطالب غالب.. قال لقمان لابنه: يا بنـي! لا تؤخر التوبة؛ فإن الموت يأتي بغتة، و من ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين خطرين عظيمين: أحدهما: أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير ديناً و طبعاً فلا يقبل المحوَ، و الثاني: أن يعاجله المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو.
بادرْ بالتوبة، و أعلن إلى الله الأَوْبة، و تدارك نفسك ما دمت في وقت المهلة قبل: { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَ إن كُنتُ لَـمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْـمُتَّقِينَ} [الزمر: 56-57].
التوبة وظيفة العمر، فهي كما تكون عن الخطيئة فإنها تكون عن التقصير في أداء حق المنعم و شكره، و من ذا يؤدي للإله حقه أو يقوم له بتمام شكر النعمة؟!
كان الرسول صلى الله عليه و سلم و قد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه و ما تأخَّر - يستغفر الله و يتوب إليه في اليوم مائة مرة! أَوَلسنا أَوْلى بذلك منه و أحوج.
التوبة بداية العبد و نهايته، خاطب الله بها أهل الإيمان وحَمَلته من الصحابة رضي الله عنهم بعد جهادهم الطويل و صبرهم و عبادتهم و هجرتهم فقال: { وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْـمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
و حين تُوجَد المحاسبة تُعرَف قيمة التوبة؛ إذ بالمحاسبة يُعرَف النقـص، أمَّا أن يعمـل الإنسان و لا يلـوي على شـيء و لا يدري عن شيء؛ فتلك هي الغفلة؛ أعاذنا الله منها.
أيها العاصي المقصر - و كلنا ذلك - إياك و اليأس و القنوط من روح الله و رحمته، فإذا كرَّرت الذنب فكرِّر التوبة، و إذا أحدثت خطأً فأحدث له أَوْبة؛ فإن الله لا يملُّ حتى تملوا.
أيها العاصي المقصر - و كلنا ذلك - إغسل قلبك بدموع التوبة و التحق بقوافل التائبين السائرين على طريق الهدى الذين هداهم الله عز وجل و زادهم هدى.
إن التوبة ليست عن الماضي فقط، و لا عن المستقبل فحسب؛ و إنما هي إقلاع في الحاضر يَقْطع، و ندم على الماضي يَدْفع، و عزم على عدم العود يَمْنع. إذا أذنـبت فتُـبْ و اندم، فقد سبقك أبوك آدم فعصى، فلا تقلِّد أباك في الذنب و تقعد عن تقليده في التوبة.
أيهـا التـائب! إن قعودك بعد التوبة عجز و مهانة، كنتَ قبل الهداية من دعاة الضلالة، فلما أنْ هداك الله لزمت بيتك و اشتغلت في خاصة نفسك و ظننت أن ذلك يغنيك، أجبَّارٌ في الجاهلية خَوَّارٌ في الإسلام؟! كنت قبلُ تنفق على الفساد و الإفساد دراهمَ غير معدودة؛ من دخان و غناء و أفلام و سفر و سهر، فلما أنْ هداك الله بخلْتَ بوقتك و بدراهم معدودة؟! فهل جمَّد الشيطان رصيدك و قطع صرف دراهمك بعد الهداية؟! و هل خوَّفك الفقر؟! { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَ اللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَ فَضْلاً وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268].
قال ميمون بن مهران: (من أساء سرّاً فليتبْ سرّاً، و من أساء علانية فليتبْ علانية؛ فإن الله يغفر و لا يعَيِّر، و الناس يعيِّرون و لا يغفرون) [حلية الأولياء: 4/92]، و المعنى: أن ذنب السِّرِّ تكفيه توبة السِّرِّ، أما الذنب الذي استطار شرره، و عمَّ الفضاءَ دخانُه و بلاؤه؛ فلا بد له من توبة يشرق نورها و يفوح عبيرها بالعلم و العبادة و الإصلاح. ( الشيخ إبراهيم بن صالح الدحيم رحمه الله).
فضائل و أسرار التوبة
للتوبة فضائل جمة و أسرار بديعة:
فمن ذلك أنها سبب الفلاح: { وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النــور:31].
و سبب لمحبة الله: { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } [البقرة: 222].
و سبب لدخول الجنة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } [التحريم:8].
و هي سبب تبديل السيئات حسنات قال سبحانه: { إِلَّا مَن تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [الفرقان:70].
إنها تمحو الذنب حتى يغدو التائب من الذنب كمن لا ذنب به، كما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم.
إنها سبب دعوة الملائكة: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَ عِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [غافر:7].
قال خلف بن هشام البزار: "كنت أقرأ على سليم بن عيسى، فلما بلغت هذه الآية: وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا بكى، ثم قال: يا خلف ما أكرم المؤمن على الله نائم على فراشه، و الملائكة يستغفرون له".
إن التوبة سبب للمتاع الحسن: { وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } [هود:3].
و هي سبب نزول الأمطار، و زيادة القوة، و الإمداد بالأموال و البنين: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا، وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا } [نوح:12].
و الله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه، كما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم: ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، و عليها طعامه و شرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها؛ قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، و أنا ربك؛ أخطأ من شدة الفرح ) [رواه مسلم]، و هذا يدل على فرح الرب بتوبة العبد، و أنه سبحانه يحب ذلك محبة عظيمة مع كونه مستغنياً عن العباد، و لكن لمحبته للعفو، و هو الكريم، فإنه يفرح بتوبة الإنسان.
قال ابن القيم رحمه الله: "فأي فرحة تعدل فرحة هذا؟ ولو كان في الوجود فرح أعظم من فرح هذا لمثَّل به النبي صلى الله عليه و سلم، و مع هذا ففرح الله بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم من فرح هذا براحلته"، هذا الكرم الإلهي، و هذا الفرح الرباني بتوبة العبد يدفع كل عاص إلى التوبة، و يفتح الأبواب.
و على كل مذنب أن يتوب، ولو كان يكرر الوقوع في الذنب، فإنه لو تاب من كل ذنب توبة صحيحة تاب الله عليه، كما دل عليه الحديث: ( أذنب عبد ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك و تعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، و يأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك و تعالى: عبدي أذنب ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، و يأخذ بالذنب... ) [رواه مسلم].
و قيل للحسن رحمه الله: "ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه، ثم يعود، ثم يستغفر، ثم يعود؟" كأن السائل يقول: لا فائدة من توبة هذا، فقال الحسن رحمه الله: "ود الشيطان لو ظفر منكم بهذا؛ فلا تملوا من الاستغفار".
و قد يقول بعض الناس: السفاح، الظالم، الطاغية، هل يقبل الله توبته؟
الجواب: نعم، و ما المانع من ذلك؟ ألم تر أن الله قال في المجرمين أصحاب الأخدود، الذين حرقوا أولياءه، حتى الأطفال، قال الله: { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10] فماذا لو تابوا؟ تتغير المسألة، قال الحسن رحمه الله: "انظروا إلى هذا الكرم و الجود! انظروا إلى هذا الكرم و الجود! قتلوا أولياءه، و هو يدعوهم إلى التوبة و الرحمة".
و قد حذر الله تعالى عباده من القنوط من رحمته مهما عظمت الذنوب: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [الزمر:53]، و قد قال الله عن النصارى الذين زعموا أن المسيح هو الله، أو أن المسيح ابن الله، أو أن المسيح ثالث ثلاثة، و سبوا الله سباً لم يسبه مثلهم أحد قال: { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة:74]، إذاً لو تابوا تاب الله عليهم، قال ابن عباس رضي الله عنه: "من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله" (الشيخ محمد صالح المنجد).
Tumblr media
77 notes · View notes
tadkiraimania · 3 years
Text
Tumblr media
ما أحوجنا إلى الاقتداء بنبينا و التأسي به صلى الله عليه و سلم في عبادته و تقربه، و العبد و إن لم يبلغ مبلغه، فليسدد و ليقارب.
فاتباع النبي صلى الله عليه و سلم سبب السعادة كما أن ترك ذلك سبب الشقاوة.
لذلك أمرنا الله تعالى بطاعته طاعة مطلقة:
قال تعالى: ﴿وَ مَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر:7].
و قال تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء:80].
و قال تعالى: ﴿ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب:71].
بل إن مفتاح الجنة في اتباع السنة:
ففي صحيح البخاري قال عليه الصلاة و السلام: ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: و من يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة و من عصاني فقد أبى ).
مقاصد الصوم
قال الإمام ابن القيم رحمه االله في كتابه زاد المعاد: لما كان المقصود من الصيام:
1- حبس النفس عن الشهوات، و فطامها عن المألوفات.
2- و تعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها و نعيمها، و قبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية.
3- و يكسر الجوع و الظمأ حدتها و سورتها، و يذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين.
4- و تضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام و الشراب.
5- و تُحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها و معادها.
6- و يسكن كل عضو منها و كل قوة عن جماحه، و تُلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، و جنة المحاربين، و رياضة الأبرار و المقربين.
7- و هو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئاً، و إنما يترك شهوته و طعامه و شرابه من أجل معبوده.
8- و هو سر بين العبد و ربه لا يطلع عليه سواه. و العباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، و أما كونه ترك طعامه و شرابه و شهوته من أجل معبوده، فهذا أمر لا يطلع عليه بشر، و ذلك حقيقة الصوم.
تأثير الصوم على القلب و الجوارح
و للصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، و القوى الباطنة، و حميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، و استفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها.
فالصوم يحفظ على القلب و الجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة-183]، و قال النبي صلى الله عليه و سلم: ( الصوم جُنة ) [متفق عليه].
و أمر من اشتدت عليه شهوة النكاح، و لا قدرة له عليه بالصيام، و جعله وجاء (دافع) هذه الشهوة.
و المقصود أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة و الفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده ؛ رحمة بهم، و إحسانا إليهم، و حمية لهم و جنة (سترة و وقاية).
و كان هدي رسول االله صلى االله عليه و سلم فيه أكمل الهدي و أعظم تحصيل للمقصود و أسهله على النفوس.
سبب تأخير فرضه
و لما كان فطم الناس عن مألوفاتها و شهواتها من أشق الأمور و أصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لما توطنت النفوس على التوحيد و الصلاة، و ألفت أوامر القرآن، فنقلت إليه بالتدريج.
و كان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله و قد صام تسع رمضانات.
كيفية فرض الصيام
و فرض أولاً على وجه التخيير بينه و بين أن يطعم عن كل يوم مسكيناً. ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم.
و جعل الإطعام للشيخ الكبير و المرأة إذا لم يطيقا الصيام، فإنهمايفطران، و يطعمان عن كل يوم مسكيناً، و رخص للمريض و المسافر أن يفطرا و يقضيا ؛ و للحامل و المرضع إذا خافتا على أنفسهما كذلك، فإن خافتا على ولديهما، زادتا مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم، فإن فطرهما لم يكن لخوف مرض، و إنما كان مع الصحة، فجبر بإطعام المسكين، كفطر الصحيح في أول الإسلام.
و كان للصوم رتب ثلاث:
إحداها: إيجابه بوصف التخيير.
و الثانية: تحتمه، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم، حرم عليه الطعام و الشراب إلى الليلة القابلة، فنسخ ذلك بالرتبة التالية:
الثالثة: و هي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة.
الإكثار من أنواع العبادة
و كان من هديه صلى االله عليه و سلم في شهر رمضان: الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل عليه السلام يدارسه القرآن في رمضان، و كان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، و كان أجود الناس، و أجود ما يكون في رمضان ؛ يكثر فيه من الصدقة و الإحسان، و تلاوة القرآن، و الصلاة، و الذكر، و الاعتكاف.
و كان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً، ليوفر ساعات ليله و نهاره على العبادة.
و كان ينهى أصحابه عن الوصال، فيقولون له: إنك تواصل،فيقول: ( ليست كهيئتكم، إني أبيتُ - و في رواية: «إني أظل» - عند ربي يطعمني و يسقيني ) ]متفق عليه].
و قد نهى رسول االله ﷺ عن الوصال رحمة للأمة و أذن فيه إلى السحر، و في صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي يقول: ( لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل إلى السحر ) فهذا أعدل الوصال، و أسهله على الصائم، و هو في الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنه تأخر، فالصائم له في اليوم و الليلة أكلة، فإذا أكلها في السحر، كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره.
هديه ﷺ في ثبوت الشهر
و كان من هديه صلى االله عليه و سلم أن لا يدخل في صوم إلا برؤية محققة، أو بشهادة شاهد واحد، كما صام بشهادة ابن عمر، و صام مرة بشهادة أعرابي، و اعتمد على خبرهما، و لم يكلفهما لفظ الشهادة، فإن كان ذلك إخبارا فقد اكتفى في رمضان بخبر الواحد، و إن كان شهادة فلم يكلف الشاهد لفظ الشهادة، فإن لم تكن رؤية و لا شهادة أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً.
و كان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيم أو سحاب، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً، ثم صامه.
و لم يكن يصوم يوم الإغمام، و لا أمر به، بل أمر بأن تكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم، و كان يفعل ذلك، فهذا فعله، و هذا أمره. و لا يناقض هذا قوله: ( فإن غم عليكم فاقدروا له ) [متفق عليه].
فإن القدر: هو الحساب المقدر، و المراد به: إكمال عدة الشهر الذي غم، كما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: ( فأكملوا عدة شعبان ).
هديه ﷺ في الخروج من الشهر
و ��ان من هديه صلى االله عليه و سلم: أمر الناس بالصوم بشهادة الرجل الواحد المسلم، و خروجهم منه بشهادة اثنين.
و كان من هديه: إذا شهد الشاهدان برؤية الهلال بعد خروج وقت العيد أن يفطر، و يأمرهم بالفطر، و يصلي العيد من الغد في وقتها.
هديه ﷺ في الفطر و السحور
و كان يعجل الفطر و يحض عليه، و يتسحر، و يحث على السحور، و يؤخره، و يرغب في تأخيره.
و كان يحض على الفطر بالتمر، فإن لم يجد فعلى الماء، هذا من كمال شفقته على أمته، و نصحهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله، و انتفاع القوى به، و لا سيما القوة الباصرة، فإنها تقوى به.
و حلاوة المدينة التمر، و مرباهم عليه، و هو عندهم قوت و أدم، و رطبه فاكهة.
وأما الماء: فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء، كمل انتفاعها بالغداء بعده، و لهذا كان الأولى بالظمآن الجائع أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء، ثم يأكل بعده، هذا مع ما في التمر و الماء من الخاصية التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب.
مع النبي ﷺ في فطره
و كان صلى االله عليه و سلم يفطر قبل أن يصلي. و كان فطره على رطبات - إن وجدها- فإن لم يجدها، فعلى تمرات، فإن لم يجد فعلى حسوات من ماء.
و روي عنه أنه كان يقول إذا أفطر: ( ذهب الظمأ، و ابتلت العروق، و ثبت الأجر إن شاء االله تعالى ) [رواه أبو داود]. و يذكر عنه : ( إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد ) [رواه ابن ماجة].
و صح عنه أنه قال: ( إذا أقبل الليل من هاهنا، و أدبر من هاهنا، فقد أفطر الصائم ) [متفق عليه].
و فسر بأنه قد أفطر حكماً، و إن لم ينوه، و بأنه قد دخل وقت فطره، كأصبح و أمسى.
آداب الصائم
و نهى الصائم عن الرفث، و الصخب، و السباب، و جواب السباب، فأمره أن يقول لمن سابه ( إني صائم ) [متفق عليه].
فقيل: يقول بلسانه، و هو أظهر.
و قيل: بقلبه ، تذكيراً لنفسه بالصوم.
و قيل: يقوله في الفرض بلسانه، و في التطوع في نفسه؛ لأنه أبعد عن الرياء.
السفر في رمضان
و سافر رسول االله صلى االله عليه و سلم في رمضان، فصام و أفطر، و خيَّر الصحابة بين الأمرين.
و كان يأمرهم بالفطر إذا دنوا من عدوهم؛ ليتقووا على قتاله.
الفطر بسبب الجهاد
فلو اتفق مثل هذا في الحضر، و كان في الفطر قوة لهم على لقاء عدوهم فهل لهم الفطر؟
أصحهما دليلاً أن لهم ذلك، و هو اختيار ابن تيمية، وبه أفتى العساكر الإسلامية لما لقوا العدو بظاهر دمشق.
و لا ريب أن الفطر لذلك أولى من الفطر لمجرد السفر، بل إباحة الفطر للمسافر تنبيه على إباحته في هذه الحالة، و أنها أحق بجوازه.
لأن القوة هناك تختص بالمسافر، والقوة هنا له و للمسلمين. و لأن مشقة الجهاد أعظم من مشقة السفر.
و لأن المصلحة الحاصلة بالفطر للمجاهد أعظم من المصلحة بفطر المسافر.
و لأن االله تعالى قال: { وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } [الأنفال-60] و الفطر عند اللقاء من أعظم أسباب القوة.
و النبي صلى االله عليه و سلم قد فسر القوة بالرمي، و هو لا يتم، و لا يحصل به مقصوده إلا بما يقوي و يعين عليه من الفطر و الغذاء.
و لأن النبي صلى االله عليه و سلم قال للصحابة لما دنوا من عدوهم: ( إنكم قد دنوتم من عدوكم، و الفطر أقوى لكم ) و كانت رخصة، ثم نزلوا منزلا آخر فقال: ( إنكم مصبحو عدوكم، و الفطر أقوى لكم فأفطروا ) [رواه مسلم].
فكانت عزمة فأفطروا.
فعلل بدنوهم من عدوهم و احتياجهم إلى القوة التي يلقون بها العدو، و هذا سبب آخر غير السفر ، السفر مستقل بنفسه، و لم يذكره في تعليله، و لا أشار إليه.
و أما إذا تجرد السفر عن الجهاد، فكان رسول االله يقول في الفطر: ( هي رخصة من االله، فمن أخذ بها فحسن ، و من أحب أن يصوم فلا جناح عليه ).
و سافر رسول االله صلى االله عليه و سلم في رمضان في أعظم الغزوات و أجلها: في غزاة بدر، و في غزاة الفتح.
هديه ﷺ في مسافة السفر
و لم يكن من هديه صلى االله عليه و سلم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد، و لا صح عنه في ذلك شيء.
و قد أفطر دحية الكلبي في سفر ثلاثة أميال، و قال لمن صام: قد رغبوا عن هدي محمد ﷺ.
و كان الصحابة حين ينشؤون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، و يخبرون أن ذلك سنته و هديه ﷺ كما قال عبيد بن جبر: ( ركبت مع أبي بصرة الغفاري، صاحب رسول االله ﷺ في سفينة من الفسطاط في رمضان، فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة. قال: اقترب. قلت: ألست ترى البيوت ؟ قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول االله ﷺ؟ ) [رواه أبو داود و أحمد].
و قال محمد بن كعب: ( أتيت أنس بن مالك في رمضان و هو يريد سفراً، و قد رحلت له راحلته، و قد لبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال: سنة، ثم ركب ).
قال الترمذي: حديث حسن، و قال الدارقطني فيه: فأكل و قد تقارب غروب الشمس.
و هذه الآثار صريحة في أن من أنشا السفر في أثناء يوم من رمضان، فله الفطر فيه.
هديه ﷺ في غسل الجنابة
و كان من هديه صلى االله عليه و سلم: أن يدركه الفجر و هو جنب من أهله، فيغتسل بعد الفجر (أي بعد أذان الفجر) و يصوم.
و كان يقبل بعض أزواجه و هو صائم في رمضان، و شبه قبلة الصائم بالمضمضة بالماء (و لكنه ﷺ كان يملك نفسه، أما غيره فقد لا يملك نفسه، و لذلك فقد كره أهل العلم القبلة للصائم إذا خشي ألا يملك نفسه).
هديه ﷺ فيمن أكل أو شرب ناسياً
و كان من هديه صلى االله عليه و سلم: إسقاط القضاء عمن أكل و شرب ناسياً، و أن االله سبحانه هو الذي أطعمه و سقاه، فليس هذا الأكل و الشرب يضاف إليه، فيفطر به، فإنما يفطر بما فعله، و هذا بمنزلة أكله و شربه في نومه، إذ لا تكليف بفعل النائم، و لا بفعل الناسي.
مفطرات الصائم
و الذي صح عنه صلى االله عليه و سلم: أن الذي يفطر به الصائم: الأكل، و الشرب، و الحجامة، و القيء.
و القرآن دال على أن الجماع مفطر، كالأكل و الشرب، و لا يعرف فيه خلاف، و لا يصح عنه في الكحل شيء.
و صح عنه أنه كان يستاك و هو صائم.
و ذكر الإمام أحمد عنه أنه كان يصب الماء على رأسه و هو صائم.
و كان يتمضمض و يستنشق و هو صائم، و منع الصائم من المبالغة في الاستنشاق.
و لا يصح عنه أن احتجم و هو صائم، قاله الإمام أحمد.
و لا صح عنه أنه نهى الصائم عن السواك أول النهار و لا آخره.
الرسول ﷺ الأسوة الحسنة في رمضان
لقد عرفنا فيما سبق ذكره كيف صام الرسول صلى الله عليه و سلم رمضان، و كيف كان هديه النبوي في تعليم أمته آداب صيام رمضان، و كيف كان يكثر من الطاعات في شهر رمضان، و يخصه من العبادات بما لا يخص غيره من الشهور.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحتفل برمضان و يحتفي به و ينبه أصحابه و أمته لفضيلة هذا الشهر و كيفية استقباله، و اغتنام أيامه و لياليه دون إفراط أو تفريط، فيقول: ( إن هذا الشهر قد حضركم، و فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرمها فقد حُرم الخير كله، و لا يُحرم خيرها إلا محروم ) [صحيح سنن ابن ماجه 1333].
قال الله تعالى: { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب-21].
فرسولنا صلى الله عليه و سلم كان خلقه القرآن العظيم، و هو النبي الخاتم المبعوث رحمة للعالمين، كان علي رضي الله عنه إذا وصف النبي صلى الله عليه و سلم قال: ( أجود الناس صدراً و أصدق الناس لهجة و ألينهم عريكة، و أكرمهم عشيرة ، من رآه بديهةً هابه ، و من خالطه معرفةً أحبه، يقول ناعِته لم أر قبله و لا بعده مثله صلى الله عليه و سلم ) [أخرجه الترمذي، و ابن سعد، و البغوي في شرح السنة، و البيهقي في شعب الإيمان].
و رسولنا صلى الله عليه و سلم هو أسوتنا و قدوتنا في الدين و الدنيا تعبدا و سلوكا، قولا و فعلا، ظاهرا و باطنا، في السراء و الضراء، و في الحضر والسفر و في السلم و الحرب. لذلك يجب علينا اقتناص الفرص الذهبية في التأسي به صلى الله عليه و سلم في مسيرتنا الروحانية في رمضان بالتسابق إلي الخيرات، و اغتنام سويعاته في العبادة بالصيام و الصلاة و قراءة القرآن و قيام الليل، مع الصدقة على المحتاجين، و مع حفظ اللسان عن اللغو و الرفث و الغيبة و النميمة كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من لم يدع قول الزّور و العمل به، فليس لله حاجة في صلاته و صيامه) [رواه البخاري]،
و عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( أن امرأتين صامتا، و أن رجلاً قال: "يا رسول الله: إن ها هنا امرأتين قد صامتا و إنهما كادتا أن تموتا من العطش"، فأعرض عنه أو سكت، ثم عاد -وأراه قال بالهاجرة (من القيلولة)- قال: "يا نبي الله إنهما و الله قد ماتتا أو كادتا أن تموتا"، قال: «ادْعُهُمَا»، قال: فجاءتا، قال: فجيء بقدح أو عس، فقال لإحداهما: «قِيئِي»، فقاءت قيحاً أو دماً و صديداً و لحماً، حتى قاءت نصف القدح ثم قال للأخرى: «قِيئِي»، فقاءت من قيح و دم و صديد و لحم عبيط و غيره حتى ملأت القدح، ثم قال: «إِنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا عَمَّا أَحَلَّ اللَّهُ (الطعام و الشراب)، وَ أَفْطَرَتَا عَلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ، عز و جل، عَلَيْهِمَا، جَلَسَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الأُخْرَى، فَجَعَلَتَا يَأْكُلاَنِ لُحُومَ النَّاسِ»).. الحديث أخرجه الإمام أحمد [5/431] [24053]، و للعلماء فيه كلام.
فالحذر...! الحذر! أن نصوم على ما أحل الله عز و جل لنا ثم نفطر على ما حرم الله سبحانه و تعالى علينا، فنعرض أنفسنا للخسران في رمضان، و نعرض أنفسنا لغضب و مقت الله عز و جل، نعوذ بالله العظيم السميع العليم من الحور بعد الكور، و نعوذ بوجهه الكريم و جلال سلطانه من زوال نعمته و تحول عافيته و فجاءة نقمته و جميع سخطه.
التخطيط لشهر رمضان
الطالب المتفوق تجده يعد للسنة الدراسية قبل بدايتها، و العدَّاء الماهر يعد للسباق قبل حينه.. لذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يستعدون لرمضان قبل ستة شهور بالعمل و الإخلاص، و في الأشهر الأخرى بعد رمضان يسألون الله أن يبلغهم رمضان بالدعاء و الإستغفار.. و لذلك وجب علينا و نحن نستقبل رمضان بعد أيام قليلة بإذن الله عز وجل أن نستعد أيضاً و نجهز النفوس و الأهل و البيوت كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه و سلم.
و لذلك وجب علينا وضع برنامج أو تخطيط أو أجندة تنظيم الوقت في رمضان حتى لا نخبط خبط عشواء في ممارسة شعائر رمضان التعبدية.
فماذا نخطط في رمضان؟ وما هي أهدافنا في هذا التخطيط؟ رمضان أيام معدودات و لا يأتي سوى مرة واحدة في العام لهذا علينا إستغلال كل ساعة فيه للخير و العمل الصالح، أما غير ذلك من الأمور يمكن تأجيلها بعد إنقضاء الشهر الكريم. يجب أن نجلس مع أنفسنا و نحدد أولوياتنا طوال الشهر، و بما أن رمضان هو شهر القرآن فلابد و أن تكون العبادة و التقرب إلى الله هي أولويتنا طوال الشهر و بعدها يأتي أي شيء أخر مثل الأكل و النوم و التسوق و غير ذلك من متطلبات الحياة العادية.
طريقة لختم القرآن الكريم
الطريقة المثلى لختم القرآن، حتّى لا ننسى عدد الصفحات التي قرأناها خلال اليوم، تكون بعدد أجزاء القرآن الكريم الذي يتكوّن من 30 جزءًا، و الجزء الواحد من القرآن الكريم يتضمّن 20 صفحةٍ، و الوقت المستغرق لقراءة الصفحة الواحدة من القرآن دقيقةٌ واحدة إلى دقيقةٍ و نصف تقريبا و بقراءة جزء واحد نختم القرآن مرة واحدة في رمضان. و بقراءة جزئين نختم القرآن مرتين في رمضان (15 يوم لكل ختمة)، و بقراءة ثلاثة أجزاء نختم القرآن ثلاثة مرات في رمضان (10 أيام لكل ختمة)، و بقراءة أربعة أجزاء نختم القرآن أربع مرات في رمضان (8 أيام لكل ختمة)، و لا ننسى أن أهم شيء في ختم القرآن هو التدبر و الفهم و الخشوع و العمل بمعاني القرآن وليس فقط قراءة مباني القرآن، و ذلك كل حسب استطاعته و نشاطه و همته و وقته.
و الهدف الأكبر من ختم القرآن في رمضان هو: الحرص على قراءة القرآن الكريم و ختمه طوال السنة، و ليس فقط في رمضان؛ لأنّ من يُقبل على القرآن الكريم بقوّةٍ فقط في رمضان، سيُصاب بالتعب و الفتور بعد عدّة أيامٍ.
الأذكار اليومية في رمضان
قال الرسول صلى الله عليه و سلم: ( ألاَ أُنبِّئكم بخير أعمالكم، و أزْكاها عند مليككم، و أرفعها في دَرجاتكم، و خير لكم مِن إنفاق الذهب و الفِضَّة، و خير لكم مِن أن تلقَوا عدوَّكم فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم؟! قالوا: بلي! قال: ذِكْر الله ) [ رواه أبو الدرداء، قال الألباني إسناده صحيح- تخريج مشكاة المصابيح].
ذكر الله نجاة، و بركة و هداية، و نِعمة و نعيم و قرَّة عين، و أُنس و رُوح، و سعادة نفْس، و قوَّة قلْب... نعم؛ ذكر الله رَوحٌ و ريحان و جنَّة نعيم!
و أذكار الصباح و المساء لها وقت محدد ؛ بدليل التحديد الوارد في كثير من الأحاديث النبوية : " من قال حين يصبح .كذا و كذا ، و من قال حين يمسي كذا و كذا ".
كما أن هناك أذكاراً تقال في الليل كما ورد في الحديث من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه [رواه البخاري و مسلم]، و معلوم أن الليل يبدأ من المغرب و ينتهي بطلوع الفجر ، فعلى المسلم أن يحرص على الإتيان بكل ذكر مؤقت بوقت في وقته.
و لعل أقرب الأقوال عند العلماء، أن العبد ينبغي له أن يحرص على الإتيان بأذكار الصباح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فإن فاته ذلك فلا بأس أن يأتي به إلى نهاية وقت الضحى و هو قبل صلاة الظهر بوقت يسير ، و أن يأتي بأذكار المساء من العصر إلى المغرب ، فإن فاته فلا بأس أن يذكره إلى ثلث الليل، و الدليل على هذا التفضيل ما ورد في القرآن من الحث على الذكر في البكور وهو أول الصباح ، و العشي ، و هو وقت العصر إلى المغرب. قال تعالى : { وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ } [سورة قّ-39] و قال تعالى: { وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الأِبْكَارِ } [غافر-55].
الصلوات المكتوبة و النوافل في رمضان
رمضان فرصة للتغيير .. لمن كان مقصرًا في نوافل العبادات، فلم يجعل له منها نصيباً، و لم يأخذ لنفسه قسماً مفروضاً، فيغير من حاله، و يبدل من عاداته. قال الرسول صلى الله علي و سلم: ( إن أول ما يحاسب به العبد المسلم يوم القيامة الصلاة المكتوبة فإن أتمها و إلا قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك ) [رواه ابن ماجه 1425].
و أقل الوتر ركعة، و أقل الضحى ركعتان، و عدد السنن الرواتب إثنتا عشرة ركعة، ركعتان قبل الفجر، و أربع ركعات قبل الظهر، و ركعتان بعدها، و ركعتان بعد المغرب، و ركعتان بعد العشاء، يقول النبي صلى الله عليه و سلم: ( ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة أو إلا بني له بيت في الجنة ) [رواه مسلم]، و يقول صلى الله عليه و سلم: ( أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل ) [رواه مسلم]. و لنتذكر جيدا أن أجر النافلة في رمضان كأجر الفريضة فيما سواه، و أن أجر الفريضة في رمضان كأجر سبعين فريضة فيما سواه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: (... من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، و من أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه).
أعمال البر و الخير في رمضان
فأنواع البر و الخير و الطاعات كثيرة، و أهل الخير المعينون على الخير كثيرون، فما على المسلم إلا المسابقةُ في شهر رمضان إلى الخيرات و الباقيات الصالحات للفوز بجبال من الحسنات : كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الصدقة و حسن الخلق و تعلم القرآن و تعليمه و الدعاء للمسلمين و كفالة اليتيم و ابتسامة في وجه أخيك و الإخلاص لله تعالى و البعد عن المعاصي و غيرها من الأعمال الصالحة و ما أكثرها!
و لنعلم نحن المسلمون، و لننتبه إلى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، و أحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا؛ و لأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد -مسجد المدينة - شهرا ).. إلى أن قال: ( و من مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام ) [رواه الطبراني و غيره، و حسنه الألباني].
أدوات مساعدة للصائم في رمضان
تطبيق أذكاري
- يساعدك تطبيق أذكاري في الحصول على الأذكار و الأدعية اليومية و قراءتها على هاتفك.
- تطبيق اذكاري يحتوي على عدد هائل من الأذكار و الأدعية مع إمكانية إضافة الأدعية و الأذكار الخاصة بك.
- يمكنك من خلال التطبيق مشاركة الأدعية و الأذكار على وسائل التواصل الإجتماعي مباشرةً من داخل التطبيق.
- يمكنك من خلال تطبيق أذكاري استخدام الويدجيت الخاص بالتطبيق من أجل قراءة الأذكار بشكل أسرع.
- امكانية تعديل نوع وحجم الخط.
- اضافة التنبيهات اليومية.
- يمكنك سماع الاذكار و تشغيل ال��ذكار تلقائيا بالنقر على زر التشغيل التلقائي.
- تسهيل التنقل بين الادعية بواسطة السحب.
- يمكنك تخطي الادعية.
هذه بعض صور التطبيق:
Tumblr media
و هذا رابط تحميل التطبيق:
البرنامج الروحي للعبادة في رمضان
عندما تحاسب نفسك أولاً بأول، ستكتشف أخطاءك و تعالجها سريعًا، و لو كنت مقصرًا في العبادة، ستنتبه إلى تقصيرك، و تدرك ما فاتك قبل فوات الأوان.
يمكنك الآن أن تحاسب نفسك بجدول عبادي يومي، يفكرك بالصلاة و الذكر و قراءة القرآن و غيرها من العبادات، كما يمكنك أن تراجع أعمالك في الأيام السابقة، و تعمل على تحسينها.
إليكِ أخي الحبيب و أختي الفاضلة، أهدي هذا البرنامج الرائع المقترح الذي يُساعدك على اغتنام دقائق عمرك في رمضان أكبر و أفضل موسم للطاعات و كنوز الحسنات ، لنيل رضا ربِّ الأرض و السموات، البرنامج الروحي للعبادة في رمضان، إنه برنامج جميل يزودك بجدول عبادي بشكل يومي حتى تستطيع تنظيم وقتك لأداء كل العبادات في رمضان و متابعة نشاطك و مراجعته و تقييمه، يشتمل البرنامج على:
- يومية رمضان ل 30 يوما.
- سنن الصلاة 12 ركعة.
- التروايح و القيام.
- ورد القرآن الكريم.
- ورد الذكر اليومي.
- أعمال الخير.
و هذه صورة للبرنامج:
Tumblr media
طريقة استخدام البرنامج:
1- للدخول إلى موقع البرنامج إضغط على الرابط أسفله
2- تظهر لك صفحة تسجيل الدخول، قم بإدخال بريدك الالكتروني و كلمة سر مكونة من أربعة حروف أو أرقام.
3- تظهر صفحة البرنامج، إضغك على رقم 1 و هو يعني اليوم الأول من رمضان، ثم قم بملأ بيانات الجدول اليومي حسب الترتيب المشار إليه أعلاه، يمكنك التعديل على العدد بالزيادة أو النقصان و تغيير الوقت، و الاطلاع على تقييم لكل أعمالك التعبدية.
4- بعد تعبئة بيانات الجدول اليومي قم بالضغط على زر حفظ البيانات.
حقيبة الصائم في رمضان
تطبيق جامع، عدة للصائم، حقيبة تشمل كل ما قد يحتاج إليه الصائم خصوصا في شهر رمضان من: فتاوى، نصائح طبية، و توجيهات إيمانية. كما تم إضافة قسم خاص بالنساء يشتمل على برامج و فتاوى.
و هذه صور للتطبيق:
Tumblr media
و هذا رابط تحميل التطبيق:
Tumblr media
82 notes · View notes
tadkiraimania · 3 years
Text
Tumblr media
Tumblr media
أهلا رمضان
أيام قليلة تفصلنا بإذن الله عز و جل عن قدوم شهر رمضان المبارك، الذي تصفد فيه الشياطين و تتنزل فيه الرحمات، شهر هو موسم الخيرات و البركات، يتقلب فيه العبد المؤمن من نفحة إلى نفحات، نفحات فيها عبق الروحانية، و شذا القرب من الله عز و جل، و أريج الصدق و إخلاص العبادة. شهر الكنوز العظيمة، شهر الرحمة و المغفرة و العتق من النار. سيد الشهور، و ميدان السباق و التنافس على القصور في جنة عرضها السموات و الأرض أعدت للمتقين، يشمر فيه المشمرون السالكون ، و يغتنمه العاقلون الصالحون، و يفرح بقدومه المؤمنون الصادقون؛ قال الله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَ بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَ الْفُرْقَانِ } [البقرة-285].
شهر عجيب سره، و عليلة نسماته، زكية روائحه، و لطيفة أنفاسه، طيبة مجالسه، و صافية خطراته، عامرة لياليه، و فضيلة أيامه، و مباركة نفحاته. ذلك هو شهر رمضان الذي كرمه الله على باقي الشهور، موسم ليس كباقي المواسم قال فيه الصحابي سلمـان الفارسي رضي الله عنه: خطبنا رسول الله في آخر يوم من شعبان ( فقال: يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فرضا و قيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، و من أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، و هو شهر الصبر، و الصبر ثوابه الجنة، و شهر المواساة و شهر يُزَادُ في رزق المؤمن، من فطر فيه صائما كان له مغفرة لذنوبه و عتق رقبته من النار، و كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء قلنا: يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، فقال رسول الله: يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على مذقة لبن أو ثمرة أو شربة من ماء، و من أشبع صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة. و هو شهر أوله رحمة و أوسطه مغفرة و آخره عتق من النار ) " [الحديث أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، ج 3 ص 305-306].
نداءات رمضان
الله تعالى ينادي المؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا... ﴾ [البقرة-183] يتحبَّب الله تعالى إليهم بهذا النداء، و يتلطف الله عز وجل بهم بهذه الدعوة، لماذا؟ ليشحذوا هِمَمهم، و يُجمعوا أمرهم، و يوحِّدوا صفَّهم، و يُهيِّئوا أنفسهم لأمر الله تعالى؛ يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعتم: يا أيها الذين آمنوا، فارعها سمعك، فإنما هو أمر يأمرك الله به أو نهي ينهاك الله عنه، نعم؛ هو خير يأمرك الله به، أو شرٌّ يَنهاك الله عنه، ماذا يا رب؟ ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾ [البقرة-183]، و مع هذا النداء تتبعه نداءات كثيرات، حينما يهل علينا رمضان!
رمضان يُنادي: يا باغي الخير أقبل، و يا باغي الشر أقصر.
رمضان يُنادي: أولي رحمة، و أوسطي مغفرة، و آخري عتْق من النار.
رمضان يُنادي: الراء عندي رحمة، الميم: مغفرة، الضاد: ضمان الجنة، الألف: أمان من النار، النون: نور من العزيز الغفار.
رمضان يُنادي: إذا جئتُ فتِّحت أبواب الجنة، فلم يُغلَق منها باب، و غلِّقتْ أبواب النار فلم يُفتَح منها باب، و صفِّدت الشياطين.
رمضان يُنادي: رَغِمَ أنفُه مَن أدركني و لم يغفر له.
رمضان ينادي: من صامني إيمانًا و احتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه.
رمضان ينادي: مَن قامني إيمانًا و احتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه.
رمضان ينادي: تعرَّضوا لنفحاتي؛ فلعل أحدكم تصيبه نفحة فلا يشقَى بعدها أبدًا.
رمضان ينادي: عندي ليلة خير من ألف شهر، تَنزَّل الملائكة و الروح فيها من كل أمر، سلام هي حتي مطلع الفجر، مَن قامها إيمانًا و احتسابًا غفر له ما تقدَّم من ذنبه.
رمضان يُنادي: جئتكم تزكيةً لنفوسكم، و تقويةً لقُلوبكم، و تطهيرًا لصدوركم، و إعلاءً لشأنِكم، و مَغفِرةً لذنوبكم؛ كي تشعروا بالفقير الجائع، و المسكين الضائع، و اليتيم المكسور، و المعيل المقهور، فتقوى عزائمكم، و تعلو هِمَمكم، و يزداد إيمانكم، و تقتربوا من ربكم، فادعوه مخلصين، اللهم بلِّغنا رمضان، وتقبَّل منَّا (رجب وشعبان).
رمضان ينادي: لقد جاء المطهِّر، هذه العبارة كان يردِّدها الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه عند قدوم شهر رمضان المعظَّم؛ لأن رمضان حياة الرُّوح، حتى و إن كانت البطون خاويةً، و الشفاه يابِسةً، و الوجوه شاحبةً، فالحياة حياة الروح، و النضارة نضارة القلب، و الانتصار فيه على النفس و الشهوات، و مَن انتصَر على نفسه و شهواته كان جديرًا بالانتِصار على أعدائه.
رمضان ينادي: أنا شهر المَغفِرة، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، ثم يقول: ( من قام رمضان إيمانًا و احتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه ) [سنن أبي داود].
رمضان ينادي: أنا شهر الشفاعة، عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( الصيام والقرآن يشفعان للعبد؛ يقول الصيام: أي ربِّ، إني منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعِّني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعِّني فيه؛ فيُشفَّعان ) [صحيح، رواه البيهقي في شعب الإيمان]، إذًا فماذا نعمل في رمضان؟
إنها نداءات شهر رمضان تُعطي لمن أجابها نفحات إيمانية تتمثَّل في تقوى الله؛ ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة-183]، تَقذِف في قلبه نورًا يرى به الحق حقًّا، و الباطل باطلاً، يرى به الخير خيرًا و الشرَّ شرًّا، فضلاً عن غفران الذنوب و محْوِ السيئات؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد-28].
رمضان المطهر، إنه موسم من مواسم الطاعة، يطلُّ علينا من جديد، سوق من أسواق الحسنات يظلِّلنا من بعيد، محطة جديدة يتزود المؤمن من خلالها في طريقه إلى الله، يتعبد المؤمن في ردهاتها لله، دواء لكل داء، و زاد لكل سفر، و شفاء من كل مرض و وقاية من كل خطر، كيف؟!
رمضان التقوى، كما أنه لكلِّ شمس أنوار، و لكل ليل نهار، فإنه لكل عبادة أسرار، و لكل طاعة ثمار، لكن هناك ثمرة تجمع بين الطاعات، و تستخرج مِن كلِّ العبادات ثمرةً يانعةً وارفِة الظلال، و وقايةً عاصمةً مِن كل ضَلال؛ إنها التقوى، اتقاء الشهوات، اتقاء الشبهات، اتقاء المعاصي و السيئات،
تقوى الله عز وجل ما هي؟ أن يراك الله حيث أمرك، و أن يَفتقِدك حيث نهاك، أن يجعل العبدُ بينه و بين ما يخافه وقاية، تقيه منه، أن يقلع عن الذنوب و السيئات، أن يُطاع الله فلا يُعصى، و يذكر فلا يُنسَى، و أن يُشكَر فلا يُكفر.
و التقوى كذلك وصية النبي صلى الله عليه و سلم لكل مسلم؛ عن أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( اتِّق الله حيثما كنتَ، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخُلُق حسنٍ ) [حديث حسن، رواه أحمد و الترمذي]، علاقتك مع ربك أن تتقيه حيثما كنتَ، علاقتك مع نفسك أن تطهِّرها من الذنوب و السيئات في أي وقت، و علاقتك مع غيرك أن تُخالِقهم بخلُقٍ حسن أينما سِرْت.
طوبى لمن جاءه رمضان فوجده يفتتح يومه: ( أصبحنا على فطرة الإسلام، و كلمة الإخلاص، و على دين نبينا محمد صلى الله عليه و سلم و على ملة أبينا إبراهيم و ما كان من المشركين ) [ حديث صحيح]، ثم يستظلُّ بنور الحق فلا يسمع إلا نباه، و لا يصحب إلا أهله، و لا يمضي إلا في طريقه، و لا يعمل إلا له، و يظلُّ كذلك حتى يأتيه اليقين، فيستمع يوم الدِّين، بشرى رب العالمين: ﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [المائدة-119].
رمضان و القرآن
إن الله تعالى لما أراد أن يعظم شهر رمضان إنما أنزل فيه القرآن، و فضَّله به على سائر الأشهر، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ ا��َّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة-185] فمن أراد أن يكون ربانيا في تكريم رمضان فعليه بالقرآن... عليه بالقرآن تلاوة و حفظا و وترتيلا، و عليه بالقرآن تلاوةَ اتباعٍ و عملٍ، و عليه بالقرآن تدبرا و تفكرا و تأملا، و عليه بالقرآن عملا و تحاكما و تحكيما، و عليه بالقرآن اهتداء و اقتداء... ينبغي أن نكون قد خرجنا من رمضان و نحن نلبس لباسا كثيفا من هدايته؛ فإن القرآن يهدي للتي هي أقوم... أقوم في العقيدة ، و أقوم في الشرائع، و أقوم في الشعائر، و أقوم في المشاعر... قال الله تعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } [الإسراء-9]، و قال تعالى: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } [البقرة-2]، بل في الآية التي ذَكر الله تبارك و تعالى فيها أنه أنزل القرآن في شهر رمضان بَـيَّنَ أنه إنما أنزله هداية و تِبْيانًا و فرقانا.
كيف لا و التقوى خير زاد؛ ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَ اتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة-197].
كيف لا و التقوى خير لباس؟ ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَ رِيشًا وَ لِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف-26].
كيف لا و التقوى خير ميراث؟ ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ﴾ [مريم-63].
كيف لا و التقوى خير تركة لأولادنا و لمن بعدنا؟ ﴿ وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء-9].
و رمضان فرحة للمتقين: فرحة بصيامه؛ ( للصائم فرحتان؛ فرحة عند فطره، و فرحة عند لقاء ربه ) [سنن ابن ماجه].
و فرحة لهم برحمة الله؛ ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].
و فرحة لهم بفضل الله: ﴿ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آل عمران-170].
رمضان و باب التوبة
قال الحق سبحانه و تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر-53]، و قال سبحانه: { وَ الَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَ لَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاما، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا،إِلَّا مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } [الفرقان:68-70].
إنها بشرى لي و لك! و يا له من فضل عظيم، و يا له من مكسب كبير، يبدل الله جميع السيئات حسنات… الله أكبر! إنه لا يفرط في هذا المكسب إلا جاهل أو مريض قلب أو مفتون بدنيا فانية غارق في شهواتها.
دعنا أخي الحبيب و أختي الفاضلة نستمع لحديث المصطفى صلوات ربي و سلامه عليه كي نحفز و نرغب هذه النفس المتثاقلة التي تحب التسويف و المماطلة.
قال صلى الله عليه و سلم: ( قال اللهُ تعالى : يا ابنَ آدمَ ! إِنَّكَ ما دَعَوْتَنِي و رَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ على ما كان فيكَ و لا أُبالِي يا ابنَ آدمَ ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ و لا أُبالِي، يا ابنَ آدمَ ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لاتُشْرِكْ بِيْ شَيْئًَا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً ) [رواه أنس بن مالك- صححه الألباني في صحيح الترغيب]، و قال صلى الله عليه و سلم: ( يقول الله تعالى: يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل و النهار و أنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ) [رواه أبو ذر الغفاري-المحدث : ابن تيمية، مجموع الفتاوي 8/71].
و قال صلى الله عليه و سلم: ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، و يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) [رواه أبو موسى الأشعري- الألباني: صحيح الجامع].
و عندما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم امرأة تبحث عن ولدها في السبي فلما رأته احتضنته و ألقمته ثديها، فقال صلى الله عليه و سلم: ( أتُرَوْنَ هذِه طَارِحَةً ولَدَهَا في النَّارِ قُلْنَا: لَا، و هي تَقْدِرُ علَى أنْ لا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: لَلَّهُ أرْحَمُ بعِبَادِهِ مِن هذِه بوَلَدِهَا ) [رواه عمر بن الخطاب-صحيح البخاري].
أخي الحبيب أختي الفاضلة؛ هل بعد هذا الفضل و هذا الخير حظ للنفس، و هل لنا أن ندعها تتقاعس؟ هل بعد هذا الكرم الإلهي تسويف في التوبة؟
نفحات رمضان
قال الرسول صلى الله عليه و سلم: ( افعلوا الخير دهركم، و تعرضوا لنفحات رحمة الله، فإنَّ لله نفَحَات من رحمتهِ، يصيب بها من يشاء من عبادهِ، و سلوا الله أن يستر عوراتكم، و أن يؤمِّن رَوْعَاتكم ) [أخرجهُ الطبراني في: الكبير 720، و حسَّنَهُ المحدِّث العلامة الألباني في: الصحيحة 189].
فالسَّعيدُ من اغتنم مواسم الشهور و الأيام و الساعات، و تقرَّبَ فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطّاعات، فعسى أن تصيبه نفحةٌ من تلك النفحات، فيسعد بها سعادةً يأمن بعدها من النَّار و ما فيها من اللفحات.
فمن أعظم نفحَاتِهِ مصادفة ساعة إجابة يسأل فيها العبد الجنَّة و النَّجاة من النَّار، فيُجابُ سُؤاله، فيفوز بسعادة الأبد. قال الله تعالى: { فَمَنْ زُحْزِحَ عِنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [آل عمران-185]. .
و قال الله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِيْنَ شّقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ شَهِيق، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَ الأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّك إِنَّ ربكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَّنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا مَا شَاءَ رَبُّك عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذ} [هود:106-108].
فهذه نَفَحاتُ الرحمن قد تنزَّلَت، و هذه نسَمَاتُ الجِنان قد هبَّت، و جديرٌ بالعاقِلِ أن يُشمِّرَ و يجتهِد، { وَ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت-69].
قال بعض السلف: " صُمِ الدُّنيا، و اجعَلْ فِطرَك الموتَ، الدنيا كلُّها شهرُ صيامِ المتَّقين، يصومون فيه عن الشهوات المُحرَّمات، فإذا جاءَهم الموتُ، فقد انقضى شهرُ صيامِهم و استهلُّوا عيدَ فِطْرِهم " [ لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف؛ للحافظ ابن رجب الحنبلي؛ ص 174].
قال الشاعر:
و قد صُمْتُ عن لذَّات دَهْريَ كلِّها
و يومَ لِقاكُمْ ذاك فِطرُ صيامي
من صام اليوم عن شهواتِهِ أفطرَ عليها غداً بعد وفاتهِ، و من تعجَّلَ ما حرِّمَ عليهِ من لذَّاتهِ عُوقِبَ بِحرمَانِ نَصِيبِهِ من الجّنَّةِ و فواتِهِ؛ شاهِدُ ذلك من شرِبَ الخَمرَ في الدنيا لم يشربها في الآخرة، و من لبِس الحريرَ لم يلبسْهُ في الآخِرة.
فلننظر - يرحمُنا الله - كيف فضَّل اللهُ تعالى أهلَ الدنيا ظاهرًا، بتعجيلِ ما قدَّره لبعضهم و ليس لكلِّهم، ﴿ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ﴾ [الإسراء-18]. و فضَّل سبحانَه أهلَ الآخرةِ درجاتٍ منه و تفضيلًا على رؤوس الأشهاد، ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَ لَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء:88-89].
فهؤلاءِ هم الذين عظَّموا حُرُماتِه سبحانه و شعائرَه، فأعدُّوا و استعدُّوا؛ أعدُّوا العُدَّة ليومِ اللقاء، و استعدوا للنفحات، سواء في رمضان أو غيره، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج-30]، و قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج-32].
فقد بدَتْ أعمالُ القلوبِ على صفحاتِ الجوارحِ؛ ترجمةً عملية، واضحة جليَّة، و هذه الآيات نصٌّ على أن أثرَ عملِ القلبِ يظهَرُ في عملِ الجوارح.
لماذا نخسر رمضان؟
بالأمس القريب ذرفت عيون الصالحين، دموع الحزن على فراق رمضان، و ها نحن اليوم نستعد لاستقباله بدموع الفرح؛ نسأل الله عز و جل أن نكون من أهل رمضان، و ممن امتن الله عليهم بقيامه و صيامه، و أن يوفقنا للخير و الصلاح و الفلاح فيه.
رغم كل هذا الشوق، كل هذا الحنين، و مع ذلك فهناك من يخسر رمضان، و يخسر فضله و أجره و العياذ بالله!! و ربما لم يشعر ذلك الخاسر بلذة الصيام و القيام، و لا يعرف من رمضان إلا الجوع و العطش! فأي حرمان بعد هذا الحرمان؛ نعوذ بالله من الخسران!
لماذا إذًا نخسر رمضان؟؟ و ماهي أسباب هذا الخسران ؟؟سؤال يحتاج إلى إجابة. أليس الله تعالى يقول: {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة- 64].
أسباب خاصة بالمرأة المسلمة
1- الغفلة عن النية و عدم احتساب الأجر، و أنكِ أيتها المسلمة تركت الطعام و الشراب، وابتعدت عن الشهوات لله وحده ( إلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ )؛ كما في حديث أبي هريرة، و هو متفق عليه.
2- إهمال الصلوات الخمس، و تأخيرها عن وقتها، و أداؤها بكسل و خمول.
3- السهر، فهو من أعظم أسباب خسارة رمضان، فأكثر النساء يسهرن مع الأخوات على أحاديث القيل و القال، و ربما حتى وقت السحر خمس ساعات أو أكثر على شيء غير مفيد.
4- كثرة الخمول و النوم و الكسل، و لو نامت الليل لساعات؛ لجلست بعد الفجر في مصلاها تذكر الله، و لأصبحت نهارها طيبة النفس نشيطة.
5- ضياع الوقت في التفنن في المأكولات، و المرأة مشكورة مأجورة لقيامها على الصائمين، و لكن يمكنها اختصار الوقت في مطبخها.
6- سماع الغناء فالأذن تصوم أيضًا، و كيف تتلذذ بسماع القرآن، و هي تسمع قرآن الشيطان، و منبت النفاق، و رقية الزنا؟!
7- مشاهدة التلفاز و المسلسلات، و سهر ليالي رمضان عليها.
8- قراءة المجلات و الروايات و الجرائد و ما شابهها، و كان السلف يتركون طلب الحديث و العلم في رمضان.
9- التسويف و قد قطع هذا المرض أعمارنا في أفضل الشهور، حتى ليلة القدر لم تسلم من التسويف.. فمثلاً تريد المرأة أن تقرأ القرآن بعد الفجر لكنها متعبة من السهر، و بعد الظهر و لكنها مرهقة، و بعد العصر و لكنها مشغولة في المطبخ، و ربما في الليل و لكنها مع القريبات و الجلسات ملتزمة..
10- الخروج للأسواق، و فيه فتن عظيمة، و قد تضيع فيه الحسنات التي جمعتها المرأة في رمضان.
11- التبرج و السفور، فالعباءة ناعمة مزركشة، و النقاب واسع، و العينان كحيلتان، و الروائح زكية، فكيف يكون صومها مقبولا؟!
12- الهاتف، إذ تقضي بعض الأخوات أوقاتًا طويلة في استخدامها للهاتف في أحاديث تافهة.
13- الغيبة و القيل و القال، فاحذري اللسان أن يفسد صيامك أخية.. فهل صامت مَن أكلت لحوم الناس و أعراضهم؟؟
14- إهمال العمل الوظيفي بحجة التعب.
15- إهمال تربية الأولاد، فالليل سهر و لعب، و النهار نوم و ضياع للصلاة.
16- سوء خلق بعض الأخوات، فتراها سريعة الغضب و السب و الشتم، فضيعت صيامها و حُرمت أجره.
17- الطمع و الجشع و عدم الإنفاق في رمضان، و للصدقة في رمضان خصائص منها شرف الزمان، إعانة الصائمين على طاعاتهم، الجمع بين الصيام و الصدقة موجبة للجنة.
18- صلاة التراويح، فلا تعجبي أيتها المسلمة أن تكون صلاة التراويح سببًا في خسارة رمضان ألخصها في أسباب:
• خروج بعض النساء و هن متبرجات.
• خروجهن و هن متعطرات.
• الخلوة بالسائق الأجنبي الذي جاء بها إلى المسجد.
• اصطحابها الرضع و الأطفال مما يشوش على المصلين.
• الجلوس بين الركعات للتحدث في أمور الدنيا، حتى إذا قرب الركوع قامت فركعت!
• اعوجاج صفوف النساء و عدم إتمامها و التراص فيها.
• اختلاط الرجال بالنساء عند الخروج.
19- الحيض و النفاس، و لاشك المرأة تؤجر عليها، فلا تغفلي عن ذكر الله و الصدقة و القيام على الصائمين و خدمتهم.
20- الإعجاب بالنفس و أنها أفضل من غيرها و أحسن.
أسباب خاصة بالرجل المسلم
1- عدم أداء الصلاة مع الجماعة و التساهل فيها ( رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلاَّ الجُوعُ وَ العَطَشُ ).
2- الرياضة، فإذا كان لابد فلتكن الرياضة ساعة أو ساعتين، ثم تنظم المسابقة في تلاوة القران و حفظه.
3- الاستراحات و الجلسات و الملاحق أصبحت للأسف من أسباب خسارة رمضان.
4- التسكع في الشوارع و الأسواق، و إيذاء الناس، و الجلوس على الأرصفة.
5- المعاكسات سواءً في الأسواق أو الهواتف.
6- جلساء السوء و أصحاب الهمم الدنيئة.
7- الدخان و الشيشة و هي من الأشياء المحرمة التي استمرأها الناس.
8- أكل الحرام و منه الربا و الغش و السرقة.
9- التزييف و الخداع و النجش و الحلف الكاذب.
10- الانسياق واللهثان وراء التجارة و كسب المال إلى حد التفريط في الواجبات.
11- الإهمال في العمل الوظيفي و التأخر عنه و الخروج قبل وقته.
12- التهاون ببعض الذنوب و التعود عليها كحلق اللحية و إسبال الثوب، و هو المسكين لايعدها ذنبًا و هي محسوبة عليه.
13- آفات اللسان كالسباب و الشتائم و الغيبة و بذاءة اللسان و الكذب { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق-18].
14- التساهل و عدم الجدية، و يتضح هذا في كثرة الضحك و التعليق و ربما السخرية و الاستهزاء.
15- الظلم، فمهما كان لك أعمال صالحة، و مهما حرمت في رمضان، فمادمت ظالمًا أخذت منك هذه الحسنات على قدر مظلمتك.
16- التفريط في النوافل عامة (الصدقات- قراءة قران- العمرة- السواك- و ركعتي الضحى- و قيام الليل و التراويح- و تفطير صائم).
17- الغفلة عن الغنيمة الباردة (الذكر- الدعاء- الاستغفار) فقد حُرم منه كثير من المسلمين.
18- التقصير في حق الوالدين و الزوجة و الأولاد، و عدم القيام بحقهم من أهم الأسباب التي يخسر بها المسلم رمضان.
19- الجهل أو التجاهل بفضائل رمضان و عظمته.
20- الغفلة عن الموت و نسيانه.
هذه بعض أسباب خسارة رمضان، و لعلنا نتساءل ما هو العلاج؟
لننظر إلى كل سبب من الأسباب السابقة، و لنحاول الابتعاد عنه، و إذا أردنا أن نعلم عظيم خسارتنا لرمضان فلنجب على هذه الأسلة بصراحة تامة.....
• هل نقرأ القرآن بكثرة و هل نختمه بكثرة على الأقل مرة واحدة؟
• هل نحرص على أداء الصلوات في وقتها بطمأنينة و خشوع و مع جماعة المسلمين؟
• هل نحافظ على السنن الرواتب القبلية و البعدية؟
• هل تستحضر المسلمة النية في إعدادها للطعام لأهلها و تحتسب الأجر على الله؟
• هل تتصدق و تطعم الطعام؟ فإذا قالتِ نعم، فبكم؟ و هل يقارب ما يصرف على الزينة؟
• هل تحرص على أداء صلاة التراويح بآدابها؟ و أنت هل تحرصين على صلاة التراويح في المسجد أو البيت؟
• كم ساعة ننام في رمضان؟
• كم شريط نافع نسمعه في رمضان؟
• كم ساعة نسهر؟ و على أي شيء؟
• كم عدد تلك الدقائق التي نقضيها في التسبيح و التهليل و التحميد؟
• هل وقفنا في مكان خالٍ و في ظلمة ليل و رفعنا أكف الضراعة بالدعاء؟
• هل نستغل الحلقات بالمناصحة والتفقه والدعوة إلى الله؟
• هل تجتهد المسلمة في طاعة زوجها و رعاية أولادها خلال هذا الشهر؟
• هل طهرنا بيوتنا من المنكرات؟ و هل طهرنا أموالنا من الربا والحرام؟
رمضان طريق البناء و التشييد و التعمير فنحنُ على الأرض.. نبني لأرواحنا في السماء.. رمضان نفحة ربانية للأخذ بيد العباد إلى الجنان.
فلنصدق مع أنفسنا مادام في العمر فسحة قبل أن نندم حين لا ينفع الندم. ففي طريق السائرين إلى الله، لا مجال للحلول الباهتة و الألوان الرمادية.. فإمّا النماء و الارتقاء و إما التخلف و التأخر، إما الفوز و إما الخسارة، إما الجنة و إما النار.
قال الرسول صلى الله عليه و سلم: ( إن جبريلَ عليه السلامُ أتاني فقال: "منْ أدركَ شهرَ رمضانَ، فلم يُغفرْ له، فدخلَ النارَ؛ فأَبعدهُ اللهُ، قُلْ: آمين"، فقلتُ: آمين، "و من أدركَ أبويهِ أو أَحدهمَا، فلم يبرَّهُما، فماتَ، فدخل النارَ؛ فأَبعدهُ اللهُ، قُلْ: آمين". فقلتُ: آمين، "و من ذُكِرْتَ عندهُ، فلم يُصلّ عليكَ، فماتَ، فدخلَ النار؛ فأَبعدهُ اللهُ، قل: آمين". فقلت: آمين ) [صحيح الترغيب 1679].
Tumblr media
61 notes · View notes
tadkiraimania · 3 years
Text
Tumblr media Tumblr media
قيم السلوك في منهج ابن القيم
يرى ابن القيم أنه لا يتأتى للعبد الوصول إلى السلوك السوي (أي السلوك مع الله)، و لا يصح له ذلك إلا بالالتـزام بشروط عديدة و الانضباط بضوابط دقيقة، يتمثل أهمها في ما يلي:
أولا: الإيمان بالله تعالى.
ثانيا: العبودية الخالصة لله تعالى.
ثالثا: الالتـزام بالكتاب و السنة و التحاكم إليهما.
رابعا: متابعة الرسول صلى الله عليه و سلم و الاقتداء به.
خامسا: تعلم العلم الشرعي.
سادسا: الالتـزام بأداء التكاليف الشرعية.
سابعا: اجتناب الذنوب و المعاصي.
فالسلوك و الاستقامة: ( قل آمنت بالله فاستقم ) (أخرجه مسلم) تعتبر مـرآة العقيـدة و الإيمان، ذلك أن قيـم الدين إنما شرعت و تنـزلت لتعبيد الناس لله و بناء الدنيا، وفق منهج الله، و تحقيق إنسانية الإنسان و توفير كرامته و تنظيم علاقاته بغيره، فمن كان سلوكه و عمله يخالف عقيدته فكأنما يخادع نفسه، و يخادع الله تعالى (من كتاب: قيم السلوك مع الله عند ابن قيم الجـوزية- تأليف الدكتور مفرح ابن سليمان القوسي- سلسلة كتاب الأمة).
يعتمد ابن القيم على القرآن و السنة و يقدمهما على ما سواها، و قد أبان عن تبني هذه المنهجية الربانية في عدد من كتبه التي أثراها بملاحظاته و تأملاته و تجاربه و خبراته، فتميزت كتبه بأسلوب إبداعي شامل في الإرشاد و العلاج النفسي الإسلامي يتناول جوانب السلوك المتعددة ، فقد اهتم بدراسة الجوانب النفسية و الروحية خصوصا في قضايا الروح و النفس و القلب و السلوك، كما في كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان الذي ناقش فيه موضوع القلب و صحته و سقمه، و كتاب: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي الذي عرض فيه منهجا في الإرشاد و العلاج النفسي، و كتاب: مدارج السالكين الذي تحدث فيه عن أحوال النفس و مقامات السلوك، و كتاب: تحفة المودود بأحكام المولود الذي يعد موسوعة في نفسية الطفل، و كتاب: الروح الذي ناقش فيه حقيقة الروح، و كتاب: طريق الهجرتين الذي عالج فيه معوقات السلوك، و كتاب: مفتاح دار السعادة الذي كتب مواضيعه حول السعادة النفسية الروحية القلبية، و كتاب: الفوائد الذي شرح فيه المراحل التي يمر منها السلوك، و كتاب: عدة الصابرين و ذخيرة الشاكرين و هو أفضل ما ألفه ابن القيم في أهمية قيمتي الصبر و الشكر.
و من النظريات الحديثة التي قد تتفق مع ابن القيم إلى حد ما مع أسلوبه العلاجي نظرية العلاج العقلاني الانفعالي التي طورها ألبرت إليس Albert Ellis عالم النفس الأمريكي ، تميزت هذه النظرية في تركيزها المستمر على استخدام الطرق العلمية و العملية، و م��خص هذه النظرية أن إليس يرى أن الاضطراب السلوكي نتيجة للتفكير غير العقلاني، و علاجه يكون بمهاجمة الأفكار و الانفعالات السلبية أو القاهرة للذات و ذلك بإعادة تنظيم الإدراك و التفكير بدرجة يصبح معها الفرد منطقيا في تفكيره و تصوراته و مشاعره. و يرى أن هدف الإرشاد و العلاج النفسي هو أن يوضح المرشد للفرد المسترشد أن حديثه مع ذاته أي حديث النفس و الخواطر هو المصدر الأساسي للاضطراب الانفعالي و العلاج يكون بتعليم الشخص و تعويده على التفكير المعقول و تخليصه من ضده.
رغم أن العلاج العقلاني الانفعالي (في نظرية إليس) استطاع التغلب على العديد من السلبيات الشخصية مثل الاكتئاب و القلق و الغضب و المشكلات الشخصية ...إلخ، لاعتقادهم أن الإدراك يسبق دائما السلوك و العاطفة و بالتالي تغيير أفكارنا سيؤدي إلى تغيير في الآخرين، إلا أن العلاج العقلاني الانفعالي هو نهج مؤقت و ليس معالجة السبب الحقيقي، أيضا قد يأخذ هذا العلاج منحى آخر و يصبح عمل المعالجين بمثابة غسيل للمخ من أجل تغيير الأفكار و المعتقدات (من مقال نقد نظرية ألبرت إليس: نظريةالعلاج العقلاني الانفعالي- الدكتورة سامية ابريعم- مجلة الدراسات و البحوث الاجتماعية العدد 5 بتاريخ 2016/11/15).
و إضافة على ذلك، فنظرية إليس تتكون أصلا من نظرية الشخصية التي هي نظام فلسفي و طريقة علاجية نفسية، التي تميزت بنظرتها المادية الأحادية إلى الانسان ككائن بيولوجي غريزي، بينما الإسلام يتعامل مع الشخصية المسلمة في جانبيها الروحي و الجسدي بشكل متناسق متوازن.
النفس أو الشخصية الإسلامية
لم ترد كلمة "الشخصية" في القرآن الكريم، و لكن وردت مرادفات لها، لعل أبرزها: النفس و الإنسان و الذات و المرء و الفرد، و لعل مفهوم الـنفس بمعناهـا العـام أقـرب هـذه المرادفات إلى مفهوم الشخصية. و يشمل مفهوم الشخصية في الإسلام كـل مـا يخـتص بـه الإنسان (بالمفهوم العام) من خلق و جبلة و نمو و فكر و معتقد و مشـاعر و دوافـع و سـلوك و علاقات متبادلة مع البيئة، و بما يميزه عن غيره من البشر. و هذه الشخصـية وحـدة متكاملـة ناتجة عن تفاعل شديد التعقيد بين الجسد و الروح.
وردت كلمة "نفس" و مشتقاتها في القرآن الكريم (295) مرة، فقـد وردت ككلمـة مجردة (61) مرة، فيما وردت مشـتقاتها مسـندة إلى ضـمائر (234) مـرة على النحو التــالي: نفســا و نفســك، و نفســه، و نفســها، و الأنفــس، و النفــوس، و أنفســهن، و أنفســهم، و نفوسكم، و أنفسكم، و أنفسنا. و قد حملت كلمة "نفـس" و مشـتقاتها في القـرآن الكـريم معاني عامة مختلفة.
كما ورد مفهوم النفس في القرآن الكريم ٍ بمعان خاصة، لعل أبرزها التالية:
َ1- النفس بمعنى الروح، كـما يتضـح في قولـه تعـالى: { وَ لَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الانعام-93].
2- النفس بمعنى القلب و ما يتصل به، كما يتضح في قوله تعالي: { وَ اذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الاعراف-205].
3- النفس بمعنى القوة المفكرة في الإنسان، كما يتضح في قوله تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل-14].
4- النفس بمعنى نية الإنسان و جوهره الداخلي، (أي قوى الخير و الشر فيه)، كما يتضح في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ} [الرعد-11].
هذا و من الجدير بالذكر أن مفهوم "النفس" ورد في السنة النبوية الشريفة بالمعنى العام كما في قوله صلى عليه و سلم: ( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيِه مَا يُحِبُّ لِنَفْسِه) [صحيح مسلم]، كما ورد بالمعنى الخاص في قوله صلى عليه و سلم: ( أَلَمْ تَرَوُا الإنْسانَ إذا ماتَ شَخَصَ بَصَرُهُ؟ قالوا: بَلَى، قالَ: فَذلكَ حِينَ يَتْبَعُ بَصَرُهُ نَفْسَهُ) [صحيح مسلم].
و بناء على ما سبق، يمكن القول بأن مفهوم النفس الإنسانية تعني في القرآن الكريم و السـنة النبوية الشريفة، ذات الإنسان أو الكل المتكامل الناتج عن تفاعل الجسد و الروح. وتشمل كـلاً مـن: الروح، و القلب (و ما يتصل به)، و القوة المفكرة، و النية و الجـوهر الـداخلي (أي قـوى الخـير و الشر)، إضافة إلى العلاقات المتبادلة مع الآخرين. و عليه، يمكن تمييـز الجوانـب التاليـة للشخصـية: الجانـب الجسمي، و الجانب العقلي (الفكر و المعتقـد...) و الجانـب الانفعـالي (النيـة، و الـدوافع...)، و الجانـب الروحي، و الجانـب الاجتماعي (العلاقات المتبادلة مع الآخرين).
و من الطبيعي أننا نحب و نبغض، و نصدر أحكاماً تقويمية على الشخصية من خلال ما يظهر عنها من أعمال صالحة أو سيئة، و الله أعلم بالنوايـا. و يـذكر أن أبي الـدرداء مـر عـلى رجـل أصاب ذنباً و الناس يسبونه، فقال لهم: أرأيتم لو كان أخاكم في بئر أكنـتم مسـتخرجيه؟ قـالوا: نعـم. قال: فاستغفروا لأخيكم و احمدوا الله الذي عافاكم. فقالوا أفلا تبغضه؟ قال: لا... إنما أبغـض عملـه، فإذا تركه فهو أخي.
و النفس هي أحدهما (الروح أو الجسد)، و النفس هي مجموعهما (الروح و الجسد). و في ضوء هذا التباين حول ماهية النفس الذي وصل إلى حد التناقض و التضارب في التراث الإسلامي، توصل ابن القيم إلى أن للنفس معنين؛ معنى عام يشمل الجسد و الروح معاً (أي أنه يطلق على الإنسان بكليته) و معنى خاص يتعلق بالجزء (كالروح)، و قد ساق ما يزيد على مئة دليل تفسيري و تحليلي في القرآن الكريم لتوضيح ما ذهب إليه، فقد يطلق لفظ "النفس" على الإنسان بكليته، كما في قوله تعالـى: { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل-111]، و قد يطلق اللفظ على الروح، وحدها كما في قوله تعالى: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر-27].
و عليه، فالشخصية وحدة متكاملة ناتجة عن تفاعـل شـديد التعقيـد بـين مكـوني الجسد و الروح. و هي كيان مستقل يميز صاحبه عن غيـره مـن البشر مـن حيـث الفكـر (المعتقد) و الانفعالات (العواطف و المشاعر و الميـول و الاتجاهـات...) و السـلوك. و تشـمل المجموع الكلي المتكامل للجوانب الجسمية و العقلية و الانفعاليـة و الروحيـة للإنسـان في تفاعله المعقد مع البيئة الطبيعية و الاجتماعية، منذ ولادته و حتى مماته (الشخصية من منظور نفسي إسلامي- تأليف الدكتورة شادية أحمد التل- أستاذة علم النفس التربوي بجامعة اليرموك).
السلوك و أحوال النفس
النفس واحدة، بحسب ما ذكره ابن القيم في كتاب الروح، مطمئنة مثلاً باعتبار حال طمأنينتها إلى الله بعبوديته و السكون و الإنابة إليه، و التوكل عليه، و تحصل الطمأنينة الحقة بذكر الله، قال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد-28]، و هكذا بالنسبة للأحوال الأخرى للنفس. فهي نفس واحدة، تكون أمارة تارة و لوامة أخرى، و مطمئنة ثالثة. و عليه، فإن السلوك الإنساني يعكس الحال التي تغلب على الشخصية في لحظة ما.
و فيما يلي بسط لأحوال الـنفس أي الشخصـية الإنسـانية، كـما في القـرآن الكـريم و الحـديث النبوي الشريف و التراث الإ��لامي: َْ
1- النفس السوية الملهمة الواردة في قوله تعالى: { وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا } [الشمس-7]، و يفسر ابن كثير هذه الآية الكريمة بأن الله سبحانه خلق النفس سوية مستقيمة على الفطرة القويمة، كما قال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [الروم-30]، و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( كل مولود يولد على الفطرة ) و في صحيح مسلم يقول الله عز و جل: ( إنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، و إنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ ) و عليه، فقد ساوى الله تعالى بين الخلق كلهم في الفطرة، فلا تفاوت بين الناس في ذلك، و تمثل النفس السوية الملهمة الحالة الأولى للشخصية، و هي الكيان الذي تتمايز منه الأحوال الأخرى و هي تعكس الحالة الأولى الابتدائية للنفس الإنسانية عند الولادة. و قد ألهم الله سبحانه النفس السوية طريقي الفجور و التقوى، قال تعالى: { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا } [الشمس-8]، و قد ورد في مختصر تفسير ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة، أن الله سبحانه و تعالى قد أرشدها إلى فجورها و تقواها، أي بين لها و هداها إلى ما قدر، قال ابن عباس بين لها الخير و الشر، و قال سعيد بن جبير ألهمها الخير و الشر.
و هكذا يمكن القول بأن الإلهام الوارد في قوله تعالى: { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا } هو إلهام بالفطرة أو بيان بالوحي. فالله سبحانه و تعالى أوقع في النفس الإنسانية طريقي التقوى و الفجور، و هداها بالفطرة إلى التمييز بين الطريقين. فإذا بقيت على أصل الفطرة فإنها لا تأمر إلا بالخير، أما إذا انحرفت عن هذا الأصل فإنها تأمر بالفجور.
2- النفس الأمارة بالسوء، الواردة في قوله تعالــى: { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ } [يوسف-53] و تصف حال النفس المذمومة التي تنحرف عن النفس السوية الملهمة فتأمر صاحبها بالسوء، و تنساق وراء الشهوات لتحقق اللذة، فتسيطر عليها الغرائز الحيوانية، و تدعو صاحبها إلى ارتكاب المعصية، إلا من ثبتها الله و أعانها، قال تعالى: { وَ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَ لَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [النور-21]. و قال سبحانه لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: { وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } [الإسراء-74]
فالله سبحانه أيد رسوله الكريم و ثبته و عصمه من شر أعدائه، فالشر كامن في النفس، فإن وفقها الله و أعانها نجت و إن تخلى عنها هلكت. و بذا فقد امتحن الله سبحانه و تعالى الإنسان بالنفس الأمارة بالسوء.
ُ 3- النفس اللوامة، الواردة في قوله تعالـى: { وَ لَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } [القيامة-2] و في قوله تعالى: { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَ إِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } [الزمر-56]. و هي حال النفس التي أقسم الله بها. و يلخص ابن القيم في كتابه الروح اختلاف المفسرين فيها، " فمنهم من رأى أنها تصف حال النفس المترددة المتقلبة التي تنيب و تجفو، و تفرح و تحزن، و تتقي و تفجر، و ترضى و تغضب، و تذكر و تغفل، و تقبل و تعرض... و منهم من رأى أنها تصف حال نفس المؤمن وصفتها المجردة، و منهم من رأى أنها نفس المؤمن توقعه في الشر ثم تلومه عليه، و هذا اللوم دليل الإيمان، و منهم من رأى أنها نفس السعيد تلوم صاحبها على ارتكاب الذنب، و نفس الشقي تلوم صاحبها على فوات حظها. و قد ذهب بعضهم أبعد من ذلك، فرأى أن اللوم يكون يوم القيامة، عندما تلوم النفس صاحبها على الذنــب إن كان مذنباً، و على التقصبر إن كان محسناً " و هذه الأقوال في النفس اللوامة لا تتضارب مع بعضها. فالنفس موصوفة بكل هذه الأوصاف، و لذلك سميت حالها باللوامة، و قد امتحن الله سبحانه النفس بها، و هي من أعظم آياته.
و يورد ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير في علم التفسير" ثلاثـة أقـوال في الـنفس اللوامـة " أحدهما النفس المذمومة (أي اللوامة الملومة) لأنها نفس جاهلة، ظالمة يلومها الله و ملائكتـه. و الثانية هي النفس المؤمنة (أي اللوامة غير الملومة) التي تلوم صاحبها على التقصيـر في طاعـة الله أو على ارتكاب الأخطاء، فتحاسب نفسها و تنيب إلى الله. و الثالثة هي النفس الإنسانية (أي جميع النفوس) " [زاد المسير في علم التفسير، ج8 ،ص133].
4- النفس المطمئنة، أي المطمئنة إلى الحق و الراضية المرضية يوم القيامة، الواردة في قوله تعالى: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي } [الفحر:30-32] و هي حال النفس المؤمنة الصالحة، المنيبة المخبتة التي أيقنت أن الله ربها فأطاعت أوامره و ذكرته في أعمالها، و سكنت إلى ربها دون سواه. و أنست بقربه فاطأمنت إلى عبوديته و محبته و ذكره، قال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد-28]، كما اطمأنت إلى لقائه و وعده، فرضيت بالله رباً و بالإسلام ديناً، و بمحمد نبياً و رسولاً. لذلك تشعر بالسعادة و الرضا في الحياة الدنيا عن الدين الذي اختارته و عن السلوك الذي اتبعته، فاطمأنت للنتيجة و هي السعادة في الحياة الدنيا و في الآخرة.
و يورد ابن القيم في كتابه "الروح" أقوال المفسرين في النفس المطمئنـة. فقـد قـال ابن عباس رضي الله عنهما المطمئنة المصدقة، و قال قتادة هي المؤمنة التـي اطمأنـت إلى ما وعد الله، و قال الحسن المصدقة بما قـال الله تعـالى، و قـال مجاهـد هـي الـنفس التـي أيقنت بأن الله ربها، الِّمسلمة لأمره فيما هو فاعل بهـا. و روى منصـور عنـه قـال: الـنفس التـي أيقنـت أن الله ربهـا و ربطـت جأشـاً لأمـره و طاعتـه... فكـلام السـلف في الـنفس المطمئنة يدور على طمأنينة العلم و الإيمان وطمأنينة الإرادة و العمل. ((ابن قيم الجوزية، الروح، ص 301-302 ).
و لكي تتحقق طمأنينة النفس، أي سعادتها لا بد أن تبنى على قاعدة صلبة ثابتة هي الإيمان بالله عز وجل و التصديق بما جاء به رسوله الكريم صلى الله عليه و سلم من هدى و آيات بينات، و لا بد للإيمان من أن يكون مشفوعاً بالعمل. فالإيمان و العمل وجهان متكاملان للنفس الإنسانية، و بمقدار صدق إيمانها بالله تعالى و عملها بما يرضيه سبحانه تكون سعادتها و اطمئنانها في الفوز برحمته و ثوابه في الآخرة. و طمأنينة النفس مرهونة بتقوى الله و نهي النفس عن الهوى. فخشية الله تحمل النفس على إتيان الصالح من الأعمال. و من يعمل صالحاً يرضى عن نفسه و يرضي ربه. و من يرضي ربه يطمئن إلى وعده، فيقف يوم القيامة مطمئناً بما وعده الله من ثواب في الآخرة، قال تعالى: {ِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } [البينة-8].
إن أحوال الـنفس (الشخصـية) لا تعمـل بوصـفها أربعـة قطاعـات مختلفة مستقلة تحرك الشخصية، بل تعمل ككل متكامل بصورة معقدة، فهي نفس واحـدة تكـون أمارة تارة و لوامة أخرى و مطمئنة ثالثة.
و يصف ابن القيم في كتابه "الروح" فصل "في أن النفس الأمارة في مقابـل الـنفس المطمئنـة" الصراع الداخلي بين النفس الأمارة بالسوء و المطمئنة، بصورة ديناميكية، بقوله: " وقد انتصبت الأمـارة في مقابل المطمئنة، فكلام جاءت به تلك من خير ضاهتها هذه و جاءت مـن الشر بما يقابلـه حتـى تفسده عليها. فإذا جاءت بالإيمان و التوحيد جاءت هذه بما يقدح في الإيمان من الشك و النفـاق و مـا يقدح في التوحيد من الشرك و محبة غير الله و خوفه و رجائه، و لا ترضى حتى تقدم محبة غيره و خوفه و رجائه، على محبته سبحانه و خوفه و رجائه فيكون ما له عندها هو المؤخر و ما للخلق هـو المقـدم. فتقوم الحرب بين هاتين النفسين و المنصور من نصره الله. و هذا حال أكثر هذا الخلق... و من أعجب أمرّهـا أنها تسـحر العقـل و القلـب، فتـأتي إلى أشرف الأشـياء وأجلها فتخرجـه في صـورة مذمومـة...
و الأفعال تصدر عن الإرادات و تظهر على الأركان من النفسين الأمارة و المطمئنة، فيتبـاين العقـلان في الباطن و يشتبهان في الظاهر، و لذلك أمثلة كثيرة منها المداراة (من المطمئنة) و المداهنة (مـن الأمـارة بالسوء) و خشوع الإيمان و خشوع النفاق، و التواضع و المهانة ".
و نستنتج مما سبق أنه يقصد بالسلوك الإنسـاني جميـع الأعـمال أو الأفعال أو الاستجابات التي تصدر عن الإنسان؛ ظاهرية كانت أم باطنيـة؛ فطريـة أم مكتسبة؛ سوية أم منحرفة. و تتعدد السلوكات الإنسانية و تتنوع و تتعقد بحيـث يصـعب وضعها في مستوى واحد.
و ينظر الإسلام إلى الإنسان على أنه مخلوق مكرم بنعمة العقل، و أنـه قبضـة مـن طين و نفخة من روح. و هـو مولـود عـلى الفطـرة القويـمة السـوية، و ألهمـه الله بـالفطرة طريقي التقوى و الفجور، و منحه الإرادة و حرية الاختيار. و لم يخلق الله الإنسان عبثـاً بـل لغاية سامية هي عبادته عز و جل. أما مهمة الإنسان فتتلخص في عمارة الأرض و الخلافـة عن الله فيها.
سيكولوجية المعصية عند ابن القيم
بيئة المعصية
إن طبيعة النفس البشرية غير المهذبة بالإيمان و غير المنضبطة بشرع الرحمن فيها غرس يميل إلى المعصية، و يهوى الهوى، و يرغب في الشهوات.
يقول ابن القيم رحمه الله في شأن البيئة المحيطة: " كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، و ولد لا يعذره، و جار لا يأمنه، و صاحب لا ينصحه، و شريك لا ينصفه، و عدو لا ينام عن عداوته، و نفس أمارة بالسوء، و دنيا متزينة، و هوىً مردٍ، و شهوة غالبة له، و غضب قاهر، و شيطان مزين، و ضعف مستولٍ عليه؟ فإن تولاه الله و جذبه إليه انقهرت هذه كلها، و إن تخلى عنه و وكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة. و كم من بيئة كلها قواطع و موانع من الطاعة و الثبات عليها، و فيها مرغبات و مغريات و منزلقات للوقوع في المعاصي و الركون إليها.
و وصف ابن القيم طبيعة النفس و ما فيها من بعض العلل التي لا تبرأ منها إلا بالتزام الشرع و بتهذيب الإيمان و بتطهير و تمحيص الطاعات لله سبحانه و تعالى، فقال: " في النفس كبر إبليس، و حسد قابيل ، و عتو عاد، و طغيان ثمود، و جرأة نمرود ، واستطالة فرعون، وبغي قارون ، و قحة هامان ، و هوى بلعام، و حيل أصحاب السبت، و تمرد الوليد، و جهل أبي جهل "، و هذه كلها هي من أوصاف من كانوا بارزين في أبواب عظمى من المعاصي. ثم قال: " و فيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب، و شره الكلب، و رعونة الطاووس، و دناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، و وثوب الفهد و صولة الأسد، و فسق الفأرة، و خبث الحية، و عبث القرد، و جمع النملة، و مكر الثعلب، و خفة الفراش، غير أن الرياضة و المجاهدة تُذْهِبُ ذلك كله، فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند -يعني: من جند هذه الحيوانات و شاكلتها- و لا تصلح سلعته لعقد: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ } [التوبة-111]"، أي: أن النفس الخبيثة لا يمكن أن تكون ثمناً للجنة، و لا أن تكون جزءاً من هذا العقد الرباني.ثم قال: " فما للمشتري إلا سلعة هذبها الإيمان، فخرجت من طبعها إلى بلد سكانه التائبون العابدون ".
ثم يستعرض أنواع أجناس الناس �� مخالفاتهم فيقول: " فالأمير يراعي سلطنته، و لا يبالي بمخالفة الشرع، أو يرى بجهله جواز ما يفعله، و الفقيه همته ترتيب الأسئلة ليقهر الخصم، و القاص همته تزويق الكلام ليعجب السامعين، و الزاهد مقصوده تزيين ظاهره بالخشوع لِتُقَبَّلَ يده و يُتَبَرَّكُ به، و التاجر يمضي عمره في جمع المال كيف اتفق؛ ففكره مصروف إلى ذلك عن النظر إلى صحة العقود، و المُغْرَى بالشهوات منهمك على تحصيل غرضه تارة بالمطعم و تارة بالوطء و غير ذلك، فإذا ذهب العمر في هذه الأشياء، و كان القلب مشغولاً بالفكر في تحصيلها؛ فمتى تتفرغ لإخراج زيف القصد من خالصه، و محاسبة النفس في أفعالها، و رفع الكدر عن باطل السر، و جمع الزاد للرحيل، و البدار إلى تحصيل الفضائل و المعالي؟! فالظاهر قدوم الأكثرين على حسرات، إما في التفريط للواجب أو للتأسف على فوات الفضائل، فالله الله يا أهل الفهم! إقطعوا القواطع عن المهم قبل أن يقع الاختلاف بغتة على شتات القلب و ضياع الأمر، و هذا حال أكثرنا إلا من رحم الله عز و جل ".
إذاً: لكي نفهم أصل المسألة نعلم أن طبع النفس البشرية تميل إلى المعصية، و البيئة تحض أو تسهل أمرها، و من هنا نعلم أن المسألة تحتاج إلى مجاهدة كبيرة، و لذلك من هذا المنطلق و من حكمة هذا التشريع قال المصطفى صلى الله عليه و سلم: (كل ابن آدم خطاء، و خير الخطائين التوابون) [رواه الترمذي و ابن ماجة و الحاكم و صححه]، و ليس للإنسان عصمة من المعصية إلا ما قضى الله عز و جل من عصمة الرسل و الأنبياء، و إلا فإن كل إنسان قد يقع في المعصية قليلاً أو كثيراً نادراً أو غالباً، و لذلك إذا قُرر هذا فإن العلة و المصيبة و الخطورة ليست في مجرد الوقوع في المعصية بقدر ما هي في استمرائها و الاستمرار عليها و عدم الحذر منها إلى غير ذلك (الشيخ علي بن عمر بادحدح).
أصول المعصية
Tumblr media
ينبغي أن نعلم أن هناك مداخل عظمى و بوابات كبرى إذا فُتِحَتْ فقد انفتحت أبواب و أنواع و أصناف و ألوان من المعاصي على الإنسان؛ لذلك يقول ابن القيم رحمة الله عليه: " أصول المعاصي كلها كبارها و صغارها ثلاثة:
أولاً: تعلق القلب بغير الله.
ثانياً: طاعة القوة الغضبية.
ثالثاً: طاعة القوة الشهوانية.
ثم فَصَّلَهَا فقال: و هي الشرك، الذي هو التعلق بغير الله، و الظلم و هو القوة الغضبية، و الفواحش و هي القوة الشهوانية. ثم قال: فغاية التعلق بغير الله الشرك، بأن يدعو معه إلهاً آخر، و غاية طاعة القوة الغضبية القتل، و غاية طاعة القوة الشهوانية الزنا؛ و لذلك جمع الله بينها في قوله سبحانه و تعالى: { وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ [الفرقان-68].
فهذه أسس هذه المعاصي: تعلق بغير الله، اندفاع مع القوة الغضبية يقع به الظلم و الاعتداء على حقوق الآخرين، اندفاع مع القوة الشهوانية يحصل به إغراق و إسراف في الشهوات و الملذات دون مراعاة للمنهيات و المحرمات، و هذه نماذجها: شرك، و ظلم، و فواحش، نسأل الله عز و جل السلامة و العافية.
الخواطر مفتاح السلوك
Tumblr media
لللخواطر في سيكولوجية ابن القيم شأن كبير، فهي عنده أصل تصرفات العبد و أعماله، أو هي مفتاح السلوك، و مبدأ الصحة النفسية، و معالجتها و إصلاحها سبيل إلى إصلاح السلوك كما أن انحرافها سبيل إلى انحرافه. لهذا اعتنى بها في عدد من كتبه، منها كتاب الفوائد الذي صاغ فيه ما يسمى بنظرية عن العلاقة بين الخواطر و السلوك، و منها كتاب الجواب الكافي الذي صاغ فيه الخطوط العامة لمنهج في الإرشاد النفسي.
و يرى ابن القيم أن الخطرات هي مبدأ الإرادة و الطلب، و يقول: " إعلم أن الخطرات و الوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الجوارح و العمل فتستحكم فتصير عادة ".
و يقول ابن القيم: " مبدأ كل علم نظري و عمل اختياري هو الخواطر و الأفكار، فإنها توجب التصورات و التصورات تدعو إلى الإرادات و الإرادات تقتضي وقوع الفعل، و كثرة تكراره تعطي العادة، فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر و فسادها بفسادها، فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها و إلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته و محابه ".
و يقول رحمة الله عليه، مؤكدا على مدافعة الخواطر و ما يتبعها: " دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة و همة، فإن لم تدافعها صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده صار عادة، فيصعب عليك الانتقال عنها ".
فانظر ما هو أول الإدمان: هو تلك الخاطرة التي تجول و لم تستقر في العقل، فإذا بالإنسان يردد نظره فيها، و يعمل فكره فيها، و يجيء بها و يذهب، فإذا بها تنتقل من خطرة إلى فكرة تعشعش في العقل و ترسخ فيه، ثم إذا به يعمل عقله في تلطف الأسباب الموصلة إليها، و في تخيل اللذة الحاصلة منها، فإذا بها تختلط بقلبه، فإذا بها شهوة قد أنست النفس إليها، و مال القلب إليها، و إذا بها بعد ذلك تصبح همة و عزيمة قد تهيجت مشاعره لها، و تحركت نفسه لفعلها، بل ربما قد شغلت عليه فكره كله؛ فلم يعد يسمع إلا ما يوصله إليها، و لا يرى إلا ما يربطه بها، و لا يتذوق إلا ما يعينه عليها، و عند ذلك في هذه اللحظات يحتاج إلى قوة حاسمة و إلى ردع قوي، و إلا فإنه يقع في الفعل، يعني: يقع في المعصية، قال: فتداركها بضدها؛ بالحسنات والاستغفار والتوبة، فإن لم تفعل صارت عادة يصعب عليك الانتقال عنها. و لينظر كل واحد إلى ما وقع فيه من المعاصي، فإنه سيجد أنها كانت على مثل هذا التسلسل، فالفطن اللقن و الحريص المؤمن هو الذي يقطع الطريق من أولها؛ فلا يسمح للخواطر الرديئة و لا للأفكار الدنيئة أن تخالط عقله، و لا يشغل بها فكره. ثم أفاض ابن القيم في مثال طويل فقال: " مثال هذه الخواطر: كرجل يطحن برحى، فيضع فيها الحب و الأشياء التي يطحنها، فينتفع بها و يأكل، فيأتيه رجل و معه تبن و حصى و تراب يريد منه أن يطحنه في طاحونه، فإذا قبل ذلك أفسد ما كان يطحن من حب و طعام، وفسد الأمر كله، و إذا منعه فإنه يبقى سليماً، و ذلك مثل الخواطر إذا جاءت و طحنها في العقل طحنت، ثم نزلت و تسربت إلى القلب، ثم انقلبت إلى فعل. أي: أن الأفكار هي كل ما يطحن، فإن طحن تبناً جاء تبناً، و إن طحن حصىً جاءت حصىً، و إن طحن حباً نقياً نظيفاً جاء دقيقاً نقياً نظيفاً، فمن كان مفكراً في الخيرات، و دائماً تكون خطراته في الطاعات، فإن طاحونه ينتج همة لها، و رغبة فيها، و تعلقاً بها، و ممارسة لها، وإدماناً عليها، ومبالغة في الاستكثار منها، ومن كان على غير ذلك في شأن المعاصي كان أمره إليها، وركونه وسكونه ومحبته وملذته فيها " (نسأل الله عز وجل السلامة و العافية).
و لذلك قال ابن القيم رحمة الله عليه: " دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكاً في دين الله، و باب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعة الله و مرضاته، و باب غضب أورث العدوان على خلقه سبحانه و تعالى ".
آثار المعصية
المسلم الصادق المؤمن يستشعر أثر الذنوب و المعاصي، و يعرف أن لها آثاراً قوية عظيمة ليست على مستوى الفرد، بل على مستوى المجتمع، و ليست على مستوى البشر بل على مستوى الكون كله، و لذلك أفاض أهل العلم في ذكر هذه الآثار، و لسنا بصدد ذكرها تفصيلاً، و إنما نجمل ما ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في مقالاته الجامعة، أما تفصيل ذلك و تفريعه فقد عقد له كتاباً كاملاً أسماه: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، صنفه رحمة الله عليه جواباً على سؤال ورد إليه عن المعاصي و كيفية البرء منها و الإقلاع عنها و الهجر لها، فصنف ذلك المصنف العظيم، يقول ابن القيم في ذكر أثر المعاصي على الفرد: من ذلك: " قلة التوفيق، و فساد الرأي، و خفاء الحق، و فساد القلب، و خمول الذكر، و إضاعة الوقت، و نفرة الخلق، و الوحشة بين العبد و بين ربه، و منع إجابة الدعاء، و قسوة القلب، و محق البركة في الرزق و العمر، و حرمان العلم، و لباس الذل، و إهانة العدو، و ضيق الصدر، و الابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب و يضيعون الوقت، و طول الهم و الغم، و ضنك العيش، و كشف البال. كل هذا من آثار هذه المعاصي، أفلا يشعر الواحد منا ببعضها؟! أفلا ينقبض يوماً صدرك و يعلوك الهم و يركبك الغم؟! أفلا تجد يوماً أنك تريد أن تحفظ فتحرم الحفظ؟ أفلا ترى يوماً أن عدواً قد سلط عليك، أو أن سفيهاً قد اجترأ عليك؟!
و السلف رحمهم الله كانوا يردون كل شيء يقع لهم إلى الذنوب التي وقعت منهم، إنه فقه إيماني بصير يجعل كل شيء مرده إلى قول الله سبحانه و تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } [آل عمران-165]، فنحن إنما نؤتى من قبل أنفسنا، و من زيغ قلوبنا، و من تحول نياتنا، و من سوء سلوكنا، و من فلتات كلماتنا، و من نزغات شهواتنا، و من خيانة أبصارنا، إنما نؤتى و نحرم و نعاقب من مثل هذه المعاصي، فالمسلم الحق رغم وقوعه في المعصية إلا أنه يستشعر أثرها، و لذلك الذي يدرك الأثر يوشك -بإذن الله عز وجل- أن يطلب يوماً خلاصه من هذا، فالذي يعرف سبب المرض كالزكام الذي يحل به أو سبب الحساسية التي تقع له، و لو تحملها مرة و ثانية فإنه بعد فترة سيطلب العلاج، و يلتمس البرء من هذا، أما الذي لا يستشعر ذلك من أصحاب الغفلة أو الكفر -نسأل الله السلامة- فإنه لا يطلب علاجاً؛ لأنه لا يرى ضرراً، و لا يستشعر مرضاً.
المعصية و الاضطراب النفسي
يمكن تلخيص طريقة ابن القيم رحمه الله في جانب العلاح بعد وقوع الاضطراب النفسي بسبب المعصية و جانب الوقاية قبل وقوع الاضطراب النفسي فيما يلي:
العلاج الديني
الأول: إصلاح المشاعر
و في هذا تحدث مُحَسِّناً لمشاعر الخير مُبْدِياً لجمال الفضيلة و مقبحا للانحراف و موضحا شؤم المعصية و سوء عاقبتها، و هذا كله من أجل إصلاح مشاعر الشخص و تقويمها، لأن مشاعره إذا نفرت من سلوك ابتعد هو عنه، و إذا مالت إلى سلوك سعى حثيثا إليه.
ثانيا: إصلاح الأفكار والاعتقادات
و في هذا يحاول ابن القيم أن يقنع الشخص بسلامة سلوك معين و خطأ آخر، و يخاطب في هذا عقله مقدما له جميع الحجج العقلية و موردا الأدلة النقلية (نصوص القرآن و السنة النبوية) التي تؤيد صحة السلوك الذي يدعو إليه (و هذا ما لمسناه في تناوله للسلوك و حوال النفس أعلاه).
ثالثا: مراقبة الخواطر و إصلاحها
و الخواطر عند ابن القيم مقدمة للإرادة و العزم، و الخواطر متى استقامت فأحبت الخير و نفرت من الشر و الخطأ و تأيد ذلك بقناعة فلن تتحرك إرادة العبد حينئذ إلا نحو الخير فيعزم على فعله، و الإرادة هي المسئولة عن التحكم في الفكر الذي يقوم بمعالجة الخواطر العارضة في الذهن، و الخاطرة متى ما عرضت في الذهن ولم يعالجها الفكر فإنها تزول و لا يكون لها أثر نفسي، يقول ابن القيم: " فإذا دفعت (الخاطر) الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، و إن قبلته صار فكرا جوالا، فاستخدم الإرادة فتساعدك هي و الفكر على استخدام الجوارح ".
و انسجاما مع هذا المنهج في الإرشاد النفسي اعتنى ابن القيم بأثر الأفكار و الخواطر في السلوك، و رأى أنها مبدأ كل عمل اختياري و علم نظري و أن علاج السلوك يبدأ منها، و يقول ابن القيم في ذلك: " و أما الخطرات فنشأتها أصعب فإنها مبدأ الخير و الشر و منها تتولد الإرادة و الهمم و العزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه و قهر هواه، و من غلبته خطراته فهواه و نفسه له أغلب، و من استهان بالخطرات قادته قسرا إلى الهلكات، و لا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير منى باطلة كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ".
و عند دفع الخواطر و إحكام سيطرة الإرادة على الجوارح، يأتي الصبر عن المعصية قوة مساندة للإرادة، و لذلك يقول ابن القيم: " ذُكر للصبر عن المعصية سببين و فائدتين: أما السببان فالخوف من لحوق الوعيد المرتب عليها، و الثاني الحياء من الرب تبارك و تعالى؛ أن يستعان على معاصيه بنعمه، و أن يبارز بالعظائم، و أما الفائدتان: فالإبقاء على الإيمان، و الحذر من الحرام ".
الإقلاع عن المعصية
قال ابن القيم رحمه الله: " الذنوب جراحات، و رُبَّ جرح وقع في مقتل " (كتاب الفوائد).
استعظام الذنب يتولَّد منه لدى صاحبه استغفار و توبه و بكاء، و ندم و إلحاح على الله بالدعاء، ثم يتولد الدافع القوي الذي يُمكن صاحبه من الانتصار على شهوته و السيطرة على هواه.
فالعلاج الشافي الناجع الذي لا يتجدد بعده المرض و لا تستفحل معه العلة هو العلاج القلبي الإيماني الذي يستأصل حب الشهوة المحرمة، و يقضي على لذة المعاصي الآثمة من القلب، فيطمه عنها.
فإذا أقلع العاصي التائب عن معصيته فإنه لا يبقى خالياً و لا فارغاً، و إذا ترك المعاصي فإن كل ما يطلبه من لذة سيجده في الطاعة، و كل ما يطلبه من استفراغ الطاقة و القوة سيجده في الطاعة، بل إنه ينتهي العمر و تعجز الطاقات عن أن تبلغ المدى الأعظم الأكمل الذي تتوق إليه نفوس المؤمنين في طاعة خالقها و مولاها سبحانه و تعالى، و ولذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: و من يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، و من عصاني فقد أبى) [رواه البخاري عن أبي هريرة].
و من الأمور المعينة على ترك المعصية و هو أمر مهم: تحطيم أدوات المعصية أو (أصنام الفجور)؛ لئلا تنزع النفس إليها مرة أخرى، و هذا أمر معروف، فإن تصور الشيء من أعظم ما يجعل في النفس وجوده و شخوصه، و لذلك فإن الذي يجعل الناس يقعون في المعصية اليوم هو أنهم يرونها بأعينهم، و يسمعونها بآذانهم، فكلما وجدت صورة المعصية و آلتها كلما كان ذلك مانعاً أو حائلاً من استمرار التوبة و البعد عن المعاصي، و لذلك قال ابن القيم: " إطلاق البصر ينقش في القلب صورة المنظور، و القلب كعبة و المعبود لا يرضى بمزاحمة الأصنام " و يقول الله سبحانه و تعالى: { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [الفرقان-43].
قال أحد الكتاب: فمطرب يحطم آلات الطرب، و رسام يمزق اللوحات، و مراهق يحرق المجلات و الصور الداعرة، و مدمن يكسر زجاجات الخمر و يحرق المخدرات، و مُرَابٍ يسحب أموال الربا ليفرقها، و متبرجة تحرق ثيابها كلها -أي: ثياب التبرج- صور تتكرر لما كان من فعل إبراهيم عليه السلام و محمد صلى الله عليه و سلم في تحطيم هذه الأصنام (الشيخ علي بن عمر بادحدح).
الوقاية من المعصية
صنّف ابن القيّم -رحمه الله- أسباباً كثيرةً تُعين المرء على تجنّب المعاصي حتى يتركها و يتقي شرها، و فيما يأتي ذكر البعض منها:
- علْم الإنسان بقُبح المعصية، و أنّ تحريمها ما جاء إلّا لدنائتها، و شناعتها، و بالابتعاد عنها يصون المرء نفسه عن الدناءة و الرذيلة.
- الحياء من الله تعالى، و من مراقبته، فمن استيقن مراقبة ال��ه الدائمة له، استحيا أن يصدر منه أفعالاً لا تصحّ.
- تذكّر فضائل الله تعالى و نعمه على العبد، و إنّ أعظم النعم التي وهبها الله لعبده نعمة الإيمان، و مقابلة النعم بالمعاصي و الأعمال المحرمة، من الأسباب التي تؤدي إلى سلبها من العبد.
- الخوف من الله تعالى، و من عقابه، فإنّ الإنسان كلّما ازداد علمه و إيمانه، زادت خشيته من الله تعالى.
- حبّ الله تعالى، و هو أقوى محرّكٍ للطاعات، و اجتناب المعاصي، فإنّ المحبّ لمن يحبّ مطيعٌ، و كلّما ازداد الحبّ، ازدادت الطاعة و الاستقامة، و ندرت الأخطاء و المعاصي.
- تشريف النفس و تزكيتها، فالنفس إن زكت ترفّعت عن السقوط في الدنايا و الخطايا، و ابتعدت عمّا يحطّ من قدرها، و يخفض من منزلتها.
- استيقان المسلم بسوء عاقبة المعصية و شؤمها، فإن أدرك الإنسان أنّ المعصية ستجرّ عليه عواقب وخيمة؛ تركها، و لم يطمع فيها، و في لذّتها االمؤقتة.
- قِصر الأمل، فإنّ الإنسان في حياته كالمسافر الذي يمرّ مسرعاً، ثمّ ما يلبث أن يترك الدار التي استراح فيها، أو الشجرة التي استظلّ بظلّها، فعليه أن يتخفّف ممّا لا نفع في حمله، و يحرص أن يحمل معه ما يُعينه، و لا يطيل التسويف في أمره، فإنّه ما من شيءٍ له ضررٌ على الإنسان، كالتسويف و طول الأمل.
- التخفّف من فضول الطعام، و الشراب، و الملبس، و مخالطة الناس، فإنّ الأخطاء تتأتّى من الإسراف فضول كلّ ذلك.
- ثبات الإيمان في القلب، و هو الجامع الشامل لكلّ ما ذُكر، فكلّما قوِي إيمان العبد، كان صبره عن المعاصي أعظم.
Tumblr media
53 notes · View notes